مقالات
وصايا المقالح ومكتبة مركز الدراسات!!
(1)
مرت، قبل أيام قليلة، أربعون يوماً على وفاة شاعر اليمن الكبير ورمزها الجمهوري والتنويري، عبد العزيز المقالح، وقبل أيام أيضاً مررت على مركز الدراسات والبحوث لإعادة كتب استعرتها من مكتبة المركز، لإعانتي على إتمام مادة عن الراحل الكبير عمر الجاوي في ذكرى وفاته الخامسة والعشرين، ومثل هذه الكتب بنسخها النادرة جداً (الصحافة النقابية في عدن، وحصار صنعاء، والزبيري شاعر الوطنية) لا يمكن أن تجدها، بعد خمسين سنة من طباعتها، إلا في مكتبة المركز وبحافظة خاصة يشرف عليها عبد الله الشرفي، الذي يقول إنه تعيّن فيها في الفترة ذاتها التي جاء فيها الراحل المقالح إلى المركز كنائب للأستاذ أحمد حسين المروني، في العام 1978م.
وإنه طيلة خمس أربعين عاماً بقي قريباً منه، ويجمعهما الحب الكبير للمكتبة، التي كبرت برغبة د المقالح، لتكون أهم مكتبة عامة في اليمن، تقدم خدماتها لجمهور القراءة والباحثين والمهتمين، تماماً مثلما رغب أن تكونه أيضاً المكتبة المركزية لجامعة صنعاء، حينما تولى رئاستها لعشرين عاماً.
بعد أربعة عقود صارت مكتبة المركز بملحق الدوريات فيها، وقسم الرسائل العلمية، أهم مكتبة عامة في البلاد بلا منازع، وبها قرابة 40 ألف عنوان، موزعة على 150 ألف نسخة موضوعة على الرفوف الحديدية العتيقة، واستطاعت، هذه المكتبة، الصمود والاستمرار في تقديم خدماتها للباحثين والقراء في أحلك الظروف وأشدها قسوة.
تجمعت محتويات المكتبة الورقية بعناوينها، التي تغطي كل حقول المعرفة، من الشراء المباشر من معارض صنعاء للكتاب - منذ المعارض الأولى التي نظمتها الجامعة مطلع الثمانينيات - أو شراء مؤلفات الكتاب والباحثين، أو من الإهداءات التي كانت تصلها بواسطة الدكتور المقالح، الذي كان يقتطع بعض وقته والدخول إليها للقراءة والكتابة في ركن منزو وبعيد -قبل أيام تم نقل كل مؤلفات الدكتور المقالح إلى المربع ذاته الذي كان به كرسي ومكتب القراءة خاصته داخل المكتبة - كان يعرف مواضع الكتب والخانات التي تحتويها في الممرات، وكأنه أمينها الفعلي وليس رفيق دربه عبدالله الشرفي، لهذا السبب بقي في عاميه الأخيرين مهجوساً بالخوف من تعرّض المكتبة لتجريف محتوياتها بالطريقة ذاتها التي تجرفت بها مكتبة الجامعة المركزية، ومكتبات كليات العلوم الإنسانية في جامعة صنعاء، وكان سؤاله الدائم للشرفي وموظفي المركز حين يزورونه في مسكنه عن أحوال المكتبة أولاً قبل أحوالهم وأحوال المركز.
قال لي صديق قريب (قادري أحمد حيدر) إنه تفاجأ ذات صباح باكر باتصال من منزل الدكتور المقالح لم ينتبه له، فشعر بالقلق، فليس من العادة أن يأتيه اتصال من المنزل بهذا الوقت. قال: وحينما اتصلت لاحقاً للاطمئنان، قالت ابنة المقالح إن والدها كان يريده لأمر هام، ولم يكن هذا الأمر المهم إلا توصيته بالمكتبة. قال قادري إن المقالح كان يرى المكتبة كواحد من أبنائه، ويخاف أن تتعرّض لأذى من أي نوع كان.
(2)
قال لي الشرفي إنه لم يعد شغوفاً بعمله منذ وفاة الدكتور، وإنه يرغب بالتقاعد خلال الفترة القادمة، بعد أن بلغ الثانية والثمانين من عمره.. أصبت بالرجفة حين أبلغني برغبته، فمكتبة مركز الدراسات بدونه لا يمكن أن تستمر، رغم أن خبرة معاونه، الصديق محمد علي زيد، صارت تؤهله لإدارة المكتبة والحفاظ عليها.
تربطني بمكتبة المركز كقارئ خمس وثلاثون سنة تقريباً، أي منذ كنت طالباً جامعياً، وتستهويني قراءة الروايات وكتب الشعر، التي كنت استعيرها بضمانة الصديق الراحل الشاعر توفيق سيف (توفيق القباطي)، الذي كان موظفاً بالمركز حينها، قبل أن تصير لي قائمة خاصة بالاستعارة، استقر رقمها عند (6) ، ولم أعرف غير الأستاذ عبد الله عبد الواحد الشرفي أميناً لها ومؤتمن أيضاً.
في يوليو 2020، كتبت عن "المكتبة كائنٌ ملتبسٌ ببهجة الحياة وغبارها"، وهي تحية لهذا الرجل ببنيته الصغيرة ووجهه الصارم الودود، أميناً للمكتبة، ولم أجد من هو أحرص منه على محتوياتها من الكتب والدوريات والرسائل العلمية، التي تودع في المركز من الفقد والتلف. إذ عمل منذ تسلّمه، في العام 1978، على الإضافة إلى محتوياتها من الكتب والمطبوعات، الكثير جداً، بالرغم من الصعوبات الكبيرة والكثيرة التي اعترضته.
في معارض الكتاب، كنت أراه مثل نحلة نشطة، يجمع العناوين في شتى مجالات المعرفة التي تحتاجها المكتبة، ومن كل الناشرين تقريباً، ويتعهد شخصياً بدفع فواتيرها قبل أن تصل مخصصات "وزارة المالية" الشحيحة لهذا الغرض. وكان يظل بعد ذلك لأشهر طويلة يتابعها في الأروقة البيروقراطية، حتى يظن الجميع أنه لن يكررها مرة أخرى، لكنه يفعل الأمر ذاته في المعرض التالي بكل حماس. لا يَمِّل ولا يتذمَّر من العمل الذي يحبه، وحتى اليوم لم يزل المركز مديناً له بمبالغ ليست صغيرة، كما قال، قام بتقديمها لشراء الكثير من العناوين التي أحسُّ وقتها أن قارئاً ما سيحتاجها، وعلى المكتبة واجب توفيرها له.
منذ تسعة أعوام لم تعد تقام معارض كتاب في صنعاء، التي كانت أحد المصادر الرئيسة لتزويد المكتبة سنوياً بالعناوين الجديدة، التي تجدد من شريانها، لهذا صار حينما يسمع الآن أن هناك كتابا جديدا صدر لأحد المؤلفين اليمنيين في هذه الظروف، يعمل بكل الوسائل للحصول على نسخ منه. وحدث معي قبل عام تقريباً {2019}، أنه سمعني أتحدث للدكتور علي محمد زيد بحماس عن كتاب وثائقي ألفه الدكتور "يحيى قاسم سهل" عن المجتمع المدني في عدن بين 1839- 1967، ولم يكن موجوداً في مكتبة المركز، فألحّ عبدالله الشرفي على أن أُحضره له لتصويره، وإضافته إلى محتويات المكتبة. وحين أقنعته بصعوبة تصويره لحجمه الكبير -963 صفحة- وغلافه المقوى، وأنه سيكون عرضة للتفكك عند تصويره، طلب مني التواصل مع المؤلف لتزويد المكتبة بنسخ منه، وفعلاً تواصلت بالدكتور يحيى سهل من تليفون المكتبة، الذي بدوره تحمس للفكرة وأرسل مع أحد أقربائه من عدن نسختين من الكتاب، ونسختين من مجمل مؤلفاته القانونية والثقافية لمكتبة المركز امتلأت بها حقيبة متوسطة. أما الكتب النادرة وغير المتوفر في المكتبة، فيعمل عبدالله بكل الطرق على تصوير نسخ مطابقة منها، حتى تكون في متناول القراء والباحثين.
يحتفظ عبدالله في خزانة خاصة بالكتب النادرة، وذات النسخة الواحدة ولا يعيرها إلاّ للموثوقين جداً، ولا ينسى أن يسترجعها مهما كلفه الأمر، حتى لو وصلت إلى حد الخصومة مع من أعارهم من ذوي المكانة من أصدقائه القريبين؛ فالمهم لديه أن تعود الكتب إلى رفوفها الأصلية ولا تبقى في رفوف المكتبات الشخصية للمستعيرين.
هو الآن { قد تجاوز} الثمانين من العمر - من مواليد محافظة ذمار في العام 1942- ومع ذلك لم يزل يحتفظ بحيويته كشاب فتي، وذهنية متقدة كعالم حساب. والمكتبة والكتب، بما تحمله من رائحة السنين وغبارها، هي من تجدد روحه كما قال، وإن اليوم الذي لا يحضر فيه إلى المركز والمكتبة، لسببٍ قاهر، لا يعدّها من أيامه الحميمة. الجميع يفتقدونه حين يغيب، ليس روّاد المكتبة والمتزودون منها فحسب، وإنما أيضاً أولئك الذين اعتادوا الاستدانة المالية منه على ذمة مستحقاتهم ومرتباتهم المقطوعة. لا يُرجِع أي شخص خائباً وخالي الوفاض إن جاء يطرق بابه، حتى أولئك الذين يهملون ديونه وقت استلامهم لمعاشاتهم، ويضطرونه إلى ملاحقتهم مثل "مُشارع" قليل حيلة وبائس."(*)
(*)https://www.khuyut.com/blog/07-27-2020-08-20-pm