مقالات
من الاجتهاد إلى الجمهورية(3)
استقى رجال حركة الأحرار، ورواد التنوير في شطري اليمن، ثقافتهم من مدرسة الاجتهاد اليمنية، وفكر مدرسة الاحياء العربية، اضافة إلى ما وصل إليهم من ترجمات لكتب مدرسة الأنوار الأوربية. وهذا ما يجعلهم بحق "ورثة ثقافة عقلية تحررية متعددة الحلقات" كما يقول الاستاذ عبدالودود سيف.
وجد رجال حركة الأحرار في اليمن منذ الثلاثينات، في اطروحات مدرسة الاجتهاد اليمني، الرافضة للمذهبية، والتعصب، والداعية لوحدة الأمة، وتماسك المجتمع، والحرص على تآلف الشعب، ما يحرك طموحاتهم، ويعزز رغباتهم، ويشجعها للمطالبة بتحقيق الاصلاحات في المجالات الاجتماعية، والتعليمية، والسياسية، ورفع المظالم النازلة بالشعب. فقد ساعدت افكار ائمة العلم المجتهدون في تقاربهم وانسجامهم، واذابة الفوارق فيما بينهم، أو التعصب للآراء والأفكار، بدوافع مذهبية، أو عرقية، أو مناطقية، مما سهل عليهم توحيد جهودهم في خوض النضال، وتشكيل التجمعات الوطنية، والاحزاب لمواجهة السلطة الإمامية، منذ مطلع القرن العشرين.
ولم يتوقف دور مدرسة الاجتهاد اليمني، وتأثيرها عند رواد الحركة الوطنية، المعارضين لسلطة الإمامة، في شمال اليمن آنذاك، بل امتد هذا التأثير إلى بعض السلاطين في جنوب اليمن قبل قيام ثورة 14 أكتوبر 1963م، ومن أولئك السلطان صالح بن غالب القعيطي ت 1956م سلطان حضرموت، الذي كان يسعى للتجديد، وتطوير سلطنته، ومحاربة الجمود والتقليد، فقام بتأليف كتاب «مصادر الأحكام الشرعية»)، "وهو تلخيص لكتاب «نيل الأوطار» للقاضي محمد بن علي الشوكاني، وكان الحامل للسلطان القعيطي على تأليف هذا الكتاب، وخروجه عن مألوف علماء حضرموت من التقيد بالمذهب الشافعي، أنه كان ميالا إلى التجديد والتحديث في وسائل ومناهج التعليم، وكان ينعى على علماء حضرموت جمودهم على المذهب وعدم التطلع إلى ما سواه، مما حدا به أن يضع هذا الكتاب." [اسهام علماء حضرموت في نشر الاسلام في الهند ص225]
ليس من الانصاف تعميم أحوال اليمن العلمية في الفترات التاريخية السابقة، مع ما كان سائدا مطلع القرن العشرين. ولو تم صبغ التاريخ بصبغة واحدة، ونظرنا إليه من منظور الوقائع السياسية، والرؤى الفردية، لما أصبح للتاريخ فائدة، أو جدوى، في تحريك الشعوب، وتحفيز المجتمعات. ومن هنا فإننا في قراءتنا المتواضعة حول مدرسة الاجتهاد اليمني، قد يتبادر إلى الذهن كيف لبلد كاليمن، وفي ظل أوضاع سياسية متقلبة، وصراعات على السلطة متكررة، وجمود قد استطاعت أن تخرج ذلك العدد الكبير من العماء والمجددين، والذين أثروا الحياة العلمية في البلد بمؤلفاتهم الزاخرة بصنوف المعرفة، وأثّروا بانتاجهم الفكري على رواد اليقظة العربية، خارج الوطن العربي، وامتد الى مناطق شاسعة من بلاد الإسلام، وغدوا في الداخل اليمني، عند مطلع القرن العشرين وحتى اللحظة، رموزا لوحدة الوجدان اليمني، وأحد العوامل الداعمة لتماسكه، وصناع التقارب بين ابناء الشعب من اتباع المذاهب المختلفة التي عجزت السياسة حينا في استغلالها، ونجحت في أحيان أخرى من استثمارها، للحفاظ على الوحدة الوطنية داخل البلد، كما جرى في بعض الفترات التاريخية.
لقد كان المجتمع اليمني بفئاته الشعبية والبسيطة، من فلاحين، وغيرهم، هم المحرضين، والمحافظين والداعمين للحراك العلمي، وذلك من خلال تقديم الحماية، والعناية، بهجر العلم، من خلال الأوقاف التي أوقفوها على التعليم، بعيدا عن السلطة السياسية القائمة في هذه المنطقة، أو تلك. وكان ذلك أحد الاسباب الداعمة لحرية الفكر، إضافة إلى اسباغ نظرة الاجلال والتقدير لحاملي العلم ورجاله. فكان المجتمع هو حاضن المعرفة، وحامي معاقلها أولا وأخيرا.
إن الوحدة الفقهية التي اسسها الشوكاني سهلت، وساندت التأسيس لوحدة النضال بين الشوافع، والزيود، قبل أن تظهر الاحزاب السياسية وبرامجها الحزبية. ثم كان مجيئ الأخيرة دافعا للاندماج والالتفاف حول البرامج.
على سبيل المثال فقد تم تأسيس جمعية الإصلاح في مدينة إب عام 1944م، من قبل عدد من المثقفين اليمنيين الذين ينتمون بحكم الولادة إلى مناطق المذهبين الشافعي، والزيدي، وكان غالبية أعضائها ممن يعدون من الطبقة الثالثة من تلاميذ الإمام الشوكاني، فهذا رئيسها القاضي والمؤرخ محمد بن علي الأكوع يقول في مقدمة تحقيقه لكتاب حياة الإمام الشوكاني المسمى كتاب التقصار: "فقد كنت وغيري من الزملاء وجميع أحرار اليمن ندرس كتب شيخ الإسلام ونتتبع آثاره وآثار زعماء الإصلاح المتقدمي الذكر فنحن نعتبر أنفسنا من أحفاد مدرسته ومدرسة الشيخ محمد عبده المصري وشيخه السيد جمال الدين الأفغاني والسيد محمد رشيد رضا وأمير البيان شكيب أرسلان والكواكبي وأضرابهم" [ محمد بن الحسن الشجني حياة الإمام الشوكاني المسمى كتاب التقصار ص24، تحقيق محمد بن علي الأكوع].
ان الامام الشوكاني بإنتاجه الفكري الضخم، ودعوته إلى الاجتهاد ونبذ التقليد، كان يقدم مشروعا لبناء وحدة الأمة، ومحاربة التعصب، ليس فقط لأبناء عصره، بل للأجيال القادمة، فالمذهبية، والتعصب، والتي بدورها مزقت وحدة الأمة الاسلامية، بشكل عام، والمجتمع اليمني بصورة خاصة. فقد كانت مدرسة التحرر اليمنية ترى في التقليد خطرا على المجتمع، ومدخلا لخلق الفرقة، يقول الشوكاني في كتابه القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد: " فَلَو لم يكن من شُؤْم هَذِه التقليدات والمذاهب المبتدعات إِلَّا مُجَرّد هَذِه الْفرْقَة بَين أهل الْإِسْلَام مَعَ كَونهم أهل مِلَّة وَاحِدَة وَنَبِي وَاحِد وَكتاب وَاحِد لَكَانَ ذَلِك كَافِيا فِي كَونهَا غير جَائِزَة" [القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد محمد بن علي الشوكاني ص40، تحقيق عبد الرحمن عبد الخالق، دار القلم – الكويت الطبعة الأولى، 1396]. وأكثر ما أنكره رواد الاجتهاد اليمني، وتصدوا له كان التمذهب الذي شتت المسلمين ومزق نسيجهم الاجتماعي، فلا يكاد رائد من روّاد الاصلاح في اليمن يتغفل عن التنبيه لمخاطر المذهبية والتعصب، يقول علامة اليمن المجتهد المطلق محمد بن اسماعيل الأمير في مقدمة كتابه منحة الغفار: "إن التمذهب منشأ فرقة المسلمين، وباب كل فتنة في الدنيا والدين، وهل فرق الصلوات المأمور بالاجتماع لها في بيت الله الحرام إلا تفرق المذاهب النابت عن غرس شجرة الالتزام، وهل سفكت الدماء وكفر المسلمون بعضهم بعضاً إلا بسبب التمذهب، فإن الله فرض على الخلق طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يوجب على الأمة طاعة واحد بعينه في كل ما يأمر به وينهى عنه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا قال غير واحد من الأئمة كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم." [مقدمة منحة الغفار حاشية ضوء النهار ص67 جزء1]. ظل علماء اليمن العظام، ينبهون لمخاطر المذهبية على وحدة الأمة الإسلامية، حيث يعتبر الامام الشوكاني أن "أعظم مَا أُصِيب بِهِ دين الْإِسْلَام من الدَّوَاهِي الْكِبَار والمفاسد الَّتِي لَا يُوقف لَهَا فِي الضَّرَر على مِقْدَار أَمْرَانِ أَحدهَا هَذِه الْمذَاهب الَّتِي ذهبت ببهجة الْإِسْلَام وغيرت رونقه وجهمت وَجهه وَقد قدمنَا فِي هَذَا مَا يسْتَغْنى عَن الزِّيَادَة إِن بَقِي لَهُ فهم يرجع بِهِ إِلَى الْحق وَيخرج بِهِ من الْبَاطِل" محمد بن علي الشوكاني أدب الطلب ومنتهى الأرب ص205، 206، تحقيق عبدالله السريحي].
ومن هنا فقد انطلق علماء اليمن للعمل على تجديد الفكر، وتعزيز فتح باب الاجتهاد، بهدف توحيد الأمة الاسلامية، عن طريق، تحرير العقلية الفقهية من ربقة التقليد، بحيث كان "الهدف الأساس الذي سخر الإمام الشوكاني له كل جهوده هـو إعادة تشكيل العقلية الفقهية بإقامتها على مبدأ الاجتهاد، وتحريرها من تبعية التقليد؛ سعيا منه إلى بناء وحدة فقهية بين المسلمين تواجه التمزق الاجتماعي والفكري الذي أفرزه التقليد. هـذه الوحدة التي تمثل في نظر الشوكاني أحد الحلول الضرورية للأزمة الحضارية التي عاشتها الأمة الإسلامية في عصره" [حليمة بوكروشة- "معالم تجديد المنهج الفقهي... أنموذج الشوكاني"، ص 294، "سلسلة كتاب الأمة"]. ولقد كان لمشروع التوحيد الفقهي الذي انجزه، على مستوى البلد الدور البارز في توحيد جهود الشباب الوطني، لاعادة بناء المنظومة المعرفية والسياسية بما يصونها من التمزق، ويعيد لحمتها، وسهّل فيما بعد ولادة الدستور، والالتفاف حوله، والقبول به والاحتكام إليه، من قبل كافة رجال الحركة الوطنية، باعتباره مرجعية أساسية واحدة لجميع اليمنيين.
كما كان يرى الإمام الشوكاني بأن المعرفة متطورة، وأنها ليست مقصورة على جيل دون آخر، ولا هي محصورة في فئة أو سلالة، بل هي متاحة أمام الجميع يقول الدكتور ابراهيم هلال في مقدمة تحقيقه لكتاب قطر الولي على حديث الولي: "والإمام الشوكاني يرى أن المقلدين بإصرارهم على التقليد، يخرجون على منطق الحياة، وسنن الكون، فإنهم قد ادعوا أن الله "قد رفع ما تفضل به على من قبلهم من الأئمة من كمال الفهم، وقوة الادراك، والاستعداد للمعارف. وهذه دعوى من أبطل الباطلات، بل هي جهالة من الجهالات، فإن نهاية العالم ليست كبدايته" بل هو سائر في طريق التطور والكمال، والنضج العقلي عن طريق ازدياد المعارف وتطورها"
وهو في هذا يتفق مع ديكارت الذي يرى "أن العلم متقدم دائماً نحو مرتبة نسبية من الكمال، وأن عظماء الرجال هم الذين يأتون دائماً بآراء جديدة"
[محمد بن علي الشوكاني قطر الولي على حديث الولي أو الطريق إلى ولاية الله ص24، تحقيق د. ابراهيم هلال، دار الكتب الحديثة، القاهرة]
وكان لكتاب الإمام الشوكاني التاريخي الذائع الصيت المعنون: البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، أكبر الأثر على شباب اليمن، مطلع الثلاثينات، حيث ترجم فيه لعدد من العلماء والمجتهدين داخل اليمن، وخارجها من بقية الأقطار الإسلامية، وقد أراد من خلال تناول أدوارهم، والتعريف باسهاماتهم، والتطرق إلى انتاجهم المعرفي، التأكيد بأن الأمة الإسلامية لم تتوقف عن التجديد، وأن باب الاجتهاد لم يغلق طوال فترات التاريخ، وعلى أن المعرفة متطورة، وأن العقل العربي قادر على الابداع، ومن خلال النماذج التي قدمها في كتابه، سعى الإمام الشوكاني ليحفز ابناء الإسلام على الابداع والتجديد، وأن بوسعهم تحقيق ذلك، ويرد على دعاة الجمود، الذين يسعون لترسيخ الجهل، عبر نشر المقولات التي تدعي زورا، باستحالة التجديد، والتفوق على المتقدمين، وهذه المقالة على حد قوله: "بمَكَان من الْجَهَالَة لَا يخفى على من لَهُ أدنى حَظّ من علم وأنزر نصيب من عرفان وأحقر حِصَّة من فهم لِأَنَّهَا قصر للتفضل الالهي والفيض الرباني على بعض الْعباد دون الْبَعْض وعَلى أهل عصر دون عصر وَأَبْنَاء دهر دون دهر بِدُونِ برهَان وَلَا قرَان على أَن هَذِه الْمقَالة المخذولة والحكاية المرذولة تَسْتَلْزِم خلو هَذِه الْأَعْصَار الْمُتَأَخِّرَة عَن قَائِم بحجج الله ومترجم عَن كِتَابه وَسنة رَسُوله ومبين لما شَرعه لِعِبَادِهِ وَذَلِكَ هُوَ ضيَاع الشَّرِيعَة بِلَا مربة وَذَهَاب الدَّين بِلَا شكّ" وهو بذلك يؤكد على أن مسار عجلة التاريخ تتحرك وتتقدم، فيقدم الحجج التي تشجع المجتمع الاسلامي، على التقدم، وأن التطور هو الحتمية التاريخية، ويضرب على ذلك بالعديد من الأمثال، في سير عدد من العلماء والمفكرين والقادة، وأن ما هو متاح أمام الأجيال في الزمن الحاضر، يفوق ما كان لدى المتقدمين عليهم، فهو هنا يحاول أن يبث الأمل في أنفسهم، ويمنحهم الثقة، بضرب الأمثال، ليردع دعاة الجمود، والتضليل، ويبطل مقولاتهم و" ليعلم صَاحب تِلْكَ الْمقَالة أَن الله وَله الْمِنَّة قد تفضل على الْخلف كَمَا تفضل على السّلف بل رُبمَا كَانَ فِي أهل العصور الْمُتَأَخِّرَة من الْعلمَاء المحيطين بالمعارف العلمية على اخْتِلَاف أَنْوَاعهَا من يقل نظيرة من أهل العصور الْمُتَقَدّمَة كَمَا سيقف على ذَلِك من أمعن النّظر فِي هَذَا الْكتاب وَحل عَن عُنُقه عرى التَّقْلِيد وَقد ضممت الى الْعلمَاء من بلغنى خَبره من الْعباد وَالْخُلَفَاء والملوك والرؤساء والأدباء"[محمد بن علي الشوكاني البدر الطالع بمحاسن ما بعد القرن السابع].
وفي الوقت ذاته فإن هذا الكتاب يعتبر محاججة معرفية، ترد على أصحاب الاطروحات التي تصم الفكر، والعقل الإسلامي بالجمود، والانحطاط، منذ القرن السابع الهجري. بل إن الانتاج الفكري لشيخ الاسلام الشوكاني في شتى العلوم الاسلامية، والرؤية التجديدية التي بثها في جميع مؤلفاته، تؤكد ايضا على حيوية الفكر الاسلامي، وأصالته وتجدده.
خلال منتصف الأربعينات، وتحديداً، عام 1944م، وصل إلى مدينة عدن، عدد من الأحرار، قادمين من شمال اليمن، هربا من بطش الإمام يحيى، وولي عهده أحمد، وساعين لتشكيل معارضة، تستهدف العمل من أجل تغيير الأوضاع في البلد.
التقت طلائع الأحرار اليمنيين في مدينة عدن، من كل ربوع الوطن، وكان أفرادها ممتلئون بروح التجديد، والتغيير، ففيهم ورثة أفكار مدرسة الاجتهاد اليمني، وكان رجال التنوير في عدن، امثال الاستاذ محمد علي لقمان، واحمد محمد سعيد الاصنج من دعاة النهضة، ورواد التنوير الأوائل المستندين على افكار الافغاني والامام محمد عبده والكواكبي وشكيب ارسلان، ومعهم طلاب البعثات اليمنية التي خرجت للدراسة في الخارج، سواء في البلدان العربية أو الأوروبية، وهذه كانت على اطلاع بافكار رواد مدرسة الأنوار التي عرفتها أوروبا مطلع العصور الحديثة.
وهناك في مدينة عدن تلاقحت الأفكار التجديدية، وأسهمت في ميلاد حركة وطنية، شكلت الأساس الجديد لتوحيد النضال في اليمن شمالا وجنوبا، وقد كان طلائع رجال التنوير اليمنيين من ابناء مدينة عدن، على اطلاع بانتاج الفكر العربي، أو ما يسمى فكر النهضة العربية، وعلى علاقة بعدد من رجالها وقادتها، في مصر وبلاد الشام والمغرب العربي.
لقد تضافرت جهود المثقفين الموجودين في عدن، من مختلف مناطق اليمن، ومن ينتمون إلى مختلف الأسر اليمنية، من قحطانية وعدنانية، على السير نحو قيام سلطة سياسية، لا تستند الى مقولات المذهب في الحصر، وجعل الإمام هو محور الدولة، والسلطة، وقد نتج عن ذلك قيام ثورة الدستور عام 1948.