تقارير
الهجمات الأمريكية على الحوثيين.. رسائل بطعم البارود
في تطور مفاجئ ومثير، نفذت الولايات المتحدة الأمريكية ضربات عسكرية واسعة النطاق استهدفت مواقع لمليشيا الحوثيين في عدد من المحافظات التي تسيطر عليها، شملت مواقع حيوية مثل الرادارات والدفاعات الجوية وأنظمة الصواريخ والطائرات المسيرة، وفق وسائل إعلام أمريكية، رافقتها لهجة تصعيدية من قِبَل الرئيس دونالد ترامب تنم عن جدية بأن تكون نتائج الضربات حاسمة وتجبر الحوثيين على وقف هجماتهم في البحر الأحمر.
وفي حال نفذت واشنطن تهديداتها بأن هجماتها ستستمر أياما أو أسابيع بنفس الكثافة في ساعاتها الأولى وستدمر بالفعل أهدافا عسكرية واستهداف بعض قيادات المليشيا الحوثية، فإن تلك الهجمات ستكون أهم محطة مفصلية في مسار الأزمة اليمنية منذ اندلاع عملية "عاصفة الحزم" قبل عشر سنوات وحتى اليوم، نظرا لما سيترتب عليها من تداعيات وتأثيرات ستلقي بظلالها على مستقبل الصراع في اليمن والمنطقة، وحتى في حال توقفت الهجمات في حال توقف الحوثيين عن استهداف السفن في البحر الأحمر، فإن ذلك سيكون له تداعياته أيضا، كونه سيعكس ضعف المليشيا الحوثية أمام خصومها وسيؤثر على معنويات مقاتليها.
- حسابات التوقيت
بالرغم من أن الضربات العسكرية الأمريكية جاءت بعد تهديد الحوثيين باستئناف هجماتهم في البحر الأحمر ضد السفن الإسرائيلية ردا على استمرار الحصار على قطاع غزة وعدم السماح بإدخال المساعدات إلى القطاع، لكن من الواضح أن تلك الضربات قد بدأ الإعداد لها قبل تهديدات الحوثيين المذكورة، فكثافة الضربات وتعدد المواقع التي شملتها في عدد من المحافظات، يعني أنه تم الإعداد لها جيدا بعد عمل استخباراتي ورصد وتتبع لتحركات الآليات العسكرية والمقاتلين الحوثيين والتحركات المشبوهة في هذا السياق، من خلال الأقمار الصناعية وطائرات التجسس والرصد والمتابعة.
ومع ذلك فإن لتوقيت الضربات دلالاته أيضا، فهي أول عمل عسكري يبدأ به الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ولايته الرئاسية الثانية، المعروف بتشدده حيال إيران ومليشيا الحوثيين، وبدعمه لأصدقاء واشنطن في المنطقة، سواء إسرائيل أو السعودية وغيرها من دول الخليج، وتأتي تلك الضربات ترجمة لقراره بتصنيف مليشيا الحوثيين منظمة إرهابية أجنبية.
ومع أن تلك الضربات تتناقض مع تصريحات سابقة لترامب تصف ولايته الرئاسية الثانية بأنها ستكون حقبة إحلال السلام في العالم، لكنها تعكس سجله السابق والسياسات المتوقعة التي تشير إلى نهج معقد ومثير للجدل، وتعامله الانتقائي مع أزمات العالم، ففي حين يعمل على إحلال السلام في أوكرانيا، فإن تعامله مع قضايا الشرق الأوسط يحمل ملامح أكثر صرامة وعدوانية.
كما أن الضربات العسكرية ضد مليشيا الحوثيين جاءت في وقت كانت تشعر فيه المليشيا بالانتشاء بعد خروجها رابحة من تداعيات الحرب الصهيونية على قطاع غزة رغم انهيار المحور الإيراني وإذلال إيران ذاتها، وكانت مليشيا الحوثيين تتوقع أن مسار الأحداث سيظل في مصلحتها إلى ما لا نهاية، وأن عدم جدية مختلف الأطراف المحلية والإقليمية والدولية في القضاء عليها أو وضع حد لتهديداتها سيمكنها من الاستمرار في خيار التصعيد لتراكم مكاسبها السياسية والعسكرية حتى تصبح لاعبا إقليميا له وزنه في المعادلات الأمنية في المنطقة، مما يمكنها في نهاية المطاف من تحقيق أهدافها في الداخل اليمني في حال تم تحييد الدور الخارجي المساند للحكومة اليمنية الشرعية.
كما تزامن توقيت الضربات العسكرية الأمريكية مع تصعيد مليشيا الحوثيين في عدد من جبهات القتال الرئيسية في الداخل، لكنه تصعيد حذر وتزداد وتيرته ببطء ودون ضجيج، مما يعكس خشية الحوثيين من أن يكون مدعاة لتدخل عسكري خارجي داعم للحكومة الشرعية، كما أن تهديد المليشيا الحوثية باستهداف السفن الإسرائيلية في البحر الأحمر يبدو غير جاد هذه المرة، وكأنه محاولة لصرف الأنظار عن التصعيد العسكري في جبهات الداخل من جهة، ومن جهة ثانية الاستمرار في توظيف القضية الفلسطينية لتحقيق مكاسب سياسية وحشد المزيد من المقاتلين وإرسالهم إلى جبهات الداخل.
علاوة على ذلك، يأتي توقيت الضربات الأمريكية بعد أشهر قليلة من انهيار أبرز مكونات المحور الإيراني في المنطقة، حزب الله اللبناني ونظام بشار الأسد في سوريا، وعجز إيران عن الدفاع عن حلفائها، وأيضا عجزها عن الرد الفاعل على الضربات الإسرائيلية على أراضيها، مما يشجع ترامب على تحقيق مكاسب إضافية لمصلحة حلفاء واشنطن في المنطقة من خلال إضعاف مليشيا الحوثيين ووضع حد لتهديداتها للملاحة في البحر الأحمر.
- أهداف الضربات ومدى إمكانية تحقيقها
كما هو معلن، تهدف الضربات الأمريكية على مواقع للحوثيين إلى إجبارهم على وقف تهديداتهم للملاحة في البحر الأحمر، وتوجيه رسالة لإيران وتحذيرها من أنها قد تكون الهدف التالي في حال واصلت دعم الحوثيين وتعمل على تهديد أمن المنطقة ولم تعد للمفاوضات بشأن برنامجها النووي وتقدم تنازلات، كما تهدف الضربات إلى إدانة الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن وإدارته واتهامه بالفشل وعدم الجدية في وقف هجمات الحوثيين في البحر الأحمر وتهديد المصالح الأمريكية في المنطقة، وبالتالي تسجيل نقاط نجاح لإدارة ترامب، كنوع من الدعاية الانتخابية المتأخرة.
لكن هل ستحقق الضربات أهدافها؟ لا شك أن عنصر المباغتة في الضربات ونوعيتها وما رافقها من تصريحات حادة وظهور ترامب وهو يتابعها، قد أربك مليشيا الحوثيين وأربك إيران أيضا، وزاد من ذلك الإرباك التلميح بأن الضربات قد تستمر أياما أو أسابيع، وأعادت إلى الأذهان أجواء الضربات التي وجهها جيش الاحتلال الإسرائيلي لحزب الله اللبناني في الأيام الأخيرة التي سبقت انهياره، وأيقنت مليشيا الحوثيين وإيران أن أياما عصيبة مقبلة قد تأتي على ما بقي من المحور الإيراني.
لم تتضح حتى الآن الأضرار التي لحقت بالحوثيين جراء تلك الهجمات، وفي حين تحدثت واشنطن عن نجاح الضربات في تدمير أهداف حيوية واغتيال بعض قيادات مليشيا الحوثيين، بدت المليشيا وكأنها تقلل من أثر الضربات، فهي لم تتحدث عن قتلى عسكريين أو طبيعة الأهداف التي تم قصفها، واكتفت بالإعلان عن أعداد القتلى والجرحى من المدنيين الذين لم تكشف عن هويتهم وما إذا كان يوجد بينهم قيادات أو أقارب قيادات كانوا في مقار إقامتهم أثناء الضربات، ما يعني أن هناك تكتما حول حجم الأضرار الفعلية التي لحقت بالمليشيا.
وسواء كان أثر الهجمات مؤلما أم لا بالنسبة للحوثيين، فمبدئيا يمكن القول إن ترامب وجه للحوثيين رسالة قاسية وأذلهم فعلا من خلال إجراءات متشددة ومتسارعة لم تترك لهم نفسا للرد أو امتصاص الصدمات، مثل تصنيفهم منظمة إرهابية أجنبية وحظر استيراد النفط عبر ميناء الحديدة وتنفيذ ضربات عسكرية مكثفة على مواقعهم، وبالتالي فمليشيا الحوثيين حتى وإن حاولت المقامرة والرد عسكريا على الضربات الأمريكية، لكنه سيكون ردا هامشيا وغير ذي جدوى بهدف حفظ ماء الوجه أمام أصدقاء المليشيا وخصومها على حد سواء، مع محاولة امتصاص الصدمات والأضرار، وترقب ما هو التالي، لكن من الواضح أن أي مغامرة خطيرة للحوثيين ستواجه بضربات أشد عنفا وفاعلية، وهو ما يدركه الحوثيون، ولذا سيتعاطون مع الموقف بالحد الأدنى من الرد غير المثير للانتقام.
ومع الهدوء الحذر في اليوم التالي للضربات الأمريكية، باستثناء ضربات محدودة في محافظتي الحديدة والجوف، ستتنفس مليشيا الحوثيين الصعداء، لكنها ستبقى في حالة ترقب وقلق، ولن تعاود تهديد الملاحة في البحر الأحمر كما كان الحال سابقا، إلا في حال أن الضربات الأمريكية الأخيرة كانت كسابقاتها على أهداف فارغة ولم تكبد المليشيا الحوثية أي خسائر، لأن ذلك ستراه المليشيا كمؤشر على أن الضربات المقبلة لن يكون لها أي تأثير أيضا، وأن إدارة ترامب ليس لديها بنك أهداف لمعاودة تنفيذ غارات عليه.
وهناك سبب آخر سيجعل الحوثيين يحجمون عن الرد السريع والنوعي على الجيش الأمريكي أو استهداف قطع وقواعد عسكرية أمريكية في المنطقة، وهو الخشية من انكشاف بعض مواقع الصواريخ ومنصات الإطلاق أمام أجهزة الرصد والاستطلاع الأمريكية التي لا شك أنها تراقب مناطق سيطرة الحوثيين بدقة ورصد أي حركة مشبوهة لصواريخ أو منصات إطلاق، وستكتفي المليشيا برد هامشي بواسطة طائرات مسيرة لأنه يمكن إخفاؤها عن أجهزة الرصد والاستطلاع ونقلها بسهولة لإطلاقها من أماكن لا يوجد فيها أي أهداف عسكرية.
- ماذا بعد؟
من المتوقع أن تنفذ واشنطن هجمات جديدة على مواقع للحوثيين أو استهداف قيادات في حال توفرت لها معلومات عن تحركاتهم أو أماكن اختبائهم، وفي المقابل فإن أي هجوم حوثي على السفن في البحر الأحمر سيُقابَل برد فعل أمريكي عنيف، وفي حال كانت الهجمات الأمريكية على مواقع للحوثيين غير مؤثرة ويتضرر منها المدنيون فقط، فإن ذلك سيغري الحوثيين بمواصلة التصعيد وعدم المبالاة بحياة المدنيين.
والأهم في الأمر هو موقف إيران بعد الضربات الأمريكية على مواقع للحوثيين، وما إذا كانت قد استوعبت رسالة ترامب لها، فهل ستطلب من الحوثيين التوقف عن استهداف الملاحة في البحر الأحمر أم ستشجعهم على الاستمرار؟ الأمر يتوقف هنا على تقييم قيادات إيران لوضع بلادهم الداخلي والوضع في المنطقة بشكل عام، ومن المعروف أن التحركات والسياسات الإيرانية وتحركات حلفائها تهدف إلى استهلاك الوقت وجعل المعارك بعيدة عن إيران حتى يقف البرنامج النووي الإيراني على قدميه، وتكون إيران قد امتلكت قوة ردع تغنيها عن أذرعها الإقليمية في حال انهيارها جميعا.
الآن البرنامج النووي الإيراني في مراحله النهائية، وبقية أذرع إيران (مليشيا الحوثيين والمليشيات العراقية) بالإمكان القضاء عليها بسهولة إذا توفرت الإرادة، والقضاء على البرنامج النووي الإيراني مطلب سعودي وإسرائيلي بدرجة رئيسية وهما أبرز حلفاء واشنطن في المنطقة، وواشنطن قد ترغب بتدمير البرنامج النووي الإيراني لكنها لا تريد القضاء على قوة إيران وقوة ما بقي من أذرعها للإبقاء عليها كفزاعة أمنية لابتزاز دول الخليج واستمرار مبررات التواجد العسكري في المنطقة.
هناك صعوبات في القضاء على البرنامج النووي الإيراني، أبرزها أنه محصن في أعماق الأرض تحت جبال شاهقة، والولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي لديها أسلحة خارقة للتحصينات العميقة تحت الجبال وبإمكانها تدمير المنشآت النووية الإيرانية، يضاف إلى ذلك أن إيران ظلت على مدى سنوات تهدد بتحريك أذرعها أو وكلائها في الإقليم وإشعال المنطقة بأكملها بالحرب وإغلاق مضيقي هرمز وباب المندب واستهداف القواعد الأمريكية في المنطقة في حال تعرضت أراضيها أو برنامجها النووي لهجوم بهدف تدميره.
وبالتالي فإن عزم واشنطن على إجبار الحوثيين على وقف تهديداتهم للملاحة في البحر الأحمر واستخدام القوة المفرطة ضدهم يثير مخاوف إيران فعلا من أن قد تكون هي الهدف التالي بعد أن تصبح مجردة من الأذرع الإقليمية، وسيكون القضاء على الحوثيين وعلى برنامجها النووي هدفا مغريا لمجنون البيت الأبيض، ترامب، لتحقيق إنجاز يُحسب له في بداية ولايته الرئاسية الثانية.
فهل ستنحني إيران أمام العاصفة وتعود للمفاوضات وتقدم تنازلات وتجبر الحوثيين على وقف تهديد الملاحة في البحر الأحمر، أم ستواصل أسلوب الخداع والتضليل حتى تتمكن من إنتاج قنبلة نووية؟ وهل ما زال من الممكن تمرير الخداع والتضليل على المجتمع الدولي؟
المنطقة الآن في مرحلة مفصلية في عهد ترامب، وقد يتم القضاء على الحوثيين وتدمير البرنامج النووي الإيراني، وأما إذا فاجأت إيران العالم بامتلاك أسلحة نووية، فتلك حكاية أخرى، ستؤسس لصراع من نوع جديد في المنطقة، ستنقلب معه قواعد اللعبة رأسا على عقب.