تقارير
تهريب السلاح للوكلاء.. هل تعيد إيران تدوير الصراع الإقليمي؟
استأنفت إيران تهريب السلاح لمليشيا الحوثيين في اليمن ولحزب الله اللبناني، في وقت اعتقد فيه كثيرون أنها ستتوقف عن تزويد وكلائها في المنطقة بالسلاح بعد الضربات التي تعرضت لها، وأنها ستركز على تعويض خسائرها وبناء قدراتها العسكرية من جديد، بالإضافة إلى تغيير عقيدتها الدفاعية بعد أن أثبتت التطورات الأخيرة عدم جدوى تلك المليشيات التي كان موقفها باردا أثناء الضربات التي طالت منشآتها النووية ومصانع الأسلحة، وقضت على عدد كبير من علمائها النوويين وقيادات عسكرية بارزة.
وفي هذا السياق، أفادت مصادر إعلامية بأن إيران استأنفت تهريب السلاح إلى حزب الله اللبناني عبر شاحنات صغيرة مرورا بالأراضي السورية، وقد تمكنت الأجهزة الأمنية السورية من ضبط عدد من تلك الأسلحة المهربة وصادرتها، قبل وصولها إلى حزب الله في لبنان.
كما استأنفت إيران تهريب السلاح لمليشيا الحوثيين في اليمن، ويتم من حين لآخر ضبط بعض شحنات الأسلحة المهربة قبل وصولها إلى الحوثيين. أما المليشيات الطائفية العراقية التابعة لطهران، فإنها متخمة بالسلاح الإيراني، ومن المتوقع أن يزداد إمدادها بالسلاح دون ضجيج إعلامي، وذلك لمحاذاة إيران للعراق مباشرة، مما يجعل من تهريب السلاح أمرا سهل المنال.
- استمرار تصدير الفوضى للإقليم
تكشف عودة إيران لتسليح وكلائها، رغم اهتزاز صورتهم في ساحات المواجهة وعدم قدرتهم على الدفاع عنها، أنها لن تتخلى عن نهجها التقليدي المتمثل في تصدير الفوضى للإقليم. وفي الوقت نفسه، فهي تحاول الظهور بمظهر التعافي والقوة وعدم التأثر بعد الضربات المؤلمة التي تعرضت لها، فهي انكسرت بالفعل، وجُرِحت في كبريائها، ولذلك فهي تريد الآن إعادة ترميم التصدعات التي لحقت بمحورها، وإعادته إلى الواجهة.
تبدو إيران ومليشياتها الآن في مفترق طرق، فمواجهاتها الأخيرة مع الكيان الإسرائيلي، وما سبقها من تطورات لم تكن في مجملها لصالح إيران، كشفت عن الخلل الهيكلي في العلاقة التي تربط بين إيران ووكلائها، ومن ذلك أن ما يسمى بوحدة الساحات كان مجرد شعار بلا مضمون، فإيران تخلت عن وكلائها في لحظاتهم الحرجة والمصيرية، وهم أيضا تخلوا عنها في لحظة بدت مصيرية، بصرف النظر عن أي تفاهمات بينية تهدف لامتصاص الضربات وعدم التصعيد كي لا تندلع حرب إقليمية شاملة.
لقد استأنفت إيران تهريب السلاح لوكلائها بهذه السرعة رغم أنها لم تتعافَ بعد من الأضرار التي تكبدتها جراء الضربات الإسرائيلية والأمريكية، وهو ما يعكس إستراتيجيتها التقليدية المتمثلة في جعل المنطقة في حالة من الفوضى والاضطراب، لأنها بذلك تشكل بيئة خصبة للمليشيات الطائفية التابعة لها لتنمو وتزدهر ويقوى عودها، على العكس من الاستقرار الذي يُضعف تلك المليشيات، فالدولة التي تعتمد على المليشيات، وعلى مناطق رمادية للنفوذ، لا تستطيع أن تتنفس في بيئة مستقرة وغير مضطربة.
وبالتالي فالفوضى المنظمة هي البيئة المثالية لطهران، كونها تتيح لها التدخل دون أن تتحمل مسؤولية مباشرة، وتمنحها القدرة على إدارة الصراعات عبر "التحكم في درجة اللهب" من خلال وكلاء منتشرين في مناطق متعددة، ولذلك فكلما زادت الفوضى التي تحركها المليشيات الطائفية، تعتقد طهران بأن ذلك سيزيد من فرصها للتفاوض على الطاولة الدولية، وارتفاع قيمة أوراق الضغط التي تملكها.
- الاستعداد لمواجهات قادمة
كما أن استئناف إيران تهريب السلاح لمليشياتها بهذه السرعة، يأتي في سياق الاستعداد لمواجهات قادمة مع الكيان الإسرائيلي والولايات المتحدة، بيد أن ذلك يتطلب من إيران ومليشياتها تقييما شاملا للدروس المستفادة من المواجهات السابقة، التي كشفت محدودية قدرة تلك الأذرع على الردع الحقيقي، وعجزها عن التحرك خارج الإطار الدعائي، مما يضع طهران في مأزق صعب، فإما أن تطور أدواتها بشكل جذري، أو تحمل تبعات التراجع أمام خصومها في لحظات الحسم.
ستعمل إيران حاليا على ضمان أن تبقى ساحات نفوذها تحت التوتر المستمر، دون أن تنفجر بالكامل أو تنطفئ كليا. ورغم التقارير التي تتحدث عن استمرار عمليات تهريب السلاح الإيراني، يبدو أن المجتمع الدولي لا يتعامل مع الأمور بجدية كافية.
وهذا الغياب شبه الكامل للردع الدولي يجعل إيران في وضع مريح نسبيا، فلا رقابة جدية على تهريب السلاح، ولا إرادة دولية حقيقية لكبح نفوذها عبر الأذرع المسلحة، وهذا الوضع بالذات هو ما يجعل التهريب خيارا إستراتيجيا دائما لإيران لإدارة صراع طويل الأمد، بحيث تبقى حاضرة في كل ملف لـ"صيانة الفوضى"، وتنويع ساحات الاشتباك، وجعل المنطقة أسيرة إرهاق مزمن.
كما تدرك إيران أن الحرب الشاملة ليست مستبعدة، وعودتها لتهريب السلاح لوكلائها لا تعني الرغبة الفورية في التصعيد، وإنما الاستعداد لما قد يأتي، فساحة الصراع الإقليمي أشبه ببرميل بارود، وكل طرف يحاول الآن أن يملأ جعبته قبل اشتعال النيران.
بمعنى أن الوضع حاليا في مرحلة "ما قبل الانفجار"، سمته الأساسية تأمين مخازن الأسلحة، ونقلها إلى خطوط تماس متعددة تمهيدا لاستخدامها لاحقا أو للضغط تفاوضيا. ومع أن إيران قد خبرت نمط الاستهداف المباغت، فهي لم تعد تركن إلى قدراتها الذاتية فحسب، وإنما باتت تنظر إلى وكلائها بوصفهم خزانا احتياطيا للدفاع والهجوم في آن.
وبما أن الأحداث الأخيرة أثبتت أن المليشيات الطائفية ليست مؤهلة للرد نيابة عن طهران عندما تكون الأخيرة في موقع الدفاع، مما يعكس خللا جوهريا في العقيدة الردعية الإيرانية، التي ظلت لسنوات تروج لتكافؤ الردع عبر الوكلاء، فإن عودة إيران لتكثيف تهريب السلاح يعكس إدراكها بأن تلك المليشيات تعرضت لاستنزاف وإنهاك في جبهات داخلية وإقليمية، وبالتالي فهي بحاجة إلى إعادة تسليح وتحفيز، وربما إلى تجديد فكري يعيدها إلى حالتها "الثورية" الأولى.
- "الجبهة الحسينية".. بوابة صراع دائم
وسواء استمر صراع إيران مع القوى الكبرى، أو توصلت إلى مصالحات وتسويات تاريخية معها، ستبقى ما تسميها "الجبهة الحسينية" المرتكزة على مبدأ تصدير الثورة الخمينية إلى المنطقة بوابة صراع إقليمي لن ينتهي، بعد أن نجحت في تحويل الصراعات السياسية والمسلحة في الإقليم إلى جبهة عقائدية تتخذ من "الثأر للحسين" وما تسميه "نصرة المستضعفين" شعارات مركزية تُستدعى عند كل جولة صراع، خصوصا بعد أن أثبتت تلك الشعارات فعاليتها في تجنيد المقاتلين وتثبيت الولاءات العابرة للحدود.
ويخضع الحوثيون وحزب الله اللبناني والمليشيات العراقية، وكل من يندرج تحت ما يسمى "محور المقاومة"، لنفس الخطاب التعبوي المرتكز على شعارات "الثأر للحسين"، والذي يستخدم لتبرير العنف السياسي وتوسيع دائرة الاشتباك في الجبهات الداخلية، ولا شك أن هذا التوظيف العقائدي يزيد من تعقيد المشهد، لأنه يحول الصراع من حسابات سياسية مرنة إلى صراع عقائدي وجودي يستدعي المقدس والتاريخي ومزاعم المظلومية الموروثة.
وهكذا تصبح الجبهات الممتدة من صعدة إلى الضاحية الجنوبية في بيروت، ومن كربلاء إلى قم، أقرب إلى ساحة واحدة، تقاتل فيها إيران ومليشياتها تحت راية واحدة، حتى وإن اختلفت اللغات واللهجات.
وهذا ما يجعل أي محاولة لاحتواء إيران أو أذرعها صعبة، لأنها لا تواجه بعقل الدولة وإنما بعقيدة المليشيات وعقيدة الثأر للحسين، ولذا فالمنطقة مقبلة على دورات جديدة من التوتر، ولا تزال إيران ترى في وكلائها ورقة رابحة يصعب التفريط بها، حتى وإن خذلوها في اللحظات المصيرية.