مقالات
محمد الروح الواقفة
محمد المياحي مقيد الجسد في حجرة مظلمة، لكنه صار تجربة شاملة للوجود ذاته، تجربة تتجاوز قيود السجن الماثل أمامه. أسوار الحوثية وسجنها لا تستطيع أن تمحو جوهر محمد، أو أن تحجب روحا تعرف أنها أكبر من السجن وأكبر من السلالة التي وضعته فيه.
وجود محمد ذاته، حتى وهو في السجن، يهز الحوثية، يزعجها أن هناك من يقف أمامها، صامدًا، غير مكسور، غير مذعن. تريد أن تنزع منه داخله الحقيقي وتحيله إلى مجرد انعكاس لها. لكنها عاجزة عن انتزاع محمد من نفسه، ويظل هو واقفًا، لا يبرح من قناعاته وكرامته، وكأن سكونه العميق في سجن الحوثية يفضح هشاشة هيمنتها.
تريد السلالة المعزولة محو المياحي من العالم، وانتزاع قدرته على خلق معنى مختلف. لا يكفيها أن يخضع جسده، كونها لا ترضى بمجرد تمثيل الخضوع. تريد تذويب الروح ومحو كل شيء حقيقي بداخلك، حتى تظل أنت مجرد امتداد لها. تريد الحوثية أن تسيطر على السريرة والتفكير وأن تفرض معنى لحياتنا مطابقا لرؤيتها وهويتها المنبوذة.
لدى محمد من الروح وخلق المعنى ما يحيل السجن إلى حيث يصبح تجربة ومدرسة لفهم السلالة ومشروعها، ولتشريح قواها. تمديد فترة سجنه يعكس عجز الحوثية عن انتزاع ما تريده منه. عجزت تماماً عن كسر محمد في السجن الذي أصبح تجربة أخرى لمقاومتها ولفهم آلية هيمنتها.
قمعها ـ الحوثيةـ شديد، وهيمنتها العسكرية تبدو متينة، لكنها هشة، إذ يكفي وجود روح حرّة واحدة لتبدأ بنيتها المغلقة بالاهتزاز. المياحي موجود، يخلق معنى مختلفًا، ويُظهر أن كل محاولة حوثية للسيطرة على الإنسان من الداخل قابلة للفشل والعجز. بنيتها تقوم على محو كل وجود آخر، محو القدرة على التخييل والتفكير، وحين يظهر من يختلق معنىً خارج هيمنتها، تبدأ هذه البنية بالاهتزاز و"الإنهيلر"، حتى لو لم تلاحظ ذلك بوضوح.
يُظهر المياحي أن اكتمال القوة ورسوخها يحتاج لما هو أكثر من السيطرة العسكرية والمادية. توتر الحوثية يبدو واضحا أمام سكون محمد واستقلاليته الداخلية وقدرته على الوقوف صامدا أمام هيمنتها.
تظهر الحوثية عاجزة أمام كل إنسان يعرف قيمة ذاته الداخلية ويرفض تعريف نفسه من الخارج. محمد وهو في سجن الحوثية يحتقرها، وينتج منعة خارج إرادة القهر ويصنع حريته الأخيرة في الداخل.
الإمامة تنهج سياسة الاختطاف والإخفاء بوصفها محاولة لإلغاء المواطن كشخصية مرئية وفاعلة، ولإلغاء قدرته على التفكير والكلام والفعل بين الناس. إنها أداة سلالية لإزالة الإنسان من العالم وجعله بلا حضور وبلا ذاكرة.
تراهن الحوثية على الفصل التام بينك أنت والآخرين والعالم، لتخلق فراغًا داخليًا تستطيع التحكم فيه. تحاول بث الخوف وتدمير الثقة بين الناس، وتعطيل القدرة على اتخاذ موقف، ليصبح أي صمود معنوي صعبًا، غير متوقع، مهددًا لهيمنة السلالة التي تريد السيطرة التامة. المياحي يعرف تماماً أن هذا ما تريده السلالة، وأن مقاومته تبدأ داخليًا قبل أن تكون مرئية وعلنية وصاخبة.
تبدأ الحرية في الداخل. فيكتور فرانكل ـ في كتابه الإنسان والبحث عن معنى ـ يصف "الحرية الأخيرة" بأنها حرية اختيار الموقف الداخلي، التي لا يستطيع أي جلاد أو نظام فاشٍِ نزعها. الألم، والعزلة، تجارب تكشف قدرة الإنسان على مقاومة داخله، على تفسير ما يحدث له، وإلى خلق معنى من داخل الألم. يصبح الاختطاف اختبارًا للروح، ولإعادة اكتشاف الذات وحماية الكرامة الإنسانية.