مقالات
هؤلاء هم من خذل اليمنيين؟
كل متابع لحالنا سيكتشف الكثير من الأهوال، التي تقول وبدون مواربة إن اليمنيين بكل أطيافهم خُذِلوا تماماً من قِبل أولئك الذين عوَّل عليهم الكثير لانتشالهم مما يعانوه من ويلات الانقلاب الحوثي واستبداده، الذي صار مع الوقت انقلابين، بتوليد انقلاب ثانٍ في المناطق الجنوبية، ذات التعقيدات الجمّة، لخدمة أغراض تعزز من استدامة الأول في حياة الناس.
خُذلوا أولاً من التحالف الذي بدأ في مارس 2015 بقرابة عشر دول، وانتهى في أكتوبر 2021 بدولتين (فاجرتين)، هما السعودية والإمارات، اللتان صارتا تقتسمان مصالحهما، وتنفذان مخططات الغير في البلد الفقير والمُفكك، بفعل سياساتهما التدميرية، التي تتناقض كُلية مع الشعارات التي رفعتها مع أول دخول لهما في الصراع المسلح.
لم يُقضَ على الانقلاب في مهده كما وعدتا، بل صار الانقلاب يافعاً وقوياً برغبة من دولتي الفجور هاتين ومن رُعاتهما، بهدف القضاء على السؤال الوطني الكبير، الذي مُهَّد له بإنتاج توازن الضعف لكل القوى، حتى يسهل عليهما قيادة البلاد إلى وضع التذرر المريع، من أجل إعادة هيكلة نُخبه السياسية والاجتماعية والمهنية، وتحويلها إلى قوى تابعة لا تملك قرارها في استعادة دولة متماسكة قادرة على إدارة التنوّع قبل السلطة والثروة، دولة قويّة تنتصر لإرادة اليمنيين، لا لتخذلهم وتبيعهم الوَهم.
دولتا التحالف أنفقتا عشرات المليارات من الدولارات في سنين حربهما السبع العجاف، في شراء أسلحة فتَّاكة لم تصبْ الانقلاب في مقتل، بل أصابت الضحايا العُزَّل من اليمنيين، ودمّرت بنية بلدهم الهشة، وأنفقتها في شراء ولاءات النُّخب، وتشكيل المليشيات التي صارت جزءاً من مشكلة اليمنيين وتفكُك بلدهم.
ما أنفقته طيلة السنوات الماضية، ولم تزل تنفقه، الدولتان الغنيتان على شراء الأسلحة لحرب بلا أُفق أو حسم، والإنفاق على تشكيلات مسلَّحة خارج المؤسسة الرسمية، وعلى شراء الولاءات، كان يكفي للقضاء على الانقلاب وإعادة بناء دولة جديدة ببنية تحتية ومشاريع حيوية كبرى، لكنهما لا تريدان ذلك في الأساس. فالمخطط الأول لديهما هو تفكيك البلاد، والاستيلاء على مقدراتها، أو تحييدها على الأقل، حتى لا تتأثر مصالحهما من أي استقرار في البلد ذي الموقع الاستراتيجي المُهم (لا تريد الإمارات لموانئ اليمن الحيوية أن تصير جزءاً نشطاً من حركة الملاحة الدولية بآفاقها الجديدة التي تقودها دولة مثل الصين، التي لم تزلْ ترى في اليمن ممراً حيوياً في طريق الحرير الجديد الذي سيغيِّر وجه العالم اقتصادياً، مثلها مثل السعودية التي وضعت يدها على مناطق الثروة في مأرب وحضرموت، وتمددت إلى المهرة بحثاً عن موطئ قدم ومنفذ مُطل على بحر العرب، ليكون بديلاً مستقبلياً لمرور نفطها من المنطقة الشرقية الغنية بعيداً عن مضيق 'هرمز'، الذي تتحكم به إيران في حالة حدوث تعقيدات في المستقبل).
الشرعية بدورها خذلت اليمنيين بما هو أفظع وأدمى من التحالف، لأن التعويل عليها كان كبيراً في الانتصار لليمنيين على طريق استعادة دولتهم المختطفة، غير أن الأيام أثبتت أنها لم تكن غير أداة من أدوات التحالف التي أوصلت البلاد إلى حالة التشظّي المريع، والسبب في ذلك أن بنيتها الهلامية الرجراجة وفساد مكوناتها، وتعدد ولاءات الفاعلين فيها (لقطر وتركيا والسعودية والإمارات)، جعلت منها فكرة استنفاعية كبيرة تعوِّل على استدامة الحرب، التي عظَّمت من مصالح رموزها؛ ففلسفة نظام صالح في تكوين الثروة: من فساد الوظيفة والأزمات والمتاجرة بالمواقف، هي التي تحكّم اليوم الشرعية في إدارة القضية اليمنية من فنادق المنفى.
لم يوقظها من سباتها الطويل تآكل الجغرافيا من تحت أقدامها، وحصارها من الانقلابيين، في آخر مرابع الحزب الذي يختطف قرارها (الاصلاح)، في مأرب وتعز، ولم تتحْ لأحد فرصة الدفاع عنها، وعن مشروعها الاستكلابي الفاسد، لأن آخر شيء تفكِّر به هو استعادة الدولة من الانقلابيين.
يدها ستمتد في كل مرّة إلى قاع الحصَّالة لسرقة كل ما فيها مثل أي لص بليد، وستترك اليمنيين لمصيرهم البائس، لأنها ستكون حينها قد رتّبت أوضاع منتسبيها الفاسدين وأُسرهم لسنوات طويلة قادمة في بلاد الله الواسعة، وسترمي باللائمة على المجتمع الدولي مثل كل عاجز خنيع إن لم ترْمها على الشعب الضحية والغلبان.
في سياق حديث عابر في المقهى، قال أحد الأصدقاء قبل أيام: إن شركات النفط، التي كانت تعمل في التنقيب والانتاج، وكذا الشركات والوكالات العاملة في اليمن كانت تستأجر بيوت المسؤولين اليمنيين بمبالغ باهظة، وبالعُملة الصعبة دون أن تستخدم هذه البيوت إلا فيما ندر، وكانت تمنحهم الكثير من الهدايا والامتيازات، حتى إذا أرادت تمرير مشاريعها الفاسدة لا تجد أمامها من يقول "لا" من هؤلاء المسؤولين، بل وتجد فيهم من يدافع عنها باستشراس خالص، وهذا الوضع يتطابق اليوم مع حال قادة الأحزاب المدنية المحسوبين على الشرعية، الذين اختاروا منافى النِّعمة الخضراء، والرضوخ لما يُملى عليهم من أولياء النِّعم، دون أن يبدُوا موقفاً منحازاً لقضايا الناس من تجاوزات الرُّعاة، والأنكى أنهم تركوا منتسبي أحزابهم في الداخل يقاومون الاستبداد والتنكيل والتجويع بشكل فردي، دون حماية، وتركوا فقراء هذه البلاد، الذين يتحدثون باسمهم، يطحنهم الغلاء والجوع بلا موقف واحد يدعم احتجاجهم في وجه فاسدي السلطة.
الميلشيات القروية والدِّينية والجهوية، التي استنبتتها قوتا التحالف ورُعاة الحرب في اليمن في: عدن، وحضرموت، والمخا، وتعز، ومأرب، لعبت الدور السلبي المُعيق لعملية إنهاء الانقلاب واستعادة الدولة، مثلها مثل بقية الأطراف المنخرطة في عملية الاستنفاع من حالة الحرب واستدامتها.
هؤلاء باختصار من خذل اليمنيين، وفاقم من مشكلاتهم على كافة الأصعدة، فلاهم استعادوا الدولة، ولاهم تركوا الشارع يقاوم بدون وصايا وقمع.