تقارير
منال.. أقدم مشرّدة يمنية سبقت زمن الحرب
عند تمام السابعة من صباح كل يوم، تكون المرأة الخمسينية قد استيقظت من نومها، حيث ترقد وسط "ثكنة" خشبية، وضِعت خصيصاً لها بأحد الأزقة المجاورة لشارع 'المطاعم' في منطقة 'التحرير'، بالعاصمة صنعاء.
منذ الصباح الباكر، بجسدٍ ممتلئ وقامة قصيرة، وبشرةٍ سمراء تظهر جلياً من لون كفيّها. تبدأ منال رحلة تجوالها اليومية، في المناطق القريبة من ميدان 'التحرير'، حتى عودتها بوقت متأخر من مساء كل يوم، وبصورة مستمرة، مُذ أكثر من '15' عاماً، وهي تقضي جزءا من حياتها في الشتات، كأول مشرّدة يمنية في ذاك المكان، المزدحم بالآف العابرين.
تقول منال لبلقيس: "أرقد آخر الناس، وأصحي قبلهم". فصحْو منال الباكر ومأواها المتأخر، لا يعني ارتباطها بعملٍ ما، تتقاضى منه أجراً، تستعين به على قضاء احتياجاتها الضرورية، بل تحت تأثير ضجيج الحياة في المكان، وزحمته الشديدة بكثرة المارّين، بذاك الإرهاق المُزمن يُسلب النوم من جفنيّها. وهي المشرّدة التي سبقت أوانها، لتسبق مُشرّدين كُثر، كانت الحرب قد ألقتهم في سعيرها، وعرّضتهم لهوان النزوح، وبُؤس التشرد.
تقول منال لبلقيس: "أني تشرّدت قبل الحرب بسنين، بسبب مشاكلي العائلية، أصلاً أني واجيه من عدن لهنه". يُدرك حقيقة تشرّدها كثير من مالكي المحلات في ذاك المكان، تحديداً أصحاب 'المطاعم' و'البوفيات'، كونها كثيرة التردد على محلاتهم، نظراً لحاجتها للأكل، إذ تُمنح لها الوجبات مجاناً بصورة يومية من الجميع، منذ أن وطأت قدماها منطقتهم.
الشاب الثلاثيني وائل مدهش، نجل "مدهش" أشهر بائع للشاي العدني في شارع 'المطاعم' في صنعاء، يقول لبلقيس: "نعرفها كلنا، ونجيب لها تأكل وتشرب، لأنه ماهلش معاها أحد، يا أخي مسكينة"
وحين تبادلا الحديث، ضحك وائل ممازحاً المشرّدة منال، بقوله: "هذي بلطجية، من حق عفاش، من اللي كانوا بالمخيّمات بالتحرير".
تبدو حقيقة امرأة مشرّدة أمراً بالغ التعقيد، خصوصاً في المجتمع اليمني الذي يخالط تفكيره، كثير من الهواجس التي تحتاج لفك شفراتها، وحل عُقدتها.
لم تختار منال التشرّد سبيلا لما تبقّى من حياتها، لكنها كانت مُجبرة على العبور فيه.
تروي جزءا من مأساتها، فتقول لبلقيس: "كنت مش طايقة العيشة، بسبب مشاكلي الكثيرة معه، وما فيش ولا واحد من الأهل وقف معي، كلهم أجبروني أني أستمر أعيش مع الرجل، وأني مش قادرة عاد أعيش معه، لما تطلقت منه، ولا أحد قبلني من الأهل، أصلاً أنا يتيمة الأب والأم، مشيت لي صنعاء من يومها لليوم". تعيش منال حياة التشرّد منذ أيام السِلم، أي قبل أن تندلع الحرب في اليمن، وتعمل على تشريد الآلاف من السكان من منازلهم في مختلف مناطق الريف والمدن اليمنية، حيث ألفت المرأة تشرّدها المُر، وظروفها القاسية بلا أهلٍ، بلا مأوى، بلا سكنِ.
تقول منال لبلقيس: "بهدلة وقهر، لكن أيش أسوي؟ خلاص تعودت على هادي البهدلة".
مقابل ألفتها للمكان وأهله، يألفها كثيرون منهم، ويساعدونها في أمور معيشتها الضرورية.
الحاج السبعيني (س. العزعزي) مالك أحد المطاعم في التحرير، يقول لبلقيس: "هذه مسكينة، وما فيش معها أحد، تجي تأكل وتشرب في المطعم عندي في أي وقت، ضروري نساعدها".
ويعد المكان ملتقًى لكثير من الناس بمختلف انتماءاتهم بصورة يومية، معظمهم يعرفون المشرّدة منال، إذ يبدون معها تعاطفاً من جانب إنساني بشكل دائم. عبدالملك الصلوي، فني تخدير خمسيني، يرتاد شارع المطاعم من وقتٍ لآخر، يقول لبلقيس: "هذي مسكينة، وكلنا معانا مكالف، الواحد يساعدها باللي يقدر عليه".
في بلدٍ كاليمن، يتعرّض مواطنوه لأقسى العذابات، وتنقضي أيامهم على هيئة نوع من العقوبات الأليمة، تحالف الخسارات حظوظهم، وتبقى أعمارهم مجرد أرقام فقط، خالية من مظاهر النعيم، وفردوس الخلود.
تشرّدت منال والبلد كان مستقراً نوعاً ما، واعتبرت أول امرأة مشرّدة دون إحصاء رسمي، وفقاً لمن عرفوها عندما قدمت من محافظة عدن إلى صنعاء، لتأوي كل مساءاتها متشرّدة ووحيدة، لكن التشرّد وحياة الشتات لازمت كثيرا من اليمنيين (نساءً، ورجالاً، وأطفالاً)، الذين شهدت مناطقهم مواجهات عسكرية أو تعرّضت للقصف الجوي، إذ صار كثير منهم، المُعدَمون تحديداً، يفترشون وعوائلهم الأرصفة وبعض الأزقّة، مُتخذين منها مأوى وطريقة حياة موجعة.