تقارير
مشيرة .. رحلة شاقة في تحدي الظلم المجتمعي وإثبات الذات
قناة بلقيس – حسان محمد
التحرر من العنف الأسري، وتسلط الرجل لم يكن سوى أول التحدّيات، التي واجهت "مشيرة" (30 عاماً) في رحلتها الشاقة نحو النجاح، والتحوّل من ربّة بيت مضطهدة إلى صاحبة مشروع واعد في صناعة الحلويات والمعجّنات، ومعيلة لأسرتها ووالدتها، التي تصارع مرض السرطان منذ سنين.
تمتلك "مشيرة" من الشموخ وعزّة النفس ما جعلها تتمرّد على المجتمع، وتصرخ في وجهه رافضة أن تعيش مسلوبة الإرادة تحت رحمة من لم يعرف قدرها، أو أن تقبل بالمعاملة غير اللائقة، وتحيا مستسلمة لواقعها، ومكسورة الجناح، فقررت أن تشق طريقها الوعرة معتمدة على نفسها، ومتسلحة بعزيمة لا تعرف الرضوخ.
تمرد وإصرار
عادت مشيرة إلى منزل والدها، طالبة الطلاق، والتحرر من العيش مع زوج تنكّر لمشاعرها التي لم تبخل بها عليه، فقابلها بالقسوة والظلم، وحوّل حياتها إلى ليل دائم، إلا أن الزوج واجه طلبها للطلاق بالرفض، والإصرار على عودتها إلى منزله.
لم يكن أمامها سوى التوجّه إلى المحاكم لطلب الخُلع، على الرغم من رفض عائلتها التي تخشى من الثقافة المجتمعية، التي تعيب على المرأة الذهاب إلى القضاء لأخذ حقها في اختيار حياتها، بالإضافة إلى وضع الأسرة المالي الصعب الذي لا يمكّنها من تحمّل نفقات المحاماة والمتابعة.
كانت مشيرة تعرف أن حياتها بعد الطلاق لن تكون مفروشة بالورد، وعليها أن تتخطى رحلة شاقة وتتحدّى صعوبات جمّة للاستقلال بذاتها، والاعتماد على نفسها في توفير كافة المتطلبات، ومساعدة الأسرة، لكنها أصرّت على قرارها، واتجهت إلى "اتحاد نساء اليمن" للحصول على الدعم القانوني، واستطاعت تحرير نفسها، والحصول على الطلاق.
بداية صعبة
خلال فترة المحاكمة، التي استمرت ما يقرب العام، بدأت بمبلغ صغير استدانته من صديقاتها لإعداد "الذمول" في المنزل، وبيعه على أحد أصحاب البوفيات مقابل نسبة من المبيعات، والتحقت بعد الطلاق بدورات تدريبية لصناعة الحلويات والمعجنات في "المساحة الآمنة" بأمانة العاصمة، التي يشرف عليها "اتحاد نساء اليمن"، ويمولها صندوق الأمم المتحدة للسكان، وأثبتت جدارتها في الحصول على مشروع التمكين المتمثل ب: فرن، واسطوانة غاز، ومعدات أولية، لإنشاء معملها المنزلي الخاص بصناعة الحلويات.
واستطاعت بعزيمتها القوية تحدّي ظروفها، وأن تصير المعيل الرئيسي للأسرة، والمتكفلة بوالدها المسنّ، ووالدتها المصابة بمرض السرطان، مؤمنة بأن الظروف وحدها من تصنع شخصية الإنسان، وهي من جعلتها تكوّن جيشا هي فيه القائد والمحاربون، كما تقول لـ"بلقيس".
وبأدوات أوليه متواضعة، ومعمل منزلي لا يعرفه أحد، بدأت تزاحم المنافسين في سوق الحلويات، التي تكثر فيها الأسماء الكبيرة، والخبرات الطويلة، التي احترفت المهنة منذ عقود.. ومن محل كوافير تمتلكه إحدى صديقاتها، شرعت في توزيع منتجاتها على الزبائن، والانتشار بشكل أوسع.
وصارت مشيرة تتلقى الطلبيات وتزيّن بالحلويات و"الترت" والمعجنات، التي تتفنن في صناعتها، مناسبات كثيرة ك: أعياد الميلاد، والزواج، وحفلات الولاد، والأعياد الدينية، وتتلقى اتصالات مستمرة من الزبائن، أغلب أيام الأسبوع.
عوائق مجتمعية
وتعد مشيرة واحدة من النساء اللاتي برزن، خلال سنوات الحرب، وقمن بإنشاء مشاريع داخل المنزل، مثل: إنتاج الطعام والمأكولات، أو التحقن ببعض المهن، التي كانت حكراً على الرجل، وممارسة التجارة، وبيع الملابس والإكسسوارات عبر الإنترنت، ووسائل التواصل الاجتماعي. بحسب دراسة صادرة عن مركز صنعاء للدراسات الإستراتيجية، تؤكد أن عدد الأسر التي تقودها النساء في اليمن ارتفع بشكل كبير خلال الآونة الأخيرة، وأصبحت المرأة المعيل الرئيسي في كثير من الأحيان.
وبشكل مستمر تعمل على تطوير نفسها، ولم تتوقف عند صناعة الحلويات والمعجنات، وحصلت على "دبلوم طباعة"، وتدرس حاليا "دبلوم سكرتارية" على الانترنت، وتحلم أن تفتتح محلاً لبيع وتوزيع منتجاتها، وتطوير مشروعها بشكل اكبر، ليوفّر فرص عمل لعدد من النساء.
تجتهد مشيرة في تحقيق نجاحات متوالية، إلا أن النظرة المجتمعية للمرأة المطلّقة تمثل لها عائقا كبيرا في بلد يحتل المرتبة الأخيرة لـ 13 سنة على التوالي في المؤشر العالمي للفجوة بين الجنسين، الذي وضعه "المنتدى الاقتصادي العالمي"، ووصفته "منظمة العفو الدولية" بالبلد الأسوأ للنساء في العالم، وتسيطر عليه ثقافة عدم المساواة في النوع الاجتماعي، المترسخة بشدة في مجتمع موغل في النزعة الذكورية، والصور النمطية السلبية للمرأة، ويحكمه النظام القانوني التمييزي، وانعدام المساواة الاقتصادية.
البحث عن السعادة
عاشت مشيرة ظروفا قاسية، وحطمت الأيام قلبها وأحلامها مرارا، إلا أنها دائما تقف شامخة، وتنشر الابتسامة والأمل حيثما حلّت، وتحاول تطبيب أوجاع الناس ومساعدتهم بكل ما تستطيع.. وفي كل زيارة تأخذ فيها والدتها إلى مركز علاج السرطان، لا تتوانى عن تقديم العون لكافة المرضى، ورفع معنوياتهم، وتقديم النصائح لهم.
تعلمت مشيرة من المشاكل، التي واجهتها، كيف تعيش حياتها بسعادة، وترمي بالهموم والمعاناة ووجع السنين خلف ظهرها وتبتسم، وتصبر على فراق طفلها الوحيد، الذي أعطت المحكمة حضانته للأب، كونها من طلبت الخلع، واكتفت بزيارته مرتين في الأسبوع.
تقول مشيرة، بصوت مفعم بالتفاؤل والحياة: "تأتي على الإنسان أوقات يشعر فيها بأشد درجات الإحباط، ويرى كل شيء متشحا بالسواد، فيرثي نفسه، ويعتقد أنه لا سبيل للوقوف مرة أخرى، لكن التمسك بالأمل والعزيمة تجعله يعود أقوى، وتغرس في قلبه القدرة على المقاومة والتحدّي".
أ