تقارير
كيف استلهم الحوثيون مساوئ الطائفية في إيران وبعض الدول العربية؟
بعد استكمال سيطرتها على المساجد في المدن الرئيسية وإغلاق مراكز تحفيظ القرآن الكريم فيها، بدأت مليشيا الحوثيين حملة ممنهجة للسيطرة على المساجد وإغلاق مدارس تحفيظ القرآن في المدن الثانوية والأرياف النائية، ويتخلل ذلك حملات قمع وترويع واعتقالات، مثل قتل أحد أبرز معلمي القرآن في محافظة ريمة، الشيخ صالح حنتوس، والسيطرة على عدد من المساجد في بعض أرياف محافظة إب بعد طرد أئمتها أو اعتقالهم، وتنفيذ حملات اعتقال واسعة في المحافظة ذاتها، وامتداد هذه الحملة إلى محافظة البيضاء، وقد تتسع في الأيام المقبلة لتشمل مناطق أخرى تسيطر عليها المليشيا.
الصلاة خلف الشيطان
تعكس حملات القمع والتوحش الطائفي هذه نهجا مألوفا في مسار المليشيا الحوثية، بدأته بتفجير المساجد ومدارس تحفيظ القرآن الكريم وهي في طريقها إلى العاصمة صنعاء في بداية الانقلاب. وبما أن المساجد في مدينة صنعاء وغيرها من المدن كان من الصعب تفجيرها كونها تقع في أحياء مكتظة بالسكان، فكان الخيار البديل السيطرة التدريجية على تلك المساجد، وتعيين أئمة وخطباء فيها من منتسبي المليشيا يقول المواطنون إنه لا تجوز الصلاة خلفهم لأنهم بلا التزام ديني وبلا أي مرجعية أخلاقية، كما فرضت المليشيا رقابة على المساجد الأخرى التي لم تكن قد سيطرت عليها.
فضلا عن ذلك، منع الحوثيون المحاضرات الدعوية وحلقات تحفيظ القرآن الكريم وصلاة التراويح في رمضان، وحولوا المساجد إلى مجالس لمضغ شجرة "القات" والاستماع لخطابات زعيم المليشيا عبد الملك الحوثي، وفرض عقيدتهم الطائفية عبر مناهج التعليم والدورات الطائفية الإجبارية، وإحياء مناسبات طائفية، وغير ذلك من الممارسات التي تعكس حربا عقائدية ممنهجة ضد هوية المواطنين وعقيدتهم الدينية، ونشر عقيدة دخيلة لم يعرفها اليمنيون من قبل، ولا علاقة لها حتى بالمذهب الزيدي المنتشر في بعض مناطق شمال الشمال.
وفي الأيام الأخيرة، بدأت مليشيا الحوثيين بتنفيذ حملة ممنهجة تستهدف العلماء والدعاة وما بقي من مراكز لتحفيظ القرآن الكريم أو مساجد لم تسيطر عليها، وتحديدا في القرى والأرياف النائية والمدن الثانوية، ضمن سياسة تهدف إلى فرض عقيدتها الطائفية وتضييق الخناق على الحريات الدينية والفكرية.
فبعد قتل مليشيا الحوثيين لأحد أشهر معلمي القرآن الكريم في محافظة ريمة وهو في بيته، الشيخ صالح حنتوس، دشنت حملة قمع في محافظة إب، شملت إغلاق مراكز تحفيظ قرآن، وتغيير خطباء مساجد، وإغلاق مساجد أخرى، واعتقال أكاديميين وأطباء ودعاة وشخصيات اجتماعية ومواطنين، وامتدت هذه الحملة إلى محافظة البيضاء، حيث أقدمت عناصر حوثية مسلحة على اقتحام منزل الشيخ أحمد الوهاشي، إمام جامع السنة ومُدرس القرآن الكريم في منطقة مذوقين، واختطفته من داخل منزله ونقلته إلى جهة مجهولة.
وتعكس هذه الخطوات تصعيدا خطيرا ضد المواطنين السنة (أتباع المذهب الشافعي الأكثر انتشارا في البلاد)، وتتجاوز حملات الاختطاف والإغلاق والتصفية الجسدية حدود استهداف أفراد بعينهم، لتشكل ملامح حملة أوسع تهدف إلى إعادة تشكيل الهوية الدينية والثقافية للمجتمع وفق منظور طائفي أحادي، يعتمد الإقصاء والتهميش وسيلة لضبط الفضاء الديني والتعليمي تحت قبضة المليشيا الحوثية.
كما تهدف هذه التحركات الممنهجة إلى تفكيك البنية التربوية والدينية السائدة في أوساط المجتمع، والقضاء على مظاهر التعددية التي تميز بها اليمن، وسط تحذيرات من تداعيات تلك الانتهاكات على النسيج الاجتماعي، كونها خطيرة وممنهجة تستهدف الحريات الدينية والتعليمية، وتهدد التعايش والسلم المجتمعي في اليمن.
وتبرز المقاومة المجتمعية لهذا النهج من خلال المقاطعة الواسعة للمساجد التي سيطر عليها الحوثيون وحولوها إلى مراكز لنشر ثقافة القتل والعنف والكراهية والتحريض الطائفي، وتعيين خطباء وأئمة لا يطيق المواطنون الصلاة خلفهم، وبعضهم إما من أصحاب السوابق أو ممن شاركوا في القتال في الجبهات. وردا على تلك المقاطعة، عمدت المليشيا إلى تفخيخ الأجيال الناشئة والجديدة بأفكارها من خلال المناهج التعليمية والدورات الطائفية والمراكز الصيفية.
تطييف المجتمع على خطى إيران
يحاول الحوثيون تطييف المجتمع اليمني، أي تحويله من دولة ذات أغلبية سنية إلى دولة شيعية تتجاوز الزيدية إلى الاثنى عشرية، على خطى الصفويين الذين فرضوا التغيير الطائفي في إيران بشكل حاد وعنيف في القرن السادس عشر الميلادي، فقد كانت إيران دولة ذات أغلبية سنية، لكن بدأ التحول رسميا في عام 1501م، حين أعلن الشاه إسماعيل الصفوي، مؤسس الدولة الصفوية، المذهب الشيعي الاثنى عشري مذهبا رسميا للدولة في إيران.
كان الشاه إسماعيل الصفوي صوفيا ثم تحول إلى قائد عسكري متشيع، وأنشأ جيشا عقائديا يسمى "القلزباش"، وبدأ حملات عسكرية لفرض المذهب الشيعي على جميع مناطق البلاد، وتم قتل ونفي وسجن علماء أهل السنة، وهدمت مساجد ومدارس سنية، وأُحرقت كتب أهل السنة، وصودرت ممتلكات المخالفين، وأُجبر الناس على السب العلني للصحابة.
كما جلب الصفويون علماء شيعة من جبل عامل في لبنان ومن البحرين والنجف لتعليم المذهب الشيعي ونشره، وفرضوا المناهج الشيعية في المدارس، وأصبحت الخطب والاحتفالات الدينية (مثل عاشوراء) أدوات تعبئة جماهيرية، حتى تم طمس معظم الوجود السني في المدن الكبرى بحلول القرن السابع عشر الميلادي، وبقيت أقليات سنية في مناطق حدودية فقط (البلوش، التركمان، الأكراد، عرب الأحواز)، وذلك بعد مقاومة شديدة من السكان السنة الذين كانوا يشكلون أغلبية ساحقة داخل إيران في ذلك الوقت.
والملاحظ أن مليشيا الحوثيين تنتهج نفس سلوك الصفويين في محاولتها لتحويل السكان السنة في مناطق سيطرتها إلى المذهب الشيعي. وإذا كانت إجراءاتها تلقى مقاومة من الأجيال الحالية (الشيوخ والشباب)، فإن الأجيال الجديدة (الأطفال) ستنشأ وسط تعبئة طائفية مستمرة في المساجد والمدارس والجامعات الحكومية والدورات الطائفية والمراكز الصيفية للحوثيين، ومعظم الأسر في مناطق الحوثيين يغلب عليها الجهل وضعف التنشئة الدينية لأطفالها، مما يجعلهم فريسة سهلة للحوثيين لتغيير هويتهم الدينية.
وفي انتهاجهم للتغيير الطائفي، يحاول الحوثيون اختصار أربعة أو خمسة قرون من التغيير الذي تم في إيران إلى عقود أو سنوات قليلة، فمثلا في إيران كان التغيير الطائفي قد بدأ في القرن السادس عشر الميلادي، ووصل إلى ذروته في أواخر القرن العشرين الميلادي، عندما جاء الخميني عام 1979م وأسس دولة دينية شيعية متشددة تحت حكم ولاية الفقيه، بعد جهود متواصلة من التحول إلى المذهب الشيعي بدأتها الدولة الصفوية، وواصلتها الدولة القاجارية، ثم الدولة البهلوية رغم علمانيتها.
أما مليشيا الحوثيين، ورغم أنها نشأت في محافظة صعدة من خلفية زيدية، لكنها تطورت لاحقا إلى زيدية مشبعة بأفكار إيرانية واثنى عشرية، ورفعت شعارات خمينية مثل شعار "الصرخة"، وتبنت مشروعا سياسيا وعسكريا مسلحا.
وبعد سيطرتها على العاصمة صنعاء، عام 2014م، أعادت إحياء المشروع الإمامي/الزيدي من جديد، لكنه أكثر تسلطا وتوحشا وميلا للثيوقراطية الإيرانية، مع الإبقاء على المذهب الزيدي كواجهة سياسية، لأنه يرى أن الحكم حق شرعي مقدس لأي "فقيه من آل البيت" وفق زعمهم.
بمعنى أن الزيدية الحوثية انزلقت تدريجيا نحو الاثنى عشرية في المضمون، رغم احتفاظها باللافتة الزيدية في الشكل، ومن أبرز مظاهر ذلك الانحراف: تركيزها الشديد على فكرة "الإمام القائد"، الذي تجب طاعته بلا نقاش، وهو ما يشبه عقيدة "ولاية الفقيه" التي لا أصل لها في الزيدية الأصلية.
يضاف إلى ذلك أن مليشيا الحوثيين بدأت بتبني خطاب عدائي تجاه الصحابة بشكل تدريجي، ونشر ثقافة اللعن والتكفير، وهي أمور رفضها أئمة الزيدية على مدى قرون. كما يمارس الحوثيون القمع السياسي والديني بحق مخالفيهم، سواء من السنة أو حتى من الزيديين غير الموالين لهم.
علاوة على ذلك، غيرت المليشيا الحوثية الخطاب الديني، وطاردت جميع المعارضين لها من كل الاتجاهات. فهي، أي مليشيا الحوثيين، مشروع طائفي مسلح، اختطفت المذهب الزيدي وانزلقت به نحو الاثنى عشرية، وحولته إلى أداة للسيطرة والهيمنة، وتبعية فكرية وسياسية وعسكرية لإيران، وخطاب استعلائي قائم على الحق الإلهي في الحكم المطلق، وإعادة هندسة المذهب لخدمة سلطة مطلقة في شخص "السيد القائد"، مستندة إلى تجربة الولي الفقيه في إيران.
- الجمع بين مساوئ الشيعة العرب والفرس
ورغم أن الحوثيين ينتمون اسميا إلى المذهب الزيدي، فإن خطابهم الديني والسياسي يُظهر أنهم استلهموا من التجربتين الشيعيتين العربية والفارسية أسوأ ما فيهما معا. فمن جهة، تبنوا النموذج الإيراني في فرض الولاية المطلقة لقائد المليشيا، واحتكار الحديث باسم الدين، وهيمنة الأقلية العقائدية على المجال العام بقوة السلاح والقبضة الأمنية الحديدية.
ومن جهة أخرى، استنسخوا من بعض تجارب الشيعة العرب في العراق ولبنان آليات القمع الطائفي وتوظيف الدين في الصراع السياسي، لكن دون أن يتبنوا في المقابل أيا من مظاهر "المشاركة الطائفية" أو الاعتراف بالآخر كمكون شرعي في الدولة.
ففي العراق ولبنان، ورغم الطابع الطائفي للنظام السياسي، فإن الشيعة العرب يتقاسمون السلطة ضمن محاصصات طائفية مع السنة والمسيحيين، ويخضعون ولو شكليا لمعادلة شراكة تضمن الحد الأدنى من التمثيل السياسي للطوائف الأخرى، سواء عبر البرلمان أو الحكومة أو مؤسسات الدولة.
أما الحوثيون، فقد اختاروا نسف مبدأ الشراكة من جذوره، فلا يعترفون بأي توازن سياسي، ولا يتركون لأي طرف خارجهم موقعا يذكر، حتى وإن كان حليفا مرحليا لهم، ويمارسون الإقصاء المطلق تحت مظلة "الحق الإلهي" و"الاصطفاء الرباني" حسب زعمهم، ولا يرون الآخرين إلا تابعين أو خائنين.
ولذلك فإن الحوثيين، في بنيتهم الفكرية والسياسية، أقرب ما يكونون للنموذج الإيراني، حيث تختفي الدولة كمؤسسة جامعة، ويُختزل الوطن في شخص القائد والسلالة، ويلغون كل أشكال المعارضة والشراكة أو التعددية تحت شعارات طائفية مشحونة بالعنف والكراهية.
وإذا كان الشيعة العرب، رغم التسييس الطائفي، قد قبلوا بمبدأ "العيش المشترك"، فإن الحوثيين يسعون إلى تفكيك هذا المبدأ تماما، وإقامة سلطة أحادية لا تقبل القسمة، ولا تؤمن إلا بما يرونه "الحق الإلهي المحتكر" في السلطة والثروة، مما يجعل مشروعهم أقرب إلى حكم طبقي مغلق، ويفتقر لأي صيغة وطنية جامعة.