تقارير
هل تنوي السعودية والإمارات السيطرة على أراض يمنية إلى الأبد؟
يثير الوجود العسكري السعودي والإماراتي في الأراضي اليمنية علامات استفهام عديدة حول أهدافه وغاياته النهائية، خصوصا مع تمدده إلى مناطق وجزر إستراتيجية لا تشهد مواجهات مع الحوثيين وبعيدة عن خطوط التماس، مما يجعل مبرراته الأمنية والعسكرية محل جدل متزايد.
ففي حين تؤكد الرياض وأبوظبي أن وجودهما العسكري يأتي في إطار "التحالف لدعم الشرعية" ومكافحة النفوذ الإيراني والتهريب، تشير الوقائع الميدانية إلى أن هذا الوجود تجاوز بكثير حدود الدعم العسكري المؤقت، ليتحول إلى تموضع طويل الأمد، تمثل في بناء قواعد، وإنشاء مطارات، والسيطرة على موانئ وجزر ذات أهمية جيوسياسية في البحرين العربي والأحمر، وكان آخر ذلك بناء مدرج طيران في جزيرة زقر بالبحر الأحمر.
- صراع نفوذ في أرض ذات سيادة
ما يجري في الأراضي اليمنية من تحركات ووجود عسكري سعودي وإماراتي يعكس صراع نفوذ بينهما، فالدولتان تتفقان على دعم مشروع الانفصال لكنهما تختلفان على النفوذ سواء من خلال الوجود العسكري على الأرض أو الهيمنة عبر الوكلاء، ففي حين تُحكِم الإمارات قبضتها على مدينة عدن وأرخبيل سقطرى وجزيرة ميون والساحل الغربي، فإن السعودية تركز حضورها في المهرة وحضرموت ومناطق الشريط الحدودي مع اليمن في محافظة الجوف.
هذا التوزيع الجغرافي لا يوحي بتوزيع تكاملي بقدر ما يعكس تقاسما غير معلن للنفوذ، وهو ما يثير المخاوف من أن يكون هدف التحالف الحقيقي إعادة رسم خريطة اليمن السياسية بما يخدم مصالحه الأمنية والاقتصادية على المدى البعيد.
وهناك مؤشرات تلفت الانتباه إلى أن الدولتين لا تكتفيان بإدارة نفوذهما عسكريا، وإنما تعملان على ترسيخ وجود مؤسسي وأمني داخل تلك المناطق، من خلال تشكيل قوات محلية موالية لهما، وإقصاء السلطات الشرعية، والتحكم في الموارد والموانئ والمنافذ البرية.
كل ذلك يطرح تساؤلا جوهريا: هل باتت السيطرة على الأراضي والجزر اليمنية جزءا من إستراتيجية دائمة تسعى من خلالها السعودية والإمارات لضمان نفوذ بحري وإقليمي مستدام، أم أن الأمر مجرد مرحلة مؤقتة ستنتهي بانتهاء الحرب؟
تميل الوقائع حتى الآن إلى الاحتمال الأول، إذ لم تظهر حتى الآن أي بوادر انسحاب حقيقي أو نية لتسليم تلك المواقع للدولة اليمنية، مما يجعل مستقبل سيادة البلاد على أراضيها موضع قلق وريبة، خصوصا أن سياسة التحالف في تعزيز وجوده العسكري على الأرض اليمنية ما زالت قائمة.
فالسعودية ما زالت تدعم تشكيل فصائل مسلحة موالية لها (قوات درع الوطن) على غرار الإمارات التي شكلت قوات موالية لها (النخب والأحزمة الأمنية والعمالقة وقوات طارق صالح)، فضلا عن استمرار تعزيز الهيمنة والنفوذ في المناطق التي تُحكِم كل منهما قبضتها عليها.
- الموقع الإستراتيجي والثروات
لليمن موقع إستراتيجي مهم يمكنه من التحكم بأهم المضائق البحرية والملاحة الدولية، كما تمتاز أراضيه بالثروات المعدنية المختلفة التي لم تُستخرج بعد، ولعل ذلك ما يثير رغبة السعودية والإمارات في السيطرة على بعض الجزر والمحافظات اليمنية، خصوصا أن تجربة السعودية في السيطرة على نجران وجيزان وعسير في ثلاثينيات القرن الماضي تدفعها هي والإمارات إلى تكرار تلك التجربة في الوقت الراهن.
تدرك السعودية أن الظروف الحالية تشبه إلى حد كبير لحظة الضعف التاريخية التي مكنتها في ثلاثينيات القرن الماضي من السيطرة على نجران وعسير وجيزان وضمها إلى أراضيها، وهي تسعى اليوم إلى تكرار التجربة في المهرة وحضرموت وربما في أجزاء من الجوف، بينما تسعى الإمارات للسيطرة على الجزر اليمنية في البحرين الأحمر والعربي.
وتمثل هشاشة الدولة اليمنية وانقسام قواها فرصة ذهبية للرياض وأبوظبي لبسط سيطرتهما على بعض الأراضي اليمنية، فالمناطق والجزر التي ترسخان فيها حضورهما ليست ساحات حرب، وإنما هي أراض غنية بالنفط والمعادن وتشكل عمقا جغرافيا آمنا لأي توسع محتمل، ويتم ذلك التمدد تحت مظلة الحرب على الحوثيين ومكافحة التهريب، وهي عناوين فضفاضة تُستخدم لتبرير تمركز طويل الأمد يعيد رسم حدود النفوذ وبسط السيطرة على أراضٍ يمنية.
يضاف إلى ذلك أن الإمارات تعمل بهدوء وفعالية أكبر في مناطق النفوذ الاقتصادي والبحري، فبالإضافة إلى وجودها العسكري، فإنها تدير عمليات استخراج ونقل للمعادن والذهب من شبوة وحضرموت، حسب إفادات ناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي، وسط صمت مطبق من الحكومة اليمنية، رغم أن الوقائع على الأرض، من بناء مدارج مطارات في الجزر وقواعد عسكرية إلى تعزيز هيمنة قوات محلية موالية، تشير إلى مشروع اقتصادي-عسكري متكامل، يهدف إلى نهب الثروات وتأمين موقع دائم في البحرين العربي والأحمر، وضمان حضور إستراتيجي على خطوط الملاحة والتجارة الدولية.
تتبع السعودية والإمارات خطة واحدة لكن بأدوات مختلفة، فالأولى تسعى إلى فرض واقع حدودي جديد يوسع مجالها الحيوي، بينما الثانية تبني نفوذا اقتصاديا وبحريا يضمن لها السيطرة على الموانئ والموارد.
وبين هذا وذاك، يجري اللعب على وتر الانقسامات اليمنية الداخلية وتغذيتها، لتبقى الدولة اليمنية معطلة وغارقة في صراعاتها، وعاجزة عن توحيد قرارها واستعادة سيادتها، فكلما تعمقت الانقسامات، سهُل تمرير مشاريع السيطرة، وتحولت الحرب إلى غطاء دائم لإدارة مناطق النفوذ دون كلفة سياسية كبيرة.
ووراء هذا المشهد، يلوح هدف أبعد، وهو تثبيت واقع تفتيت طويل الأمد يُبقي اليمن ضعيفا ومجزأً إلى كيانات تابعة أو خاضعة، بحيث تضمن السعودية عمقها الأمني في الشرق والحدود، وتضمن الإمارات خطوط تجارتها ونفوذها في البحر، وهو ما يسمى سياسة "النفوذ بالإنهاك"، حيث تتحول إطالة أمد الحرب إلى أداة لتوزيع الجغرافيا والثروة دون إعلان رسمي أو اتفاق مكتوب.
- أين دور الدولة والأحزاب؟
يطرح كل ما يجري سؤالا أكبر من مجرد الوجود العسكري للتحالف: لماذا لا يوجد أي موقف أو تعليق من جانب الحكومة اليمنية والأحزاب السياسية على تلك التصرفات التي تتجاوز حدود الحرب على الحوثيين إلى انتهاك صريح لسيادة البلاد؟ وكيف يمكن تفسير هذا الصمت أو التواطؤ الضمني تجاه تحركات تمس جوهر الدولة وكيانها السياسي؟
فالدولة اليمنية، التي يُفترض أنها الطرف الشرعي في التحالف، تبدو اليوم غائبة أو مغيبة عن موقع القرار والسيادة، ولم تصدر عنها مواقف واضحة أو حازمة تجاه الوجود العسكري الأجنبي المشبوه في الأراضي اليمنية، ولم تمارس صلاحياتها السيادية في الرقابة أو المساءلة، وكأنها تخلت عن أهم وظائفها وهي حماية التراب الوطني.
يفرض الواجب القانوني والدستوري على الدولة أن تحافظ على سيادتها وسلامة أراضيها، وألا تسمح لطرف خارجي بإنشاء قواعد أو فرض وقائع على الأرض، حتى وإن كان حليفا، فمبدأ السيادة لا يُنتزع بالحرب ولا يُجمد باتفاقيات ظرفية، وإنما يظل التزاما دائما غير قابل للتنازل عنه مهما كانت التحديات.
وإذا كان القانون الدولي يمنح الدول حق الاستعانة بحلفاء أو قوى صديقة في حالات الحرب، لكنه لا يجيز بأي حال من الأحوال تحويل المساعدة العسكرية إلى تموضع دائم أو استحواذ على الأرض والموارد، ولذا فإن الصمت الرسمي تجاه الوجود العسكري السعودي والإماراتي المشبوه والسيطرة على المدن والموانئ والجزر البعيدة عن مسرح الحرب على الحوثيين، يمثل إخلالا بالواجب القانوني للدولة، وتفريطا في حقوق الأجيال القادمة.
صحيح أن الأوضاع أصبحت الآن أكثر تعقيدا، لكن كان يُفترض بالحكومة اليمنية ألا تسمح بتجاوزات التحالف منذ البداية، وتكون صريحة معه بأن المطلوب هو الدعم العسكري فقط ضد الانقلاب الحوثي والنفوذ الإيراني دون أي تجاوزات تنتهك سيادة البلاد.
لكن الصمت المبكر على التجاوزات وانتهاكات سيادة البلاد شجعت التحالف على المضي في هذا المسار، والآن أصبح التعامل مع تلك القضايا بحذر شديد وصمت مريب، وكأن السيادة الوطنية أصبحت موضوعا محظورا في الخطاب الرسمي، مع أنه يفترض بالحكومة اليمنية أن توثق كل التجاوزات، وأن تقدم ملفاتها للأمم المتحدة ومجلس الأمن، باعتبارها خروجا عن مقتضيات التحالف.
أما الأحزاب السياسية، التي تدعي دفاعها عن الجمهورية والوحدة، فقد تراجعت عن دورها الرقابي والوطني، ولم نسمع صوتا واضحا يدين بناء قاعدة عسكرية أو استحداث مطار في جزيرة يمنية أو إخضاع القوات الأجنبية لرقابة الدولة، وكأن الأحزاب فقدت بوصلتها الأخلاقية والوطنية، بينما الواجب الأخلاقي والوطني يحتم عليها أن تتعامل مع مسألة السيادة باعتبارها خطا أحمر غير قابل للمساومة، لأن التفريط في السيادة يعني عمليا ضياع المشروع الوطني بأكمله.
والأخطر من ذلك هو الغياب شبه التام للتوعية الإعلامية للشعب تجاه هذه القضايا، فالإعلام منشغل بمعارك جانبية في الوقت الذي تُعاد فيه هندسة الجغرافيا اليمنية بصمت، وكان يفترض أن الإعلام يوقظ وعي الناس، وأن يجعل قضية السيادة موضوعا عاما يتحدث به الشارع ويمارس ضغوطه على مختلف الأطراف لإعادة النظر في الانتهاكات التي تطال سيادة البلاد، لأن حماية السيادة لا تتم فقط بقرارات فوقية وإنما بإرادة شعبية واعية.
ولذلك يجب أن تتشكل جبهة سياسية وإعلامية موحدة تعيد تعريف معركة اليمنيين بكل جوانبها، فالمعركة لا يجب أن تكون ضد مليشيا الحوثيين فقط، وإنما ضد كل مشروع يسعى لتجريد اليمن من استقلاله ومن قراره، وإعادة السيادة إلى شعب صار يُدار على أرضه بقرارات من طهران والرياض وأبوظبي.