مقالات

من جديد حافظوا على إنسانيتكم

26/12/2023, 08:05:57

ما ألزمني قراءة كتاب «حافظوا على إنسانيتكم»، للصحفي الإيطالي فيتوريو اريغوني، ذي الاثنتين والعشرين مقالة، الرد العملي، والتكذيب لدعاوى الصهاينة والأمريكان، أن حرب الإبادة الحالية في غزة إنما هي رد على ما قام به الغزيون في الـ7 من أكتوبر. 

فالكتاب يوثق لحرب «الرصاص المصبوب»، التي شنها الجيش الإسرائيلي في العام 2008، واستمرت لعدة أسابيع. 

والواقع أن الاجتياحات الإسرائيلية لغزة لم تتوقف حتى بعد انسحابها الصوري عام 2005، وتحديدًا في 12 سبتمبر، أما معركة غزة ضد الاحتلال الاستيطاني فتعود إلى منتصف ثلاثينات القرن الماضي بقيادة كتائب عز الدين القسام؛ فالتلازم قائم بين الهجرة اليهودية، واستمرار الاحتلال الاستيطاني، والمقاومة الفلسطينية. 

يختار الصحفي الإيطالي اليساري، الآتي من تيار الفيلسوف الإيطالي والسياسي والمثقف غرامشي، المقامرة بالالتحاق بغزة في أغسطس 2008، ضمن حركة التضامن العالمية مع الشعب الفلسطيني. يكتب ويوثق وقائع حرب «الرصاص المصبوب» على غزة، ويكتب المقالات تحت دوي قصف الطائرات الإف 16، والمدافع، ومخاطر القنابل والقذائف، ويواجه الموت أكثر من مرة، ولكنه يواصل رسالته الإنسانية، والمأساة أن يتم اغتياله من قبل الدواعش المتأسلمين، وليس من قبل النازيين الجدد الصهاينة.

مقالته الأولى للصحيفة «مانيفستو»، بعنوان «غيرنيكا غزة»، يرصد فيها: في الأيام الأولى مقتل مئتين وعشرة، ويوثق ويصور الجثث الملقاة في فناء مستشفى الشفاء، ويرصد قصف المدارس، والمساكن، والأحياء، وهو نفس ما حصل ويحصل في حرب «السيوف الحديدية» الآن. ويختم المقالة المؤرخة في 27 كانون الأول - ديسمبر 2008 في ضوء المشاهدة: إنهم يريدون تحويل المكان إلى صحراء، ويسمونها عملية سلام.

يأتي صمت العالم المتحضر ليصم الآذان أكثر من أصوات الانفجارات، التي تغطي المدينة ككفن من الموت والإرهاب. ويتناول رائحة الفوسفور التي تملأ الهواء، بينما ترتجف الأرض بفعل زلزال الأرض المستمر. في المقالة الثانية بعنوان «الموت يبطئ»، يوثق استهداف مستشفى الشفاء، والمساجد، ويرصد الطائرات والحوامات في مدينة دون ملاجئ، ولا مجال للهرب، ويدون عدد القتلى لحظة بلحظة. فالضحايا 320، وأكثر من 1000 جريح، 60% منهم مصيرهم الموت. 

ويرى أن الصمت بطريقة أو بأخرى يعني تقديم الدعم للذين يقومون بالإبادة الجماعية. يصف انعدام الغذاء والماء والكهرباء (أسلحة إسرائيل المستمرة)، ويقول: "إن رؤية الجثث المبتورة والمقطعة إلى قطع صغيرة ستبقى كابوسًا يتكرر أمامي طيلة حياتي". 

في مقالته «الكارثة غير الطبيعية» يقول: "إن مدينة غزة قد وضعت على طول خط من الأرض لا يتعرض للزلزال، وأن إسرائيل هي الزلزال غير الطبيعي". ويرى - كواحد من دعاة اللاعنف، كشخص مسالم، فإنه يشمئز من أي نوع من الهجمات الفلسطينية ضد إسرائيل-: "لكننا هنا في أشد درجات الغضب من تلك الأقوال المأثورة القديمة والمضجرة، التي تقول: إن هذه المذبحة رد فعل إسرائيلي على إطلاق الفلسطينيين لتلك الصواريخ المتواضعة". 

ويضيف: "وللدقة، فإنه منذ العام 2002 حتى يومنا هذا، لم تؤدِّ صواريخ القسام سوى إلى مقتل 18 شخصًا، بينما خلال ساعتين سقط أكثر من مئتين وخمسين قتيلاً من المدنيين في مشافي غزة". 

ويتناول قصف الإف 16 سيارة إسعاف في جباليا، ومقتل الطبيب إيهاب المدهون، والممرض محمد أبو حصيرة في الحروب المتكررة منذ العام 2006. كان مجرد رفض الفلسطينيين للاحتلال، ولاحقًا المشاركة في الانتفاضة، وفيما بعد إطلاق الصواريخ المحلية، هي مبررات حروب الإبادة.

وفي مقالة بعنوان «أرواح تطالب بالعدالة» يروي: "بينما أكتب هذه الكلمات تكون الدبابات الإسرائيلية قد دخلت القطاع. الأرض تهتز تحت أقدامنا. السماء والبحر يتواطأون ضدنا، وعلى الأقدار معلقة مصير مليون ونصف من الناس الذين خرجوا من مأساة العيش تحت الحصار إلى العيش في كارثة. حرب تستهدف المدنيين".

ويأتي على حصار البحر؛ حيث لا يُسمح للفلسطيني التحرك إلا في مساحات وأماكن محددة. ويتحدث عن منع دخول الغذاء عبر الأسلاك الشائكة. ويتساءل بتحسر: "ولكن ما الفائدة من بيع الخبز الطازج في مقبرة؟!". يطرح الوقف الفوري لإطلاق النار قبل تزويد الباقين على قيد الحياة بأي شيء؛ "فالجثث لا تأكل؛ إنها توفر السماد العضوي للتربة". 

على مدى عدة أسابيع يدور حوار في مجلس الأمن من حول وقف لإطلاق النار، وتمتنع أمريكا. تتبنى الإمارات العربية المتحدة الحليفة لأمريكا وإسرائيل مشروعًا معتدلاً باسم المجموعة العربية، ويخرج بعد التعديلات المكرورة بصفة لا تتضمن وقفًا للحرب، ويضع وصول المواد الغذائية تحت رحمة إسرائيل؛ وهو ما ينطبق عليه قول فيتوريو: "ماذا يفيد بيع الخبز الطازج في مقبرة؛ فالجثث لا تأكل؟".

وكان الأجدر بالمجموعة العربية ألا تقبل بصيغة لا تنص على وقف الحرب، ويُكتفي بتمنية القتلى كذبًا بتوفير الغذاء والماء. يتحدث الناشط عن إبلاغه الإسرائيليين بالبقاء في غزة عبر مؤتمر صحفي بعد إخراج الأجانب -شهود العيان الوحيدين على المجزرة- ومنع الأطباء والممرضين الأمميين من الدخول. ويرصد وصول عدد القتلى إلى أكثر من 445 قتيلاً، وأكثر من 2300 جريح، والعديد من المفقودين.

ويشير إلى أنه أثناء كتابة التقرير قطعت قنبلة أجساد 63 من القاصرين إلى أشلاء، في حين أعلنت إسرائيل عن قتل ثلاثة من جنودها. تسأله مسنة فلسطينية: إن كانت إسرائيل تظن نفسها تعيش في القرون الوسطى، أم في العام 2009؟! ينشر رسالة موجهة من الجيش الإسرائيلي إلى أهالي غزة الأبرياء: "إن حربنا ليست موجهة ضدكم، بل ضد حركة حماس. إذا لم يوقفوا إطلاق الصواريخ ضدنا؛ فأنتم في خطر". 

فما إن ترفع سماعة التلفون للرد على المتصل، حتى تدهمك الرسالة، ويعلق الصحفي: "الجيش الإسرائيلي يعيش حالة توهم أن الفلسطينيين ليس لديهم عيون أو آذان؛ فلا عيون كي ترى أن القنابل تضرب أهدافًا مدنية على الأغلب: المساجد، والمدارس، والجامعات، والأسواق، والمشافي؛ ولا أذان كي تسمع صرخات الأطفال". 

ويتابع بدقة رصد أعداد القتلى في كل مقالة، ونسب القتلى من النساء والأطفال؛ وهي الأكثر. ويرصد منع الهلال الأحمر من الوصول إلى الضحايا، أو المسعفين.

 ويرى أن المعركة تدور بين جيش مدجج بأحدث الأسلحة وأكثرها فتكًا، وشعب أعزل. ويذكر أن العديد من النساء الحوامل يضعن مواليدهن قبل الأوان، ويسجل الكثير من الوقائع، والفارق مرعب بين الحربين 2008، والحرب الحالية.

ويرصد -كشاهد-: "رأيت قوافل لفلسطينيين يائسين يخلون جباليا، وبيت حانون، وكل مخيمات اللاجئين في غزة؛ للتجمهر في المدارس التابعة للأمم المتحدة، وكأنهم ناجون من زلزال، أو أنهم ضحايا تسونامي، والأهم من ذلك من دون أن تقوم ولو دولة عربية واحدة برفع أصبعها لإيقاف هذه المجزرة، أو أن ترسل طاقمًا طبيًا، أو توقف الإبادة الجماعية". 

ويتحدث عن معاناة الأطفال، ورؤيتهم الاشلاء، والأعضاء المبتورة، وتجميع المدنيين في مدارس، ثم سحقهم بالقصف، وتعرض المستشفيات لقصف الفوسفور الأبيض، ويدون بزهو وإعجاب صمود الفلسطيني، وتمسكه بأرضه، ومقدرته على التضحية. 

ويتحدث عن قتل تسعة من الأطباء وممرضين متطوعين منذ بدء الحملة، ويقوم الجيش بتجميع السكان أحيانًا في أماكن، ثم قصفهم. ويتابع باهتمام أعداد القتلى والجرحى يوميًا.

ويشير أن لدى الفلسطينيين ثلاث ساعات يوميًا لشراء حاجياتهم، ولدى الإسرائيليين واحد وعشرون ساعة لإبادتهم. ومعنى هذا أن حرب العامين: 2008، و2009 - «الرصاص المصبوب» - كانت تعطي ثلاث ساعات مهلة للحياة، أما حرب ما بعد 7 أكتوبر - «السيوف الحديدية» - فهي إعدام كلي وجماعي للحياة؛ فمن لم يمت بالقصف البري والبحري والجوي، فلا بد من تمويته بالتجويع والتعطيش والأوبئة الفتاكة والإظلام والقهر، ولا ساعة واحدة للنجاة. 

أما الحكام العرب فقد يكون تهديد نتن ياهو أرعبهم بتغيير خارطة الشرق الأوسط، وتحويل نكبة 48 إلى كارثة لا سابقة لها، فبعضهم ينتظر الكارثة، والكل يتحرك في المساحة التي لا تصطدم بالإرادة الأمريكية، وتنزل على حكمه بمستوى معين.

مقالات

عن الأحكام التي تسبق الجريمة

أظن أن النفس البشرية، حتى في أشد حالات نزوعها نحو الشر والجريمة، تبحث في الغالب عن مبررات لأفعالها، ومنها تلك الأحكام الذاتية التي يطلقها الإنسان على غيره، قبل أن يرتكب في حقهم جرما معينا، وهذه الأحكام غالباً لا تمت للقيم الإنسانية بصِلة

مقالات

ترامب ونتنياهو وصفقة القرن

ربما كانَ من الأنسب أن يكون عنوانَ هذا المقال «نتنياهو وترامب وصفقة القرن». فنتنياهو مؤلف كتاب «مكان بين الأمم»، والذي تُرجِمَ إلى «مكان تحت الشمس» هو الأساس. فـ«صفقة القرن»، وما تشربه ترامب منها، وصرّح به هي المبادئ الأساسية لـ«السلام من أجل الازدهار»؛ فمصدرها كتاب «مكان تحت الشمس»، وفي 28 يناير أعلن الرئيس الأمريكي، خلال مؤتمر صحفي مشترك مع رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، نص الصفقة.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.