تقارير
من فقدان البصر إلى نيل الماجستير والدكتوراه.. كفيفات اليمن يقتحمن ميادين الدراسات العليا
“فقد البصر لم يكن نهاية الطريق، بل بدايته لأرى مستقبلاً مشرقًا”، بهذه الكلمات استهلّت مروى الحباري حديثها عن رحلتها منذ فقدانها للبصر، لتصبح اليوم نموذجًا للإصرار والنجاح، ورسالة أمل لكل النساء ذوات الإعاقة في اليمن.
منذ نعومة أظفارها، عاشت مروى تحديًا مضاعفًا؛ فقدت بصرها لكنها لم تفقد إرادتها في التعلم والمعرفة. وبرغم الصعوبات التي رافقتها منذ الصغر، وجدت في العلم نافذة تضيء لها الطريق نحو الاستقلال والتمكين.
تستعرض مروى لموقع “بلقيس” الصعوبات التي واجهتها خلال مسيرتها التعليمية، والتي بدأت عندما قررت أسرتها إلحاقها بإحدى المدارس الحكومية في أمانة العاصمة للصفوف الابتدائية؛ لكنها واجهت تنمرًا شديدًا خلال عامين دراسيين قضتهما، ما سلبها حقًّا مقدسًا هو التعليم.
تضيف مروى أنها واجهت في المدرسة صعوبة في التكيّف مع بيئة تعليمية تتطلب وسائل مساعدة خاصة، إضافة إلى تحديات التفاعل الاجتماعي في مجتمع يفتقر إلى التسهيلات اللازمة لذوي الإعاقة البصرية.
ومع ذلك، لم تسمح مروى لأي عائق أن يوقفها، بل اعتبرته دافعًا لمواصلة السير نحو الهدف. بعد ذلك التحقت بمدرسة الشهيد فضل الحلالي للكفيفات التابعة لجمعية الأمان بصنعاء، ومن هناك بدأت انطلاقتها الحقيقية.
التعليم بوابة التغيير
واصلت مروى تعليمها الأساسي والثانوي والجامعي بتفوّق، لتنال درجة الماجستير بامتياز بنسبة 95 بالمائة من مركز أبحاث التنمية الشاملة بجامعة صنعاء، يوم السبت الماضي، عن رسالتها الموسومة بعنوان: “التمكين الاجتماعي والاقتصادي للمرأة اليمنية ذات الإعاقة وعلاقته بالتنمية – دراسة حالة أمانة العاصمة”.
تكوّنت لجنة الحكم والمناقشة من الدكتور عبدالسلام أحمد الدار من جامعة تعز، والدكتور عبدالرزاق يحيى المروني من جامعة صنعاء، والأستاذة المشاركة إلهام محمد الرضا كمشرفة رئيسة، وقد أشادت اللجنة بالجهود الكبيرة التي بذلتها الباحثة والنتائج المتميزة التي توصلت إليها.
مروى الحباري، إلى جانب كونها باحثة ناجحة، تُعدّ إحدى الكوادر الفاعلة في جمعية الأمان لرعاية الكفيفات بصنعاء، حيث تعمل على تمكين النساء ذوات الإعاقة ومساعدتهن على تجاوز التحديات الاجتماعية والاقتصادية.
تقول مروى: “الإعاقة ليست نهاية الطريق، بل بداية لاكتشاف قدراتنا والإسهام في مجتمعاتنا، فكل امرأة كفيفة أو ذات إعاقة يمكنها أن تصنع فرقًا بالعزيمة والمعرفة”.
شهادة أساتذتها
وصفها الدكتور عبدالرزاق المروني، أحد أعضاء لجنة المناقشة، بأنها “واحدة من أبرز قصص النجاح والإلهام في الجامعة، لما تتحلّى به من إرادة فولاذية وروح إيجابية تؤثر في كل من حولها”.
وأضاف: “مروى حوّلت التحدي إلى فرصة، وأصبحت مثالًا يُحتذى به لكل طالب وطالبة، خاصة من ذوي الإعاقة”، مؤكدًا أن “رسالتها ترقى لأن تكون أطروحة دكتوراه، وليس فقط ماجستير”، نظرًا لما تضمنته من عمق وتعدد في المتغيّرات.
وأكدت الدكتورة إلهام الرضا، المشرفة الرئيسة على الرسالة، أن الدراسة تُعد نوعية كونها الأولى من نوعها محليًا وعربيًا، وقد كانت مروى نموذجًا ناجحًا للباحثة المتمكنة، تنجز مهامها بدقة عالية وفي الوقت المناسب رغم الصعوبات والتحديات.
أما الدكتور عبدالسلام الدار، فقد أوصى بطباعة الرسالة على نفقة الجامعة وتحويلها إلى كتاب لما تضمّنته من ثراء معرفي ومعلومات مهمة لفئة الأشخاص ذوي الإعاقة.
كما أوصى بتنفيذ القرار الجمهوري رقم (61) لعام 1999، القاضي بمنح الأشخاص ذوي الإعاقة نسبة 5% من وظائف الدولة، مؤكدًا استحقاق هذه الفئة للتمكين والمشاركة الفاعلة في المجتمع، مستشهدًا بجهود الباحثة مروى الحباري.
إقبال متزايد على الدراسات العليا
تُعد مروى الحباري واحدة من بين 30 طالبة كفيفة من جمعية الأمان للكفيفات في مرحلة الماجستير، وأربع طالبات في مرحلة الدكتوراه الملتحقات حاليًا ببرامج الدراسات العليا في عدد من الجامعات اليمنية، وفق ما أفادت به ليزا الكوري، رئيسة الجمعية.
وأكدت الكوري أن السنوات الأخيرة شهدت إقبالًا متزايدًا من الطالبات الكفيفات على الالتحاق ببرامج الدراسات العليا، مشيرة إلى أن هذا التوجه يعكس إصرارًا لافتًا لدى الفتيات ذوات الإعاقة البصرية على مواصلة التعليم وتحقيق طموحاتهن الأكاديمية.
وأوضحت أن الجمعية لديها خريجات يحملن درجتي الماجستير والدكتوراه، فيما يبلغ عدد الطالبات الملتحقات حاليًا ببرامج الماجستير نحو 30 طالبة، إلى جانب أربع طالبات في مرحلة الدكتوراه على وشك التخرج.
وبيّنت أن التخصصات التي تلتحق بها الطالبات الكفيفات تشمل مجالات متعددة، مثل إدارة الأعمال، والإعلام، والتربية الخاصة، والقرآن الكريم وعلومه، ومركز أبحاث التنمية الشاملة.
وأضافت أن جمعية الأمان تسهم في دعم الطالبات عبر صندوق رعاية وتأهيل المعاقين، الذي يقدّم مساعدات مالية رمزية لا تغطي التكاليف الفعلية للدراسة.
وأوضحت أن الصندوق يعتمد للطالبة في المرحلة التمهيدية 150 ألف ريال فقط، في حين تصل رسوم الماجستير إلى أكثر من 225 ألف ريال في بعض التخصصات، دون احتساب بقية المصاريف المرتبطة بالبحث والطباعة والمناقشة وغيرها.
وأشارت إلى أن الصندوق يقدم دعمًا ماليًا للكفيفات في مرحلة إعداد الرسالة بنحو 300 ألف ريال، ويصل إلى 700 ألف ريال للطالبة التي تختار موضوعًا يتعلق بذوي الإعاقة.
ورأت الكوري أن هذه المبالغ تظل أقل بكثير من حجم النفقات الفعلية، رغم أهميتها في تخفيف العبء على الطالبات.
وأكدت أن الجمعية تعمل على تسويق مشروع دعم الطالبات الكفيفات لدى فاعلي الخير والجهات المانحة لتغطية نحو 50% من تكاليف الدراسات العليا لكل طالبة، إلى جانب ما يقدمه الصندوق.
وقالت إن الهدف من ذلك هو تمكين الكفيفات من استكمال مشوارهن الأكاديمي دون أن تشكل الأعباء المادية عائقًا أمام طموحاتهن.
صعوبات ومعوقات
استعرضت رئيسة جمعية الأمان جملة من الصعوبات التي تواجه الكفيفات في مرحلة الدراسات العليا، أبرزها الضغوط المادية الكبيرة، إذ تحتاج الطالبة إلى باحث مساعد يقرأ لها المراجع ويطبع الأعمال، وهو ما يتطلب مكافآت مالية لا تتوفر لمعظم الطالبات.
وأشارت إلى ندرة الباحثين المتطوعين المؤهلين القادرين على تقديم المساعدة الأكاديمية بشكل فعّال، ما يفاقم من صعوبة إنجاز البحوث العلمية.
كما أكدت أن صعوبة الوصول إلى المكتبات العامة وغياب المواد الإلكترونية المخصصة للمكفوفين يزيدان من تعقيد المهمة، إذ تُحجب بعض المواقع أو تُفرض رسوم على تحميل الكتب.
وأوضحت أن المواصلات تمثل تحديًا آخر، إذ تضطر الطالبة الكفيفة لاستخدام سيارات أجرة خاصة مكلفة بدلاً من النقل العام، ما يجعل كلفة التنقل أحيانًا تفوق كلفة الدراسة نفسها.
ورغم كل هذه التحديات، أكدت الكوري أن الإقبال على الدراسات العليا بين الفتيات الكفيفات في تزايد مستمر، مشيرة بفخر إلى أن الجمعية تمكنت خلال الأعوام الماضية من تخريج عدد من الطالبات الحاصلات على درجات عليا.
التعامل اللامسؤول
تتحدث مروى بنبرة يغلبها الإصرار عن التحديات التي واجهتها خلال مسيرتها في دراسة الماجستير، مؤكدة أن الطريق لم يكن سهلًا، وأن الصعوبات كانت كثيرة ومتنوعة، لكن جمعية الأمان، كما تقول، كانت السند الحقيقي الذي شدّ أزرها ومدّ يد العون لها ولكل الطالبات الكفيفات اللواتي رفضن أن تكون الإعاقة حاجزًا أمام أحلامهن.
وتضيف مروى بأسى أن أكثر ما ترك أثرًا في نفسها هو التعامل اللامسؤول من بعض أعضاء هيئة التدريس في الجامعات، إذ يرفض بعضهم قبول تحكيم أو مناقشة بحوث الطالبات الكفيفات، في مشهد يختزل قسوة الواقع ونقص الوعي المجتمعي بحقوق ذوي الإعاقة.
ورغم ذلك، تؤكد مروى لقناة “بلقيس” أن هذه المواقف لم تُضعف عزيمتها، بل زادتها إصرارًا على المضي قدمًا، لتثبت أن فقدان البصر لا يعني أبدًا فقدان البصيرة ولا الطموح.
ودعت في هذا الصدد قيادة جامعة صنعاء، ممثلة بالبروفيسور محمد البخيتي، إلى إعادة العمل بالقانون الذي كان يمنح الطلاب ذوي الإعاقة مجانية الدراسة في مرحلة البكالوريوس وتخفيض 50% من رسوم الماجستير.
وأشارت إلى أن هذا القرار أُلغي من قبل رئيس الجامعة السابق الدكتور القاسم العباس، مؤكدة أن إعادة العمل به تمثل إنصافًا لشريحة ما زالت تكافح من أجل حقها في التعليم.
وفاء وامتنان
لم تنسَ الباحثة مروى الحباري في يوم تألقها تلك المرأة التي مهّدت الطريق أمام الكفيفات في اليمن، الأستاذة الراحلة فاطمة العاقل، مؤسسة جمعية الأمان لرعاية الكفيفات، التي أفنت عمرها في خدمة هذه الفئة، مؤمنةً بأن البصيرة أعمق من البصر، وأن التعليم هو النور الحقيقي الذي يُبصر به الإنسان طريقه في الحياة.
لقد أهدت مروى رسالتها إلى روح “أم الكفيفات” فاطمة العاقل، ووضعت صورتها في اللوحات التي زيّنت بها مدخل قاعة المناقشة، في رسالة تعكس الامتنان والعرفان، وكأنها تقول للراحلة: “ها هي بذرتك تكبر وتثمر، وها نحن نسير على خطاكِ.”
لقد تركت فاطمة العاقل بصمة لا تُمحى في حياة مئات الكفيفات، وبفضل ما زرعته من إيمان وإصرار، باتت الجمعية التي أسستها تحتضن اليوم جيلًا جديدًا من الفتيات اللواتي يحملن راية العلم والمعرفة.
وما نجاح مروى سوى ثمرة من ثمار تلك الغرسة الطيبة التي لا تزال جمعية الأمان تسقيها بالعزيمة والرعاية، لتثمر كل عام قصصًا جديدة من الأمل والتحدي والإنجاز.