تقارير
النفط تحت البارود.. تحولات شاقة وعسيرة في حرب اليمن
في تطور جديد، استهدفت مليشيا الحوثيين ميناء الضبة لتصدير النفط في محافظة حضرموت بطائرات مسيرة مفخخة، ووصفت تلك العملية بأنها بسيطة وتحذيرية الهدف منها حماية النفط اليمني من النهب، لكن تلك العملية لم تكن سوى "جس النبض" لدى مجلس القيادة الرئاسي والتحالف السعودي الإماراتي وربما المجتمع الدولي، لمعرفة مؤشر ردود الأفعال على عمليات كهذه ومدى نجاعتها في الظرف الإقليمي والدولي الراهن، الذي برز فيه سلاح النفط والغاز كعامل مؤثر في إعادة هيكلة الصراعات الدولية والإقليمية منذ اندلاع حرب روسيا على أوكرانيا، وما مدى إمكانية أو جدوى استثمار أزمة الطاقة للحصول على مكاسب تغطي صعوبات تحقيق مكاسب ميدانية من خلال الخيار العسكري.
وفي المقابل، أقر مجلس الدفاع الوطني، المتمثل بمجلس القيادة الرئاسي والحكومة الشرعية ومجلسي النواب والشورى، في اجتماع طارئ له، السبت الماضي، تصنيف مليشيا الحوثيين منظمة إرهابية، وفقا لقانون الجرائم والعقوبات، والاتفاقية العربية لمكافحة الإرهاب، والاتفاقيات والمعاهدات الدولية والإقليمية المُصادق عليها من قِبَل الجمهورية اليمنية، وحذر من التعامل مع المليشيا الحوثية ودعمها. وبين هذا وذاك، يسود ترقب شعبي لتطورات الصراع المقبلة، وما إذا كانت مليشيا الحوثيين ستواصل استهداف المنشآت النفطية أم لا، والردود العملية لمجلس القيادة الرئاسي على أي تصعيد حوثي جديد وما إذا كان لديه آليات محددة يترجم على ضوئها قرار تصنيف مليشيا الحوثيين منظمة إرهابية.
- النفط في قلب الصراع
لم تكن هذه المرة الأولى التي حضر فيها سلاح النفط في اليمن كعامل تهديد أو ابتزاز أو غير ذلك، بل فقد شهدت السنوات الماضية هجمات حوثية عدة على منشآت نفطية سعودية وإماراتية، وفي المقابل كان التحالف السعودي الإماراتي والحكومة اليمنية الشرعية يعيقون تدفق واردات النفط إلى مناطق سيطرة مليشيا الحوثيين عبر ميناء الحديدة، من حين لآخر، لإجبار المليشيا على تلبية مطالب معينة منها تخصيص عائدات النفط لصرف رواتب الموظفين المدنيين في مناطق سيطرتها رغم تكرار عدم استجابتها لذلك.
لكن سلاح النفط لم يكن حاضرا طوال الوقت، فمليشيا الحوثيين لا تهاجم المنشآت النفطية السعودية والإماراتية إلا عندما تتعرض لضربات قاسية أو تتكبد هزائم كبيرة، كما حدث في يناير الماضي، عندما فشلت معركة الحوثيين للسيطرة على مأرب، وطردهم من مديريات جنوبي محافظة مأرب ومن ثلاث مديريات بمحافظة شبوة والانسحاب من بعض المواقع في جبهات محافظتي تعز وحجة، أي أن هجمات مليشيا الحوثيين على المنشآت النفطية في السعودية والإمارات أشبه بهجمات انتحارية عندما يكون الوضع الميداني للمليشيا ميؤوس منه، فيتبع كل هجومي حوثي على منشأة نفطية للتحالف هجوم مضاد هستيري وعنيف، وتتبع كل ذلك تهدئة مؤقتة.
وبشأن ثروات النفط والغاز في اليمن، فقد خاضت مليشيا الحوثيين معارك عنيفة، منذ مطلع العام 2020 وحتى مطلع العام الجاري 2022، بدأتها بالسيطرة على الجبهات المهمشة في نهم شرقي محافظة صنعاء ومحافظة الجوف، لتمهد بذلك الطريق نحو مأرب وشبوة للسيطرة على مناطق ثروات النفط والغاز فيهما، والاقتراب من نفط حضرموت، لكنها لم تتمكن من تحقيق ذلك، ومُنيت بخسائر فادحة، رغم أن معاركها للسيطرة على منابع النفط كانت بإشراف مباشر من الضابط في الحرس الثوري الإيراني حسن إيرلو، الذي ظهر في صنعاء منتحلا صفة "سفير"، لكنه عاد إلى بلاده جثة هامدة وسط تكتم إيران والحوثيين على ملابسات وفاته.
- صراع منضبط
تمضي الحرب في اليمن وتداعياتها وفق قواعد وحسابات الفاعلين الأجانب التي من الصعب تجاوزها، ويزيد من إحكام تلك القواعد والحسابات، المتغيرات الإقليمية والدولية والصراعات المستجدة التي ألقت بتأثيرها على البيئة الدولية بشكل عام، وخصوصا مناطق الصراع والنزاعات، وبالتالي فالصراع في اليمن يمضي وفق الحسابات الخارجية أكثر من كونه يمضي وفق أهداف وإرادة الأطراف المحلية، لذلك فالتطورات التي شهدتها اليمن، منذ نهاية الهدنة في 2 أكتوبر الجاري وحتى الآن، لم تخرج عن تلك القواعد والحسابات، بما في ذلك هجوم الحوثيين على ميناء الضبة النفطي بحضرموت، وقرار مجلس الدفاع الوطني بتصنيف الحوثيين منظمة إرهابية.
لقد سبق أن هاجمت مليشيا الحوثيين منشآت نفطية سعودية وإماراتية، كما صنفتها من قبل كلٌّ من الرياض وأبو ظبي منظمة إرهابية، لكن كل ذلك لم يؤثر على مسار الحرب والصراع في اليمن، وظلت تطورات الأزمة وتفاعلاتها تمضي وفق قواعد وحسابات الفاعلين الأجانب، بصرف النظر عما إذا كانت هجمات الحوثيين على منشآت نفطية سعودية أو إماراتية تمثل خرقا للخطوط الحمراء، لأن معظم تلك الهجمات أشبه ما تكون بهجمات انتحارية يتفهمها المجتمع الدولي، بمعنى أن المليشيا الحوثية لا تهاجم المنشآت النفطية للتحالف إلا عندما تتلقى ضربات قاسية أو تتكبد خسائر ميدانية كبيرة وتشعر أن الوضع الميداني يقترب من مرحلة الخطر بالنسبة لها.
وبعد المتغيرات الإقليمية والدولية التي فرضتها حرب روسيا على أوكرانيا، وبروز أزمة النفط والغاز كأهم تداعيات تلك الحرب، ازدادت أهمية أمن مصادر الطاقة، فألقى ذلك بتأثيره على الحرب في اليمن، حيث تغيرت قواعد وحسابات الفاعلين الأجانب وبرزت الخطوط الحمراء بوضوح، ولا يمكن أن يتهاون المجتمع الدولي إزاء أي تهديدات لأمن الطاقة في مناطق صراع بين أطراف ضعيفة من السهل تأديبها وإخضاعها لمتطلبات تأمين المصالح الدولية.
وبما أن الهدنة في اليمن، خلال الأشهر الستة الماضية، كانت نتاج المتغيرات الجديدة، فقد ظنت مليشيا الحوثيين أن الظروف الدولية والإقليمية الراهنة تصب في مصلحتها، لا سيما أنها بلا أي التزامات إزاء المجتمع الدولي وبلا مرجعية أخلاقية توجه سلوكها وتعيد ضبط بوصلته، وأغراها أكثر حصاد المكاسب التي حققتها بفضل الهدنة، فاعتقدت أنه بإمكانها لي أذرع الجميع من خلال التهديدات التي أطلقتها فور انتهاء الهدنة ضد الشركات النفطية العاملة في السعودية والإمارات واليمن.
كما هددت المليشيا بالعودة للخيار العسكري، لكنها لم تستطع الإقدام على تصعيد كبير، واكتفت بشن هجمات محدودة على مواقع الجيش الوطني في جبهات داخلية عدة، وأخيرا أطلقت طائرات مسيرة مفخخة على منشآت نفطية في محافظتي حضرموت وشبوة، أي أن كل تصعيد مليشيا الحوثيين، منذ نهاية الهدنة وحتى الآن، هو تصعيد محدود يعكس عدم جرأة الحوثيين على تجاوز الخطوط الحمراء التي فرضتها المتغيرات الدولية والإقليمية الأخيرة خشية ردود أفعال ليس بقدرتها مواجهتها.
إذن، ما زالت المليشيا الحوثية تتحرك في مربع الابتزاز، وتوجيه فائض العنف والتهديد نحو الداخل، بيد أن ذلك لا ينفي احتمال وجود تفاهمات بين مليشيا الحوثيين وأطراف خارجية تعمل على حصر الصراع في اليمن، وتحييد أمن الطاقة في دول الجوار والملاحة الدولية من أي تأثيرات محتملة، بدليل أن هجمات الحوثيين على منشآت نفطية في شبوة وحضرموت جاءت بعد أيام قليلة من حوارات وتبادل زيارات بين وفدين حوثي وآخر سعودي إلى الرياض وصنعاء، فهل أقنعت السعودية مليشيا الحوثيين بحصر تهديداتها داخل اليمن وتحييد نفط المملكة مقابل تنازلات محددة أو رشى مالية؟
لا شك أن تهديد مليشيا الحوثيين لنفط اليمن لن يؤثر على أمن الطاقة العالمي، نظرا لمحدودية إنتاج البلاد من النفط والغاز، كما أن تعطيل ثروات البلاد هو هدف سعودي وإماراتي منذ بداية الحرب، وتعطيل عملية إعادة التصدير في الوقت الحالي يلبي رغبات الرياض وأبو ظبي، ويلبي أيضا رغبات الانفصاليين الذين يرون أن تعطيل موارد البلاد في الوقت الحالي من شأنه ادخار تصديره إلى ما بعد نجاح مشروعهم كما يأملون.
وفي الحقيقة فإن مثل هكذا تهديدات أو هجمات فإنها تحرج ما يسمى المجلس الانتقالي ورعاة مشروع الانفصال (التحالف السعودي الإماراتي)، لا سيما أن استهداف الحوثيين للمنشآت النفطية في حضرموت وشبوة تم بعد سيطرة مليشيا المجلس الانتقالي على محافظة شبوة واستعدادها حاليا للسيطرة على محافظة حضرموت، ومعروف أن الهدف من تلك الهجمات هو أن تتقاسم مليشيا الحوثيين مع مكونات الحكومة الشرعية عائدات تصدير النفط، وهنا تبرز معضلة جديدة: من الذي بإمكانه لي ذراع الآخر؟
تعد المنشآت النفطية المحلية هدفا سهلا للحوثيين، ذلك أن تداعيات الهجمات عليها ستظل في الإطار المحلي، لكن كيف سيتعامل المجلس الرئاسي أو مليشيا المجلس الانتقالي مع التهديدات الحوثية؟ وما مدى تأثير ذلك على ترتيبات التحالف السعودي الإماراتي لمشروع الانفصال؟ يبدو الحديث مبكرا في هذا الشأن، لا سيما أن مشروع الانفصال صعب تحقيقه في مثل هكذا ظروف، والأهم من كل ذلك هو أن التعقيدات المستجدة في مسار الأزمة اليمنية تعد نتاجا طبيعيا لعدم حسم الحرب ضد الانقلاب، وكلما طال أمد الحرب، ستتزايد تعقيدات الأزمة، وستكون كلفة الحسم مستقبلا باهظة للغاية.
- خيارات المجلس الرئاسي
ليس لدى مجلس القيادة الرئاسي خيارات متعددة للرد على تهديد مليشيا الحوثيين للمنشآت النفطية اليمنية، ذلك أن الرد الوحيد والفعال هو الحسم العسكري ضد الانقلاب الحوثي لتأمين مصالح البلاد ومصالح الإقليم والعالم بشكل دائم، وتحييد اليمن عن التوترات الإقليمية بفعل الصراع الطائفي الذي تغذيه إيران، لكن المجلس الرئاسي يعاني من الانقسامات البينية ومن هيمنة التحالف السعودي الإماراتي على مجمل الأوضاع في البلاد، وبالتالي فالمجلس الرئاسي والمكونات الممثلة فيه ليس بمقدورها التحرك خارج إرادة الرياض وأبو ظبي اللتين ما زالتا تعملان على إطالة مدة الحرب لأهداف شتى، ولعل أكثر ما فعله المجلس الرئاسي، تحت مظلة "مجلس الدفاع الوطني"، هو إقرار تصنيف مليشيا الحوثيين منظمة إرهابية.
بيد أن هذا القرار إذا لم تتبعه إجراءات معينة على أرض الواقع فلن يكون له أي صدى أو تأثير، وأول ما يجب فعله هو إلغاء كل الاتفاقيات الموقعة مع مليشيا الحوثيين، وإبلاغ السفارات اليمنية في الخارج بتعميم هذا القرار على كل الدول التي يوجد فيها تمثيل دبلوماسي للجمهورية اليمنية، وحشد الدعم الدولي للحرب ضد مليشيا الحوثيين باعتبار ذلك يندرج ضمن الحرب الدولية على الإرهاب، مع ما يستلزمه ذلك من إغلاق لمطار صنعاء وميناء الحديدة، ووضع آليات معينة للتخفيف من تأثيرات القرار على الوضع الإنساني للمدنيين في مناطق سيطرة الحوثيين، وفي مقدمة ذلك التعجيل بالحسم العسكري كضرورة إنسانية بالدرجة الأولى.
لقد كان قرار مجلس الدفاع الوطني بتصنيف مليشيا الحوثيين منظمة إرهابية الخيار الوحيد المتاح للرد على هجمات الحوثيين على منشآت نفطية في شبوة وحضرموت لتجنب اندلاع مواجهات عسكرية شاملة أو محدودة ومكلفة، رغم أن تسريبات سابقة أفادت بأن المجلس الرئاسي يدرس شن عملية عسكرية واسعة ضد مليشيا الحوثيين تفضي لاستعادة السيطرة على محافظة الجوف وبالتالي إجبار المليشيا الحوثية على الموافقة على تمديد الهدنة.
إذن، هل كانت هجمات الحوثيين على المنشآت النفطية في حضرموت وشبوة تصعيدا استباقيا ورسالة تحذير من شن عملية عسكرية ضدها، أم أن الأمر يعكس تفاهمات مع الجانب السعودي، كما ذكرنا سابقا، لحصر الصراع داخل اليمن، أم أن إيران تدفع مليشيا الحوثيين باتجاه التصعيد التدريجي وإبقاء حالة التوتر قائمة باعتبار ذلك أفضل من الموافقة على هدنة بلا مكاسب كبيرة؟
ويبقى السؤال الصعب: ماذا لو كررت مليشيا الحوثيين هجماتها على المنشآت النفطية اليمنية وأعاقت تصدير النفط؟ وهل سترضخ الحكومة اليمنية الشرعية للحوثيين وتتقاسم معهم موارد النفط أم ستضطر للجوء للخيار العسكري لحسم المعركة؟ وبين هذا وذاك، هل ستفضل الحكومة الشرعية استمرار تعطيل موارد البلاد كون ذلك يلبي رغبات التحالف السعودي الإماراتي والمجلس الانتقالي ومليشيا الحوثيين؟
لا شك أنه بالاستجابة لمطالب مليشيا الحوثيين ستتوسع شهيتها لفرض مطالب أكبر وإلا ستظل التهديدات مستمرة، لا سيما أنها مليشيا بلا ضوابط أخلاقية، وعدم استجابة الحكومة الشرعية لمطالب المليشيا تقتضي العودة للخيار العسكري، كما أن تعطيل تصدير النفط سيكون بمنزلة انكسار أمام مليشيا الحوثيين وسيفتح شهيتها للتصعيد في اتجاهات أخرى، وأما محصلة كل ذلك فهي أن التحولات الأخيرة في مسار الأزمة شاقة وعسيرة، وأن الحرب في اليمن بدأت تقترب من نقطة اللاعودة.