تقارير
جريمتان في أسبوع.. العنف الأسري حرب صامتة خلف الأبواب المغلقة
لم تأتِ المأساة من خارج الجدران، لم تكن قذيفة ولا غارة ولا صراعًا بين أطراف نزاع؛ بل جاءت من قلب البيت، من اليد التي كان يُفترض أن تُربّت وتحنو وتحمي، فإذا بها تطلق النار لتقتل وتسفك وتُشعل نيران الفقد في عيون تسع أسر يمنية خلال الأسبوع الماضي، إحداها في صنعاء والأخرى في إب.
في مديرية حبيش شمال محافظة إب، استيقظ الناس على واحدة من أبشع جرائم العنف الأسري: رجل يُطلق رصاصه الغاضب على أربعة أرواح دفعة واحدة، عمه، عمته، شقيقة زوجته، وحتى طفلته الصغيرة، لم تسلم من جنونه، والسبب المتداول رفض عمه إرجاع زوجته.
زوجته، التي كانت السبب المعلن لهذا الانفجار الدموي، أصيبت، ومعها آخرون من العائلة، في مشهد يعجز العقل عن استيعابه.
لم يكن في المنزل غرباء، لم يكن في مسرح الجريمة لصوص أو أعداء، كانت الجريمة أسرية خالصة، ممهورة بالخلافات التي نمت بصمت تحت سقف واحد، حتى انفجرت بطلقات نارية.
جاءت هذه الجريمة قبل أن تجف الدماء في صنعاء، التي كانت على موعد مع فاجعة لا تقل رعبًا، وتحديدًا في قرية "رهم العليا"، في منطقة قاع القاضي جنوب العاصمة، حيث تطوّر خلاف عائلي بين رجل وزوجته إلى كارثة جماعية.
وعلى السبب ذاته، رفض والد الزوجة -وهو في الوقت ذاته عم الجاني- إعادتها إليه، فكانت ردة الفعل رصاصًا غادرًا أنهى حياة العم، ثم ثلاثة آخرين من أبناء قريته، ورابعًا من قرية مجاورة، بينما الجاني يمشي في الطرقات ويُطلق النار على كل من يصادفه، وكأن الموت قد أُطلق من قمقمه ولا نية له بالتوقف.
جريمتان في أسبوع واحد، وتسعة ضحايا سقطوا في لحظة غضب أسري، وسط صمت المجتمع، وغياب الرادع، وتنامي ثقافة العنف التي جعلت البيت المكان الأكثر أمنًا يتحول إلى فوهة بندقية.
تأتي هذه المآسي لتدق ناقوس الخطر من جديد: العنف الأسري في اليمن لم يعد مشكلة اجتماعية فحسب؛ بل صار جرحًا وطنيًا مفتوحًا ينزف باستمرار، يحصد أرواح الأبرياء ويترك خلفه أطفالًا أيتامًا، ونساءً مكلومات، ومجتمعًا مأزومًا، بحاجة ماسّة إلى إنقاذ.
-ظاهرة تهدد تماسك المجتمع
لم يعد العنف الأسري في اليمن حبيس منطقة بعينها، أو سلطة سياسية دونًا عن غيرها، بل تحوّل إلى ظاهرة تهدد تماسك المجتمع اليمني بكافة أطيافه ومناطقه، من شماله إلى جنوبه، في ظل ظروف معيشية ضاغطة، وانهيار في منظومة العدالة، وغياب الحماية القانونية والاجتماعية للأسرة.
في 26 يوليو 2025، هزّت محافظة عمران جريمة مروعة، حين أقدم رجل على قتل عمه (والد زوجته) في وضح النهار، على خلفية خلاف مالي، بإطلاق النار عليه في الشارع العام، لتكشف هذه الجريمة عن خلل أخلاقي متزايد، جعل من القتل وسيلة لتصفية الخلافات الشخصية.
وفي 1 يونيو 2025، شهدت العاصمة المؤقتة عدن جريمة أخرى، حين أقدم رجل على طعن زوجته حتى الموت داخل منزلهما، إثر خلاف بسيط بشأن كسوة العيد. الحادثة، التي وقعت في حي المحاريق بمديرية الشيخ عثمان، عكست حجم التوتر والانفجار العاطفي الذي تعيشه الأسر تحت وطأة الضغوط الاقتصادية والاجتماعية، حيث يتحول الشجار اليومي إلى مأساة دموية خلال لحظات.
وفي 8 أكتوبر 2024، شهدت مديرية أحور بمحافظة أبين جريمة مزدوجة راح ضحيتها زوجة وشقيقة الجاني، بعدما أطلق النار عليهما في لحظة غضب حاد. لم تمضِ أيام على ولادة الزوجة لطفلها حتى وجدت نفسها مقتولة على يد من كان من المفترض أن يكون سندها. فرّ الجاني، الذي يعاني من اضطرابات نفسية، إلى جهة مجهولة، فيما غرقت أسرته ومجتمعه في دوامة من الحزن والذهول.
هذه الحوادث، المتباعدة في الجغرافيا المتقاربة في المضمون، تسلط الضوء على واقع مأساوي يعيشه اليمنيون؛ واقع تختلط فيه مشاعر العجز والخوف بالضغط النفسي والاجتماعي، لتتحول البيوت إلى مسارح للعنف، وتغيب العدالة خلف التحكيم القبلي أو الانقسام السياسي.
-حرب أخرى تتفاقم
بالرغم أن الحرب تمزّق اليمن منذ عشر سنوات؛ إلا أن هناك حربًا أخرى لا تقل ضراوة تدور خلف الأبواب المغلقة، ضحاياها في الغالب نساء وأطفال، حيث تشير تقارير أممية وحقوقية إلى أن أكثر من 52٪ من النساء اليمنيات تعرّضن لشكل من أشكال العنف، سواء الجسدي أو النفسي أو اللفظي.
وتُظهر دراسات ميدانية أن ما لا يقل عن 32٪ من النساء تعرَّضن لعنف جسدي مباشر من شريك الحياة، في ظل غياب التشريعات الرادعة وتراجع دور المؤسسات الاجتماعية، كما وثّقت منظمات محلية ودولية ارتفاع نسبة هذه الجرائم بنسبة تتجاوز 60٪ خلال السنوات الماضية.
النزوح، والانهيار الاقتصادي، وتفكك النظام القضائي، ساهمت في تفاقم الوضع، لتتحول الكثير من المنازل إلى بيئة خصبة للتوتر والانفجار العاطفي والعنف، خصوصًا مع ضعف الحماية القانونية وغياب مراكز الإيواء أو الإرشاد النفسي للأسرة.
وحسب تقارير حقوقية، لا تقف جرائم العنف الأسري عند حدود العنف اللفظي أو الجسدي فحسب، بل تتعداها إلى جرائم قتل مروّعة باتت تتكرر بوتيرة مقلقة. فقد وثّقت جهات حقوقية أكثر من 160 جريمة قتل عائلي خلال أقل من أربع سنوات فقط.
بينما تشير تقارير أخرى إلى أن عدد الضحايا بين عامي 2016 و2024 تجاوز 179 قتيلًا وأكثر من 50 جريحًا، أغلبهم من النساء والأطفال. ورغم أن هذه الأرقام تمثل ما تم توثيقه فقط، إلا أنها تعكس خطورة الظاهرة، وتؤكد أن اليمن أمام أزمة إنسانية وأخلاقية صامتة تحتاج إلى وقفة مجتمعية وقانونية حاسمة.
-تحديث التشريعات
وفي هذا السياق، ترى المحامية والصحافية اليمنية شيماء القرشي أن القانون اليمني لا يعرّف العنف الأسري كمصطلح قانوني مستقل، وإنما يتعامل مع الأفعال التي تقع ضمن هذا الإطار كجرائم جنائية مصنفة بمسمياتها الخاصة، ولكل منها عقوبة محددة.
فعلى سبيل المثال، عندما يُقدم الزوج على قتل زوجته أو أحد أفراد أسرته، فإن الفعل يُعد جريمة قتل عمد وفقًا للقانون، ولا يُصنّف تحت بند "العنف الأسري"، وإذا لم تتحقق نتيجة القتل، فإن الفعل يُعد شروعًا في القتل، بحسب توصيف القانون.
وأكدت، في تصريح لقناة "بلقيس"، أن "العنف الأسري من الناحية الاجتماعية والقانونية يُفهم على أنه سلوك إيذائي متكرر داخل الأسرة، يشمل الإيذاء الجسدي مثل الضرب، الحرق، التسبب بتشوه أو إصابات، وكذلك الإيذاء النفسي كالإهانة، الانتقاص، السب، التهديد، أو حتى الحرمان من الحقوق. لكن القانون اليمني لا يتعامل مع هذه الأفعال كمفهوم موحد تحت عنوان "العنف الأسري"، بل ينظر لكل فعل على حِدة".
وتشير المحامية شيماء القرشي إلى أن استمرار العنف الأسري طويل الأمد قد يقود إلى ارتكاب جرائم جنائية أسرية، كنتاج لتراكم الإيذاء، معتبرة ذلك "توصيفًا شخصيًا" لها، في ظل غياب نصوص قانونية تعالج العنف الأسري كجريمة قائمة بذاتها.
ونوّهت إلى أن قانون العقوبات اليمني تناول بعض الحالات الخاصة، منها المادة "233"، التي تنص على سقوط عقوبة الإعدام عن الأب أو الأم في حال ارتكابهم جريمة قتل بحق أولادهم، والاكتفاء بإلزامهم بدفع الدية، وذلك استنادًا إلى قاعدة "لا يُقتل الأصل بالفرع".
وعن آليات الحماية، لفتت إلى الدور الذي تلعبه بعض المنظمات في تقديم الدعم القانوني والمشورة للنساء، وتوفير محامين لمن لا يستطعن تحمّل أتعاب المحاماة، مضيفة أن كثيرًا من النساء لا يسعين إلى عقوبات جنائية بل يطالبن فقط بإنهاء علاقة زواج مؤذية.
وعبّرت عن قناعتها بأن العُرف القبلي في كثير من المناطق أقوى تأثيرًا من القانون في قضايا العنف الأسري، إذ يمنح المرأة نوعًا من الحماية المعنوية قد تفتقر إليه في النظام القضائي الرسمي.
ودعت المحامية إلى الاستفادة من تجارب بعض المحافظات كالمهرة ومأرب وحضرموت، التي شهدت مبادرات نوعية مثل تفعيل خطوط الإبلاغ الساخنة، وتوفير دور إيواء للنساء المعنفات، وفرص عمل وتأهيل للضحايا. وشددت على أهمية تحقيق عدالة انتقالية شاملة لإصلاح مؤسسات الدولة، لا سيما المعنية بالمرأة والأسرة، وتحديث التشريعات بما يضمن حماية حقيقية للضحايا.
- تراكمات معيشية ونفسية
من ناحيتها، ترى الصحفية المتخصصة في قضايا العنف الاجتماعي، سهير عبدالجبار، أن تصاعد العنف الأسري في اليمن لا يمكن فصله عن جملة من التراكمات النفسية والمعيشية والاجتماعية، تفاقمت خلال سنوات الحرب التي تشهدها اليمن منذ عشر سنوات.
وتوضح أن انقطاع المرتبات، وغياب الاستقرار، خلقا فراغًا قاتلًا في حياة الكثير من الرجال، أدى إلى انتشار عادات سلبية؛ مثل السهر ليلًا، وتعاطي القات، والتكاسل عن العمل، الأمر الذي انعكس بشكل مباشر على الأسرة، حيث فقد كثير من الرجال قدرتهم على تحمّل المسؤولية، مقابل تحميل النساء وحدهن عبء استمرار الحياة الزوجية.
وتؤكد سهير، في تصريح لقناة "بلقيس"، أن المرأة أصبحت تُهمل صحيًا ونفسيًا، وتُذل أحيانًا بأطفالها، وتُجبر على البقاء في بيئة مضطربة، خوفًا من الطلاق أو التشرّد، في ظل غياب قوانين عادلة تنظم العلاقة بين الزوجين وتحمي الطرف الأضعف وهي النساء.
وتشير إلى أن بعض جرائم القتل داخل الأسرة تعود في جذورها إلى رفض الآباء إعادة بناتهم إلى بيت الزوجية، استنادًا إلى اعتبارات اجتماعية قد تكون مبررة أحيانًا، خصوصًا حين يُظهر الزوج عجزًا واضحًا عن تحمّل مسؤولياته تجاه زوجته وأطفاله.. مشيرة إلى أن بعض الأزواج يفرّغون مشاعر الغضب والفراغ في ممارسة العنف ضد الزوجة، متعاملين معها كما لو كانت خادمة لا تملك من الحقوق سوى الطاعة وتنفيذ الأوامر، في تجاهل تام لإنسانيتها وكرامتها.
- هشاشة النسيج المجتمعي
وتوافقها في الرأي، الخبيرة المجتمعية الدكتورة نبيلة سعيد التي أكدت أن أبرز أسباب تفشي العنف الأسري في اليمن تعود إلى تدهور الحياة العامة وهشاشة النسيج المجتمعي، نتيجة عوامل متعددة؛ أبرزها الفقر، والبطالة، وعدم الاستقرار النفسي، وتفاقم الأزمات المعيشية التي انعكست على العلاقات الأسرية والاجتماعية.
وأوضحت، في تصريح لقناة "بلقيس"، أن استمرار الحرب وتعطيل المصالح العامة لليمنيين ساهم في تفكك الروابط الأسرية وارتفاع معدلات الجريمة، مشيرة إلى أن الفقر وتغييب الخدمات الأساسية التي تُقيم الحياة الإنسانية تقف على رأس الأسباب المؤدية إلى العنف داخل الأسرة.
وبشأن الحلول والمعالجات، تؤكد الدكتورة نبيلة سعيد أهمية رفع مستوى الوعي المجتمعي في كيفية التعامل مع التحدّيات الراهنة، وتعزيز كفاءة الدعم النفسي والأسري والاجتماعي، إلى جانب توفير فرص عمل عادلة للنساء والرجال على حدٍ سواء، وضرورة فتح مساحات آمنة للحوار الأسري والمجتمعي، باعتبارها خطوات محورية للحد من تصاعد العنف وحماية الأسرة اليمنية من التفكك.
وهكذا، بات العنف الأسري في اليمن واقعًا مريرًا يتكرّر بشكل شبه يومي. وفي ظل هذا التصاعد، يبدو أن المعالجة لا تحتمل التأجيل، إذ لا يكفي الصمت ولا التنديد بعد وقوع الجريمة، بل هناك حاجة ملحّة إلى إصلاحات تشريعية، وحلول مجتمعية، وأدوات حماية فاعلة تضمن للأسرة اليمنية حقها في الحياة بكرامة وأمان.