تقارير
البحر الأحمر.. صراع السيادة على ممر العالم
لم يكن البحر الأحمر في يوم من الأيام بحرًا هادئًا كما ترسمه الخرائط، بل كان دائمًا مرآة للعواصف السياسية التي تهبّ على المنطقة.
فخلال فترة تاريخه الحديث، كانت أمواجه تعكس صراعات القوى الكبرى، من قناة السويس إلى باب المندب، ومن مرافئ جدة إلى سواحل مصوّع.
إنه الممر الذي قال عنه المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي: «من يسيطر على البحر الأحمر يملك المفتاح الذي يفتح أبواب الشرق والغرب معًا».
اليوم، بعد أكثر من نصف قرن على تلك المقولة، يبدو البحر الأحمر أكثر توترًا من أي وقت مضى.
في مياهه تتقاطع مصالح واشنطن وبكين، وتتموضع الأساطيل الغربية والإسرائيلية، وتطلّ إيران من بعيد عبر وكلائها، بينما تتنازع الدول العربية نفسها على الجزر والموانئ والممرات.
لقد تحوّل البحر الذي كان طريقًا للتجارة والحج إلى ساحة للمواجهة على السيادة والموارد والمكانة الجيوسياسية، بل إلى مختبر تتشكل فيه ملامح النظام الإقليمي الجديد.
منذ القدم، كان البحر الأحمر محورًا للتاريخ الإنساني؛ فقد عبره الفراعنة في تجارتهم مع بلاد البونت، وسار عليه الرومان نحو الهند والصين، وأبحر فيه العرب لنشر تجارتهم وحضارتهم.
لكن مع اكتشاف النفط في الجزيرة العربية وتوسّع حركة الملاحة الحديثة، انتقل البحر الأحمر من الجغرافيا إلى السياسة، ومن التجارة إلى الاستراتيجية.
أصبح، كما تصفه تقارير الأمم المتحدة، «أحد أكثر الممرات البحرية حساسية في العالم، تمرّ عبره سنويًا أكثر من 20 ألف سفينة، تمثل نحو 12% من حركة التجارة العالمية».
- من بحر التجارة إلى بحر النفوذ
يمتد البحر الأحمر كممر مائي طويل، يربط المتوسط بالمحيط الهندي عبر قناة السويس شمالًا ومضيق باب المندب جنوبًا.
هذا الممر الذي يبلغ طوله نحو 2,250 كيلومترًا، صار اليوم الوريد البحري الأهم في العالم، تمرّ عبره ناقلات النفط والغاز من الخليج إلى أوروبا، وبضائع الصين والهند نحو أسواق الغرب.
تحيط به سبع دول من قارتي إفريقيا وآسيا: مصر والسودان وإريتريا واليمن والسعودية والأردن وجيبوتي، لكن البحر لم يعد ملكًا لجغرافيته.
فمنذ مطلع القرن الحادي والعشرين، تمددت فيه الأذرع الدولية: قواعد أمريكية وصينية وفرنسية في جيبوتي، تمركز إسرائيلي في الجنوب، نفوذ إماراتي وسعودي على السواحل والجزر اليمنية، وحضور إيراني متقطع عبر الميليشيات والوكلاء.
يصف تقرير لمعهد ستوكهولم للسلام البحر الأحمر بأنه «الممر الذي لم يعد يُعرف من يحرسه ولا من يملكه».
فقد تداخلت فيه مصالح الطاقة مع أمن الممرات، والمنافسة الاقتصادية مع الصراع الأيديولوجي، حتى بات كل حدث في اليمن أو السودان أو غزة يجد صداه على أمواج البحر الأحمر.
- تاريخ طويل من التحالفات والاختلافات
لم يكن البحر الأحمر يومًا مجرد خط أزرق على الخريطة، بل خيط يشدّ السياسة بالعقيدة والتاريخ بالجغرافيا.
فمنذ منتصف القرن العشرين، ظل هذا البحر شريانًا في قلب الصراع العربي–الإسرائيلي، وساحةً تتقاطع فيها إرادات القوى الكبرى من القاهرة إلى واشنطن، ومن موسكو إلى الرياض.
في ذروة الحرب الباردة، ومع اشتداد التنافس بين المعسكرين الشرقي والغربي، نظر كل طرف إلى البحر الأحمر كـ"ممر آمن إلى الدفء".
الولايات المتحدة أرادت تأمين طريق النفط من الخليج إلى أوروبا، فيما حلم الاتحاد السوفييتي بالوصول إلى المياه الدافئة عبر البحر العربي وخليج عدن. في تلك اللحظة، كما يروي السفير المصري محمد أحمد عوض، «كان البحر الأحمر بالنسبة للغرب طريقًا للبترول، وبالنسبة للشرق طريقًا إلى التاريخ».
ومع تصاعد الصراع العربي–الإسرائيلي في الستينيات، أصبح البحر الأحمر مسرحًا للمواجهة غير المباشرة بين القاهرة وتل أبيب.
فعندما أغلقت مصر مضيق تيران في وجه الملاحة الإسرائيلية في مايو 1967، كان ذلك الشرارة التي أشعلت حرب الأيام الستة.
وفي أكتوبر 1973، كان البحر نفسه أحد مفاتيح النصر العربي الجزئي، إذ عبرت القوات المصرية قناة السويس بينما كانت الأساطيل الأميركية والسوفييتية تتحرك على جانبيه، في مشهد وصفه المؤرخ العسكري أنتوني كوردسمان بأنه «أول اختبار حقيقي لتوازن الردع بين واشنطن وموسكو خارج أوروبا».
من رحم تلك الحروب، ووسط شعور عربي بضرورة حماية الممر من الاختراق الأجنبي، وُلد عام 1974 أول تجمع للدول العربية والأفريقية المطلة على البحر الأحمر، بمبادرة سودانية ضمّت مصر والسعودية واليمن الشمالي والسودان.
كان الهدف المعلن “تعزيز التعاون الأمني والاقتصادي”، لكن الدافع الحقيقي كان الخوف من تمدد إسرائيل نحو الجنوب عبر ميناء إيلات ومحاولاتها فتح خطوط بحرية باتجاه شرق إفريقيا.
غير أن تلك المبادرة انهارت بعد كامب ديفيد 1978، حين تفكك الإجماع العربي وتفرّقت الجبهات.
وفي التسعينيات، حاولت اليمن عبر تجمع صنعاء للتعاون (1996) إحياء الفكرة بمشاركة السودان وإثيوبيا والصومال، لكنها اصطدمت ببرود سعودي ورؤية إقليمية ضيقة، فانطفأ المشروع سريعًا.
ثم جاءت الرياض عام 2020 لتعيد صياغة الفكرة وفق منظورها، فأطلقت مجلس الدول العربية والأفريقية المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن.
قُدّم المجلس كإطار للتنمية، لكن تقريرًا لمركز تشاتام هاوس البريطاني وصفه بـ«إعادة ترتيب للمشهد البحري بما يضمن القيادة السعودية ويحتوي الأدوار الإماراتية والتركية والإيرانية».
هكذا انتقل البحر الأحمر من كونه ممرًا للتضامن العربي إلى ميدان لتعدد المراكز وتضارب الأجندات.
وتحوّل حلم الأمن الجماعي إلى واقع التحالفات المتقلبة، حيث كل دولة ترى البحر من زاوية مصالحها الخاصة.
- التنافس الدولي على البحر الأحمر
منذ أن انتهت الحرب العالمية الثانية، لم يعد البحر الأحمر بحرًا محليًا، بل صار — كما كتب هنري كيسنجر — «خطًا في خريطة الطاقة أكثر منه خطًا في الجغرافيا».
ورثت الولايات المتحدة النفوذ البريطاني بعد أزمة السويس 1956، واعتبرته جزءًا من “الحزام الأمني الغربي”.
في المقابل، كان الاتحاد السوفييتي يرى فيه طريقه إلى المياه الدافئة.
أنشأ السوفييت قواعد بحرية في عدن ومصوّع، وزوّدوا حلفاءهم في مصر واليمن الجنوبي بالسلاح والخبراء.
وفي حرب أكتوبر 1973، اصطفت الأساطيل الأميركية والسوفييتية على طرفي البحر، في مواجهة غير معلنة وصفها باحثو "فورين أفيرز" بأنها «التجربة الأولى لحرب باردة بحرية خارج أوروبا».
انهار الاتحاد السوفييتي في التسعينيات، فانسحب الروس وتركوا الساحة للأميركيين.
لكن الفراغ لم يدم طويلًا، إذ سرعان ما ملأته الصين عبر استراتيجيتها الاقتصادية الجديدة.
ففي عام 2013 أعلن الرئيس الصيني شي جين بينغ مبادرة الحزام والطريق، التي جعلت من البحر الأحمر العمود البحري لطريق الحرير الحديث.
وفي 2017، أنشأت الصين أول قاعدة عسكرية لها خارج أراضيها في جيبوتي، على مقربة من القواعد الأميركية والفرنسية.
بحسب مركز CSIS، «تبحث الصين عن موانئ يمكن تحويلها إلى قواعد عند الحاجة».
ومن هنا، جاء القلق الأميركي، فبدأت واشنطن بتشكيل تحالفات بحرية باسم "حماية الملاحة"، لكنها في جوهرها تحالفات لاحتواء التمدد الصيني.
أما إسرائيل، فقد وجدت في التطبيع بعد 2020 فرصة للعودة إلى البحر الأحمر عبر تعاون أمني واستخباراتي مع الإمارات والسعودية.
وفي 2021 كشفت تقارير عن محطة مراقبة إلكترونية إسرائيلية–إماراتية في سقطرى، ضمن مشروع “الحزام الأمني الجنوبي” الذي يربط البحر الأحمر بالمحيط الهندي.
وبذلك أصبحت إسرائيل شريكًا فعليًا في منظومة الأمن البحري الإقليمي، بعد أن كانت محاصرة بميناء إيلات لعقود.
وبين واشنطن وبكين وتل أبيب، يظل البحر الأحمر — كما وصفه تقرير "راند" لعام 2022 — «المختبر الأكثر نشاطًا لإعادة تشكيل موازين القوة في الشرق الأوسط».
- البحر الأحمر بعد 2015 – الجغرافيا التي تحولت إلى جبهة
انقلاب ميليشيا الحوثي وانهيار الدولة اليمنية، وما تلا ذلك من تدخل للتحالف السعودي الإماراتي في اليمن عام 2015، غيّر كل شيء.
تحولت الجغرافيا اليمنية من شريط ساحلي إلى جبهة استراتيجية متحركة تتقاطع فيها مصالح الخليج والغرب والشرق.
تحت غطاء “التحالف العربي”، سيطرت الإمارات على ميون وسقطرى والمخا وذو باب، وأنشأت قواعد بحرية وجوية وأذرعًا محلية.
بينما ركزت السعودية على ميدي والحديدة لحماية حدودها ومشاريعها النفطية.
في المقابل، استخدم الحوثيون الساحل الغربي كورقة ضغط، مهددين الملاحة بالصواريخ والطائرات المسيّرة.
في عام 2016 بنت الإمارات قاعدة جوية في جزيرة ميون، بطول مدرج يتجاوز 3 كيلومترات، وبحلول 2018 كانت قد رسّخت وجودها في سقطرى.
أما السعودية فوسّعت قواعدها شمالًا لحماية مشروع نيوم وممرات النفط.
ومع تصاعد الهجمات الحوثية على السفن منذ 2023، أعلنت واشنطن تحالفًا جديدًا باسم “حارس الازدهار” يضم أكثر من عشر دول غربية.
لكن مراقبين في "أتلانتيك كاونسل" وصفوه بأنه «أداة لإعادة عسكرة البحر الأحمر أكثر منه مبادرة لحمايته».
وسط هذا الزحام الدولي، يبقى اليمن الخاسر الأكبر، فمن كمران إلى ميون، ومن المخا إلى الحديدة، تآكلت سيادته لصالح القوى الإقليمية.
تحولت الجزر إلى قواعد، والموانئ إلى أوراق تفاوض، والساحل إلى ساحة نفوذ.
- الحوثيون والبحر الأحمر.. الفاعل غير الدولتي في معركة السيادة
في خضم الصراع الإقليمي على البحر الأحمر، برزت ميليشيا الحوثي كأحد أخطر الفاعلين غير الدولتيين الذين أعادوا تعريف مفهوم السيادة في الممر البحري الأكثر حساسية في العالم.
فمنذ سيطرتهم على ميناء الحديدة عام 2015، لم يعد البحر الأحمر مجرد مسرح تتقاسمه الدول، بل ميدانًا مفتوحًا لجماعة مسلحة تمتلك أدوات تهديد عابرة للحدود.
حوّل الحوثيون الساحل الغربي إلى جبهة بحرية نشطة مستخدمين الألغام والزوارق المفخخة والطائرات المسيّرة بدعم إيراني، ونفذوا هجمات على سفن سعودية وإماراتية وتجارية.
وفي السنوات الأخيرة تطورت قدراتهم لاستخدام صواريخ باليستية مضادة للسفن، وهو ما جعل "مجموعة الأزمات الدولية" تصف ما حدث بأنه "تحوّل نوعي في عسكرة البحر الأحمر، وتحويله من تهديد محلي إلى تهديد دولي للملاحة العالمية."
أدت الهجمات إلى تدويل البحر الأحمر من جديد، فأرسلت الولايات المتحدة وبريطانيا سفنًا حربية، وشكّلت تحالف "حارس الازدهار"، بينما ارتفعت تكاليف التأمين البحري بنسبة 300%.
وهو ما جعل منصة "لويدز ليست إنتليجنس" تصف البحر الأحمر بأنه أصبح "منطقة حرب بحرية منخفضة الكثافة لكنها عالية التأثير الاقتصادي."
أربكت عمليات الحوثيين التجارة العالمية، فأكثر من 30% من السفن التجارية حولت مسارها، وارتفعت تكاليف الشحن بنسبة 60%.
داخل اليمن، تعطلت صادرات الأسماك وتضرر الاقتصاد الساحلي.
وبحسب تقرير البنك الدولي (2024)، فقد تسببت "الهجمات الحوثية في خفض حركة التجارة عبر البحر الأحمر بنسبة 25% في الربع الأول من العام."
استغل الحوثيون البحر كورقة تفاوض، وقدّموا أنفسهم كمدافعين عن فلسطين بعد حرب غزة، وكطرف لا يمكن تجاوزه في أي تسوية إقليمية.
وأشار تقرير لمعهد الشرق الأوسط (Middle East Institute) إلى أن الحوثي "أصبح لاعبًا في معادلة الأمن البحري الإقليمي، يوازن بين مصالح طهران والرياض وواشنطن."
بيئيًا، زرع الحوثيون ألغامًا بحرية تسببت في تدمير الشعاب المرجانية ومقتل الصيادين، كما هدد خزان صافر النفطي بأكبر كارثة بيئية في تاريخ البحر الأحمر.
وقالت الأمم المتحدة مطلع عام 2023 إن "الأنشطة العسكرية الحوثية تهدد بتدمير النظم البيئية البحرية الحساسة على طول الساحل الغربي."
بهذا، أصبح الحوثيون أول فاعل غير دولتي يغيّر معادلة الأمن في البحر الأحمر.
من جماعة محلية إلى طرف قادر على التأثير في حركة التجارة العالمية،
ومن صراع داخلي إلى معركة سيادة بحرية إقليمية أعادت تعريف ميزان القوة في الممر الذي كان حكرًا على الدول.
- استشراف المستقبل: البحر الأحمر بين الأمن والتنمية
يدخل البحر الأحمر العقد القادم على مفترق طرق؛ فقد يتحول البحر إلى حزام للتكامل الاقتصادي في الطاقة والنقل، إذا نضجت مشاريع طريق الحرير ونيوم وسواكن.
- سيناريو العسكرة المستمرة:
وهو الأرجح، مع استمرار المنافسة الأميركية–الصينية وبقاء الحرب في اليمن دون حل.
هناك من يرى أن السيطرة المقبلة ستكون عبر الذكاء الاصطناعي والمراقبة الإلكترونية، لا عبر المدافع.
لكن وسط هذه السيناريوهات، يظل اليمن هو القلب الغائب.
من دون دولة قوية تستعيد سيادتها البحرية، سيبقى البحر الأحمر ممرًا لغير أهله، وتظل جغرافيته منقسمة بين القوى.
منذ أن أُغلق مضيق تيران عام 1967 وحتى اليوم، ظل البحر الأحمر مرآة لتحولات القوة في العالم العربي.
وفي العقد القادم، سيتحدد مصيره بين الأمن أو الفوضى، بين التنمية أو العسكرة، وفق من يملك القرار فيه لا من يطلّ عليه.
إنه البحر الذي يربط ثلاث قارات، لكنه أيضًا البحر الذي يكشف هشاشة الدول المطلة عليه.
وفي حال استمرت لعبة النفوذ كما هي عليه، فسيبقى — كما هو الآن — بحرًا بلا لون واحد، تتنازعه الأساطيل، ويغرق في مياهه الضعفاء قبل غيرهم.