تقارير
تأثيرات الحرب على القرى اليمنية.. تحولات عميقة في النسيج الاجتماعي والثقافي
في قلب الأزمة اليمنية، التي طال أمدها، تتضح أبعاد تأثيرات الحرب على النسيج الاجتماعي في القرى اليمنية، حيث يعاني المجتمع من تدهور حاد في الروابط الاجتماعية، التي كانت تمثل أساس التماسك والاستقرار، فمنذ اندلاع الصراع -قبل نحو عقد من الزمن- باتت القرى اليمنية شاهدة على تحولات عميقة لا تقتصر على الصعيدين السياسي والعسكري فقط، بل تشمل أيضا المستوى الاجتماعي والثقافي.
فالنزوح القسري، والانهيار الاقتصادي، وتدهور الخدمات الأساسية، جميعها عوامل أسهمت في تهديد البنية المجتمعية، وتفكيك الروابط الأسرية التي كانت تشكل صلب التوازن في الحياة اليومية في القرى.
- تبعات الحرب على الروابط الاجتماعية
وفي الوقت الذي تسعى فيه بعض القرى إلى الصمود والحفاظ على استقرارها، فإن العديد من المناطق الأخرى في اليمن تعاني من تدهور حاد في الروابط الاجتماعية؛ نتيجة النزوح القسري والانهيار الاقتصادي.
ففي تصريح خاص لموقع "بلقيس"، أكد الباحث الاجتماعي فهمي الصبري أن "الحرب الدائرة في اليمن قد تسببت في تدهور حاد للروابط الاجتماعية في القرى اليمنية"، محذرا من عواقب وخيمة على تماسك المجتمع.
وأوضح: "النزوح القسري، الذي فرضته الحرب، أدى إلى تشتت العائلات، وتفكك الروابط الأسرية، حيث اضطر العديد من اليمنيين إلى ترك منازلهم وقراهم؛ بحثا عن الأمان، وهو ما أثر بشكل كبير على العلاقات الاجتماعية والتقاليد المتوارثة، التي كانت تحافظ على تماسك المجتمع".
وأضاف: "الانهيار الاقتصادي، الذي خلفته الحرب، زاد من تعقيد الوضع، حيث أدى إلى ارتفاع معدلات الفقر والبطالة، مما أجبر الكثير من الأسر على اتخاذ قرارات صعبة قد تؤثر على تماسكها، مثل الزواج المبكر، أو العمل في مهن خطرة".
ولم يغفل الصبري دور الحوثيين في تفاقم الأزمة، حيث أكد أن "الجماعة الحوثية قد فرضت قيوداً على الحركة والتواصل بين المواطنين، مما عمَّق الانقسامات الاجتماعية، وزاد من الشكوك والخوف بين أفراد المجتمع".
ونتيجة لهذه العوامل مجتمعة، قال الصبري: "ظواهر سلبية؛ مثل العنف والجريمة والانتحار، قد بدأت تنتشر بشكل متسارع، مما زاد من تعقيد الأوضاع الإنسانية في المناطق الريفية".
- الحرب وتغييرات في العادات الاجتماعية
تتفاوت التجارب التي يعيشها اليمنيون في مناطق النزاع، فبينما تتعرَّض بعض القرى للدمار والخراب، تظل هناك مناطق أخرى مازالت تحافظ على نوع من التماسك الاجتماعي؛ رغم صعوبة الظروف.
الشيخ سلطان قائد، الذي يقطن في إحدى المناطق التي شهدت نزوحا كبيراً بسبب الحرب، يرى أن "الحرب، التي اندلعت منذ نحو عشر سنوات، قد أثرت بشكل كبير على الروابط الاجتماعية في العديد من القرى؛ نتيجة نزوح السكان إلى مناطق بعيدة؛ بسبب الصراع المستمر، مما أدى إلى حالة من الفوضى في بعض المناطق التي دخلتها المعارك".
وأشار قائد -في حديثه لموقع "بلقيس"- إلى أن "الوضع الاقتصادي الصعب أثّر بشكل كبير على حياة المواطنين، مما أدى إلى تغييرات في العادات والتقاليد، التي ورثها الناس عن أجدادهم".
وأوضح: "المناسبات الاجتماعية شهدت انخفاضا في تكاليفها؛ نتيجة الظروف الاقتصادية الراهنة".
وأضاف: أن "الحرب تسببت في نزوح العديد من سكان القرى إلى مناطق أخرى، بينما عاد بعضهم إلى قراهم، واستقر آخرون في مناطق النزوح، خاصة في منطقة خدير والمناطق المجاورة لها".
ورغم الظروف الصعبة، أكد قائد أن "الحياة في بعض القرى ما زالت مستمرة بشكل طبيعي، حيث تظل العلاقات الاجتماعية متماسكة بفضل الله، ولم تشهد القرى تقدّما للعدو، ما سمح للسكان بممارسة حياتهم بشكل طبيعي".
- تحولات عميقة
تتجاوز المعاناة، التي يعيشها السكان، حدود الجوع والمرض والنزوح، فالصراع الدائر، منذ سنوات، قد خلَّف جروحاً عميقة في النسيج الاجتماعي، وترك آثاراً بالغة الخطورة على القيم والعلاقات بين أفراد المجتمع.
وفي هذا السياق، يحذِّر الدكتور عبد الباقي شمسان، أستاذ علم الاجتماع السياسي بجامعة صنعاء، من تزايد ظواهر سلبية؛ مثل الانتحار، وتدهور العلاقات الأسرية، التي تعكس عُمق الأزمة التي يواجهها المجتمع اليمني، لاسيما على مستوى القيم والعلاقات الاجتماعية.
وأوضح شمسان، في تصريح لـ"بلقيس": "هذه التحولات تتجلى بوضوح في ارتفاع معدلات الانتحار، وتدهور العلاقات الأسرية، وتراجع القيم المجتمعية الأصيلة.
وأضاف: "هذه الظواهر ليست مصادفة، بل هي نتيجة حتمية للقلق المستمر بشأن المستقبل والضغوط النفسية، التي يتعرض لها الأفراد والمجتمعات".
وشدد الدكتور شمسان على أن "هذه التحولات لا تقتصر على مستوى الفرد فقط، بل تمتد لتشمل النسيج الاجتماعي ككل، مما يؤدي إلى الانتحار الفردي، والانهيار المجتمعي على مستوى الأسرة".
وأشار إلى أن "هذه التحولات ليست وليدة اللحظة، بل هي نتيجة لتراكم العديد من العوامل والتحديات، التي تواجه المجتمع اليمني منذ فترة طويلة".
- الحرب مزّقت الأسر
لا شك أن الحرب في اليمن قد تسببت في دمار هائل للبنية التحتية، إلا أن أخطر آثارها يتمثل في تدمير النسيج الاجتماعي، فالصراع قد زرع بُذور الكراهية والفُرقة بين أفراد المجتمع، وأدى إلى تفكك الروابط العائلية والاجتماعية.
وفي هذا السياق، يقول الشيخ عبد الواحد محمد، شيخ قرية الشقب، في حديثه لموقع "بلقيس": "إن الحرب المستمرة في اليمن، منذ سنوات طويلة، قد أسفرت عن تغييرات جذرية أثَّرت بشكل عميق على النسيج الاجتماعي في القرى المتضررة".
وأضاف: "نحن نشهد حالياً احتقانا اجتماعياً متزايداً، وهو ما قد يؤدي في المستقبل إلى انتشار ظواهر مثل الثأر والانتقام، وهو ما يشكل تهديداً حقيقياً للأمن الاجتماعي في المناطق التي طالتها آثار الصراع".
وأشار عبد الواحد إلى أن "الحرب قد عطَّلت العديد من العادات والتقاليد الاجتماعية التي كانت سائدة في المجتمع قبل اندلاع الصراع، لا سيما في المناسبات الاجتماعية".
وتابع قائلاً: "الحرب مزَّقت العديد من الأسر بشكل مأساوي، حيث انقسمت بعض الأسر إلى أطراف متنازعة، فذهب بعض أفرادها مع أحد أطراف النزاع، بينما انضم الآخرون للطرف الآخر، وهذا الانقسام الداخلي أصبح أكثر تعقيداً بسبب التعبئة الفكرية الخاطئة، التي يتعرض لها البعض، مما يفاقم الوضع بشكل أكبر، ويؤدي إلى ارتكاب جرائم قتل داخل الأسر نفسها".
وأوضح: "العديد من الأسر، التي تربطها علاقات في قرى أخرى، قد فقدت سُبل التواصل واللقاءات الاجتماعية التي كانت تجمعها في المناسبات، ما ساهم في تدهور العلاقات بين أفراد المجتمع، وأدى إلى تفكك الروابط الاجتماعية التي كانت تعد حجر الزاوية للاستقرار المجتمعي".
تبقى القرى اليمنية شاهدة على التحولات العميقة، التي طالت الروابط الاجتماعية، التي كانت أساس التماسك والاستقرار المجتمعي.
ورغم أن بعض المناطق مازالت تحافظ على روابطها الاجتماعية، فإن الصورة العامة تعكس واقعاً من التفكك الاجتماعي، والآثار السلبية التي ستظل تلاحق الأجيال القادمة، ليبقى التحدِّي الأكبر أمام المجتمع هو كيفية إعادة بناء هذه الروابط، التي طالما كانت مصدر قوته، في ظل ظروف سياسية واقتصادية معقَّدة.