تقارير

حاوره عبد الباري طاهر.. البروفيسور علي محمد زيد يكشف عن تشكل المقاومة الوطنية والصراعات في وسط الصف الجمهوري عقب قيام ثورة 26 سبتمبر

22/02/2025, 20:07:46
المصدر : حاوره عبد الباري طاهر - قناة بلقيس - خاص

عندما تقترب من عالم البروفيسور علي محمد زيد، تجد نفسك أمام شخصية فكرية متعددة الأبعاد، تتداخل فيها الرؤى النقدية مع السرد الأدبي، ويجتمع فيها المؤرخ بالمفكر الحداثي، والمترجم بالخبير الدولي. هو بحق رجل حمل همّ المعرفة وسعى إلى تفكيك تاريخ اليمن السياسي والفكري، ليس باعتباره ماضيًا جامدًا، بل كمسار ديناميكي يحمل في طياته الأسئلة الكبرى عن الهوية، والمقاومة، والتحديث، والانتماء.

وفي الواقع، الدكتور علي محمد زيد مفكِّر حداثي، ومثقّف متعدّد وعضوي. أديب سارد، وناقد أدبي، ومترجم، وخبير دولي في اليونسكو. درس الفكر العربي الإسلامي، بما في ذلك تيار الاعتزال في اليمن، كما تناول بالدراسة التيارات الأدبية والثقافية، وهو رمز من رموزها يمنيًّا وعربيًّا وعالميًّا. وهو أيضًا من رموز الحركة الوطنية الحديثة، وعضو في قيادة المقاومة الشعبية، التي اضطلعت بالدفاع عن صنعاء إلى جانب الجيش والأمن في حصار السبعين الشهيرة.

في هذه المقابلة، التي أجراها الصحفي عبد الباري طاهر، يفتح البروفيسور علي محمد زيد صفحات من تاريخ اليمن الحديث، مستعرضًا المقاومة الشعبية، وتحولات الجمهورية، والصراعات التي شكلت المشهد السياسي. كما يسلط الضوء على التيارات الفكرية، من الاعتزال إلى التجديد، محللًا كيف كانت المطرفية لحظةً فريدة في الفكر العربي الإسلامي، ولماذا انتهت بالقمع والإقصاء. أما في الجانب الأدبي، فيحدثنا عن مشروعه النقدي والروائي، من زهرة البن إلى الفقاعة، وعن عبدالله البردوني كحالة إبداعية استثنائية تجاوزت قيود الزمن والظروف.

وقد أصدر الدكتور زيد العديد من الأبحاث والمقالات والترجمات، وله عدد من الروايات الأدبية التي تميزت برؤية

 نقدية عميقة وتحليل دقيق للتحولات الاجتماعية والثقافية في اليمن والمنطقة.

إلى نص المقابلة: 

ـ س1: كيف تُقَوِّمون تجربة المقاومة الشعبية؟

ـ ج1: كانت المقاومة الشعبية مبادرةً شعبية لمساندة القوات المسلحة الجمهورية، التي تصدَّت لحصار صنعاء في آخر سنة 1967، ومطلع سنة1968، فقدَّمَت تجربة ممتازة لتضافر جميع القوى الجمهورية: مدنيةً، وعسكريةً؛ لصد أعتَى هجوم تعرضت له الجمهورية بعد انسحاب القوات المصرية من اليمن عَقِبَ هزيمة العرب خلال عدوان إسرائيل في يونيو 1967، وكان هذا التلاحم الشعبي بين جميع القوى الجمهورية سببًا في صمود النظام الجمهوري وبقائه.

ـ س2: قراءتكم اليوم لأحداث انقلاب 5 نوفمبر 1967، ولأحداث أغسطس 1968؟

ـ ج2: كان انقلاب خمسة نوفمبر 1967 مُتوقَّعا تمامًا؛ نظرًا لميزان القوى المختل الناتج عن أنَّ الجمهورية قامت على أيدي ضباط شباب لم يكونوا يقودون وحدات عسكرية يستطيعون بها مقاومة الهجمات الشرسة على الجمهورية الوليدة، فاعتمدوا في الغالب على المقاتلين من القبائل المحارِبة بقيادة مشايخهم. وسارت عملية إنشاء جيش جمهوري جديد يمكن للجمهورية الاعتماد عليه ببطء، وواجهت عراقيل كبيرة من المستفيدين من الحرب الذين لم يكن من مصلحتهم الاعتماد على جيش الجمهورية والاستغناء عن خدماتهم. وترتَّب على ذلك تقديم الجمهورية لثمن سياسي ومالي وتعزيز النفوذ الاجتماعي لكبار المشايخ؛ وهو ما اضطر الرئيس عبدالله السلال- أول رئيس للجمهورية، إلى الاعتماد على القوات المصرية. وحين خرجت تلك القوات استولى على السلطة زعماء القبائل المحارِبة المساندة للجمهورية. ومن حسن حظ الجمهورية أنهم كانوا ما يزالون يدركون عدم قدرتهم على تحمّل مسؤولية الدولة، فاحتاجوا إلى القاضي الإرياني ليكون رئيسًا للمجلس الجمهوري، وأرادوا أن يكون واجهة يتخذ القرارات باسمهم. ولأنه كان من بقايا الحركة الوطنية العاملة للتحرر من الإمامة، استعان بالتكنوقراط التحديثيين، فلم يستطع أولئك المشايخ دائمًا تمرير كل ما يريدون من خلاله. وقد أسقطوا حكومة محسن العيني سنة 1970، وحكومة أحمد محمد نعمان سنة 1971؛ لأنهما طالبا بإيقاف الميزانيات المخصصة لمشايخ القبائل المحارِبة ولجيشهم الشعبي الذي كان أغلبه على الورق فقط، أو يُستدعَى عند حدوث معركة؛ في حين تبقى الميزانيات دائمة تستنزِف الموارد الشحيحة التي ينبغي توجيهها للتنمية وتوفير الخدمات للمواطنين. ولم يقبلوا باقتراح الوسطاء تحويل تلك الميزانيات لصالح التعليم والخدمات في مناطق القبائل المحارِبة نفسها.

وكان الرئيس الإرياني يدرك أنه بدون قوة مستقلة تسانده، وأنهم يحتاجون إليه لوضع السياسات واتخاذ القرارات التي يريدون، فأمضى رئاسته في عملية مفاوضات معهم، ينجح أحيانًا في تمرير ما يريد ومعه التحديثيون من قرارات لصالح التغيير والتنمية بمساعدة القوى الجديدة في المجتمع، ويفشل في إقناعهم في أحيان أخرى، وعند الشعور بأنهم قد خرجوا تمامًا عن سلطته يرفع سلاحه الأثير، وهو تقديم اسقالته، وفي حالتين قدّم استقالته وغادر إلى الخارج، فيذهبون إليه ويعِدُونه بالسماح له بممارسة سلطاته الدستورية، ويعود عن الاستقالة. ولكنهم لا يُوْفون بوعودهم، وتعود ضغوطهم من جديد إلى أن انسحبوا عام 1974 من صنعاء، وهددوا بالزحف المسلَّح على المدينة، وتعاونوا مع الطامحين في خلافته من ضباط الجيش الذين حركوا ضده الوحدات العسكرية في صنعاء، وعندها أدرك أنه لم يعد أمامه سوى تقديم استقالته دون أي مقاومة ومغادرة البلاد إلى الخارج.      

ـ س3: ماذا عن تجربة الثورة اليمنية؛ 26 سبتمبر 1962، و14 أكتوبر 1963؟

ـ ج3: قيام الجمهورية في صنعاء، وثورة التحرير في عدن والجنوب اختصرا الزمن، ونقلا اليمن من عصور الظلام والانحطاط مرةً واحدة إلى العصر الحديث. كان الشمال، عند قيام الجمهورية، يعيش في القرون الغابرة، وكان الفقر والتخلف يشمل جميع مجالات الحياة. وفي الجنوب، باستثناء مستعمرة عدن، كان التخلف شاملاً، والفقر عامًا، والأمية سائدة. وهكذا باستثناء مستعمرة عدن كان اليمن كله يعيش خارج عصره، فكانت الثورة عملية قيصرية كسرت القيود، وفتحت الأبواب، ودعت إلى التغيير والعمل من أجل التنمية.

ـ س4: أحداث يناير 1986؟

ـ ج4: كانت أحداث 13 يناير في عدن مأساة مروِّعة؛ أفقدت تجربة اليمن الديمقراطية القدرة على إقناع اليمنيين بأنها طريقهم إلى البناء والتنمية، وكانت تلك الأحداث المؤسفة مقدِّمة لاختفاء التجربة بسهولة.  

ـ س5: لكم إسهامات في القراءة النقدية، لماذا لم تظهر؟

ـ ج5: لديّ عدد كبير من المقالات، نشرتُها في الصحافة قبل وصول التكنولوجيا الجديدة للمعلومات والاتصال والبعض بعد ذلك. وهي تحتاج إلى جهد كبير لجمعها ونشرها، في حين أنني أفضل حتى الآن بذل الجهد في كتابة موضوعات جديدة. لكن حتى كتاب «الثقافة الجمهورية في اليمن» فيه تناول نقدي للمؤلفات الجمهورية التي كسرت حاجز الجمود الثقافي، وتخطَّت الضمور السائد قبل قيام الجمهورية لمَلَكَة الكتابة والتأليف، وأطلقت عملية الإبداع المواكبة للتحديث في الثقافة العربية، مثل مؤلفات محمد أحمد نعمان، وقاسم غالب، ومحمد سعيد العطار، ومحمد علي الشهاري، وسلطان أحمد عمر، وأبو بكر السقاف. كما تناولتُ التجارب الثقافية لمبدعين مثل محمد محمود الزبيري، ومحمد عبد الولي، وعبده عثمان، ولطفي جعفر أمان، وعبدالله البردوني ومحمد الشرفي، وعبد العزيز المقالح. وفي كتاب «البردوني عزَّاف الأسى» دراسة نقدية لسيرة حياته ولمؤلفاته النثرية، وتتبُّع لملامح التجديد في شعره منذ أولى مجموعاته الشعرية «من أرض بلقيس»، حتى آخر مجموعة شعرية نشرت بعد موته بعنوان «العشق في مرافئ القمر».

ـ س6: ماذا عن كتابكم عن الشاعر الكبير عبدالله البردوني؟

ـ ج6: نتج هذا الكتاب عن شعور بأنَّ البردوني، الذي يشكل جسرًا ثقافيًّا مهمًا بين الثقافة القديمة والثقافة المعاصرة، لم يُدرَس كما ينبغي. فعلى الرغم من أنه يجسد قصة نجاح ثقافي باهر لمعوَّق فقير كافح للتغلب على إعاقات الفقر، وفقد البصر، وانعدام أي رعاية أسرية، أو رسمية حتى بلغ ما بلغ من مجد وشهرة، لم يُكتَب عنه سوى بعض المقالات والقليل من الدراسات التي تتناول بعض جوانب تجربته الإبداعية. البردوني يقدِّم تجربة ودرسًا بليغًا وقدوة لمن يريد أن يتجاوز ظروفه الإنسانية الصعبة والمحبِطة. فهو مثلاً يختلف عن طه حسين الذي ولد في أسرة من الأزهريين وجَّهوه منذ البداية نحو اكتساب المعرفة لتجاوز إعاقته، ووفروا له الدليل للتغلب على مصاعب فقدان البصر، والمساعدة لحمايته من المعاناة من صعوبة الظروف المعيشية، وقرأوا له المؤلفات والنصوص، وحصل على منحة إلى فرنسا؛ فوسع معارفه وقدراته، ووجد نفسه في بيئة ثقافية مستنيرة وغنية بالإبداع الثقافي، وسهولة الحصول على الكتاب وإنتاجه. وبالمثل كان أبو العلاء المعري ابن أسرة يعمل بعض أفرادها بالقضاء، وفَّرت له الدليل، ومن يقرأ له النصوص والكتب، ولم يعانِ من الحرمان المعيشي. أمَّا البردوني فقد تمرد على فقدان البصر، وغادر أسرته الفقيرة وقريته المهملة، وحيدًا، وهو ما يزال طفلاً، ملقيًا بنفسه في خضم حياة قاسية لم يكن لديه أي شيء من مقومات العيش فيها. ونَبَذَ قبيلته المحاربة التي ليس للرجل فيها قيمة إلا إذا حمل السلاح، واستعد للمشاركة في القتال. وكان من ذكائه في ذلك السن المبكر أن اتجه نحو المسجد (المدرسة) في مدينة ذمار الألفية، مع أنه في ظرفه الصعب لم يكن مؤهلاً سوى للضياع والتسوُّل ليكسب عيش الكفاف. لكنه صارع وعمل حتى بسقاية الماء ليكسب عيشه دون أن يتخلى عن حبل المعرفة الممتد لإنقاذه، الذي كاد ينقطع مَرَّات بين يديه لولا إرادته القويَّة وتصميمه وإصراره. وتواصلت النكبات في حياته، فاتُّهِم سنة 1948 بالمشاركة في الحركة الدستورية مع أنه كان في سن المراهقة، فدخل السجن. وبعد نحو سنة نُقِل مُقيَّدا من سجن ذمار إلى سجن صنعاء، التي لا يعرفها، ولا يجد فيها مَن يعرفه ومَن يساعده. وحين ألقاه السجن بعد فترة إلى العراء؛ لأنه بدون أهمية سياسية، أو أمنية، عاد إلى الضياع من جديد، بلا مأوى ولا زاد ولا دليل. وحتى الجامع الكبير في صنعاء أغلق أبوابه في وجهه فلم يستطع العودة إلى الدروس التي بدأها في ذمار. وحين نجح بعد تِيهٍ، دامَ بضع سنوات، بالالتحاق بالمدرسة العلمية لم يجد فيها أي زاد ثقافي يؤهله للنقلة النوعية التي صنعها بنفسه، من ثقافة عصر الانحطاط إلى الثقافة الحديثة. والأهم أنه لم يكن بين معلِّميه في ذمار أو صنعاء أي شاعر، لكنه اكتشف الشعر، وتعلق به وجعله مرادفًا لحياته. وهكذا بنى تجربته بنفسه، وبحث عن المداخل التي تساعده في التمرد على موروث عصور الظلام، وصنع بجده واجتهاده وانفتاحه على الثقافة الحديثة غير المتاحة بسهولة أسلوبه الإبداعي، وأثبت وجوده، وميز نفسه عن غيره من الشعراء التقليديين الذين كانوا غالبين على المشهد الثقافي في صنعاء. وجاءت الجمهورية؛ ففتحت الأبواب أمامه لصعود درجات الثقافة الحديثة، فدافع عن النظام الجمهوري الوليد وربط به حياته ومستقبله دون تردد.

دفعتني هذه الملحمة الفريدة لدراسة رحلته الكفاحية، التي بنى خلالها تجربته الثقافية والإبداعية، ولتتبع مراحل صراعه مع واقع صعب ليشق طريقه المستحيل.  

ـ س7: قراءتكم للفكر المعتزلي؟

ـ ج7: كان الفكر المعتزلي في البداية لحظة نقلت الفكر العربي الإسلامي من البساطة إلى التركيب، من رواية الأحاديث والسير والقصص والأشعار إلى بداية التفلسف. وكان دخول الفكر المعتزلي إلى اليمن متأخرًا قياسًا بالأقاليم العربية الإسلامية، وقد وصل إلى اليمن في مرحلة تحوَّل فيها إلى أيديولوجية لجماعة سياسية تسعى للوصول إلى السلطة. ومع ذلك أشرك اليمن في الجدل الفكري والسياسي الذي دار في الأقاليم العربية الإسلامية ولو متأخرًا. وبمرور الوقت حدث الانقسام والصراع بين التيارات المختلفة، فكان له نتائج مروِّعة تجلت في إبادة المطرَّفية. لكننا حين نتحدث عن الفكر المعتزلي باعتباره لحظة من لحظات الجدل الفكري في الثقافة العربية الإسلامية لا نعني بذلك التوقف عنده وجعله سلفية أخرى ندعو إلى العودة إليها والتمسُّك بها، بل بغرض الدعوة إلى التفكير العقلاني والإبداع الفكري الذي يتسق مع عصرنا، ويستجيب لمتطلبات تطورنا ولتحسين شروط حياتنا.

ـ س8: ما أهم سمات ما قدمته المُطَرَّفية من رؤى جديدة في الفكر المعتزلي، وهل قالت بإلغاء شرط البطنين للإمامة؟

ـ ج8: قدَّمت المطرفية رؤى جديدة في الفكر العربي الإسلامي استوحت بعضها من أكثر تيارات المعتزلة تقدمًا؛ مثل النظَّام والجاحظ ومعمَّر، وانفردت بمقالات لم يسبق إليها أي تيار في الفكر العربي الإسلامي؛ مثل القول بالأصول الأربعة للعالم، لعلها استمدتها من تراث منقول شفهيًا يعود إلى الفلسفة المادية ما قبل سقراط، فأخذت بالفِطَر أو الطبائع الملازمة لهذه الأصول الأربعة، وتفاعلها فيما بينها فتؤثر وتتأثر، وتُحِيل وتَسْتحيل، ووصلت عن طريق ذلك إلى استنتاجات أقرب إلى العلم الحديث، مثل القول: إنَّ الأمراض ناتجة عن مواد في المحيط مفطورَة على (أي من طبيعتها) إلحاق الضرر بجسد الإنسان، وكذلك القول: إنَّ المطر أبخرة البحار والأنهار تحملها الرياح، وأنَّ البرد قطرات ماء تجمدت في الهواء. هذا في الجانب الفكري. أمَّا في الجانب الاجتماعي والسياسي، فقد رأت أن الشَّرَف يُكتَسب بالعمل، وليس بالنسب، وهي فكرة لها مسوِّغاتها في الفكر العربي الإسلامي، وبنت على ذلك القول: إن الإمام ينبغي أن يستحق تولي حكم الناس بمؤهلات تجعله أفضلهم علمًا وجسمًا وأخلاقًا، ودون ذلك لا يستحق أن يحكمهم. وبذلك أبطلت عمليًا الوصول إلى الإمامة بالوراثة والنسب دون أن تقول ذلك صراحة. وقد كان هذا الرأي السياسي مصدر صراعها مع الأئمة في عصرها، واتهامهم لها بأنها "عطَّلت الإمامة"؛ لاستحالة العثور على من لديه شروط استحقاقها.

ـ س9: هل المخترِعَة بالنسبة للمطرفية أكثر ميلاً لفكر الأشعرية في إنكار طبائع الأشياء؟

ـ ج9: يُلاحظ أنَّ التيار المعتزلي الذي أُطلِق عليه "المخترِعَة"؛ لأنه قال إن الله يخترع الأعراض في الأشياء؛ لينفي أقوال المطرفية عن الفِطَر أو الطبائع الملازمة لهذه الأشياء، قد أخذ بأقوال أبي علي الجبائي- شيخ معتزلة البصرة في عصره، الذي جرت بينه وبين أبي الحسن الأشعري، مؤسس الأشعرية في علم الكلام، مناظرات معروفة. كما أن الفقيه البيهقي، الذي قَدِم من العراق مع القاضي جعفر بن عبد السلام لنشر أفكار معتزلية تتصدى لفكر المطرَّفية، كان من أتباع المدرسة الجُبَّائية.

ـ س10: نتائج القمع الدموي ضدها؟

ـ ج10: أدَّى القمع الدموي ضد المطرفية، على نحو غير مسبوق في تاريخ اليمن، إلى اندثارها واختفائها من كُتب التاريخ، وغَلَبَة رؤية المنتصرين عليها للتاريخ. لكن على المدى البعيد، تسبب هذا المستوى الوحشي من التعامل مع الاجتهادات الفكرية في ظهور تيار فكري جديد من داخل البيئة الثقافية نفسها يرفض أقوال المعتزلة جملةً وتفصيلاً، ويدعو إلى ترك التعصّب للمذاهب في مؤلفات محمد بن إبراهيم الوزير، وحسن الجلال، ومحمد بن إسماعيل الأمير، وأخيرًا محمد بن علي الشوكاني.

ـ س11: ترجمتم ندوة اليمن المعاصر، ماذا عن هذه الندوة؟ وماذا عن كتاب بول دريش عن الدولة والقبائل في اليمن، ورؤيته لتجذُّر الأعراف والتقاليد القبلية، وقدرتها على التكيف؟

ـ ج11: تم التخطيط لندوة هامبورج عن اليمن بالتعاون بين مراكز بحث أوروبية في فرنسا وألمانيا في لحظة كانت اليمن فيها، بعد الوحدة اليمنية، قد أطلقت الآمال العِراض بوجود بلد كبير في شبه الجزيرة العربية يمتلك المقومات المادية والبشرية والموارد اللازمة لبناء تجربة مميزة تستطيع مكافحة الفقر وتحقيق التنمية والنهضة. وهذا مصدر اهتمامي بترجمة هذه الدراسات ليطَّلِع اليمنيون عليها ويستفيدون منها في دراسة واقعهم، واقتراح الحلول المناسبة لمشاكل بلادهم. أمَّا كتاب «الدولة والقبائل في تاريخ اليمن الحديث» فهو ناتج بحث ميداني تناول مجتمع القبائل المحارِبة شمال صنعاء في لحظة كان فيها هذا المجتمع القبلي ما يزال مجهولاً للجميع: موروثُهُ التاريخي، وبنيته الاجتماعية، والأعراف والعادات التي تحكمه. وقد اندهشتُ بهذا البحث الذي ما يزال غير مسبوق على الرغم من مرور نحو أربعين سنة على إنجازه، وتحمست لترجمته كعادتي مع كل نص أترجمه. فأنا لا أترجم إلا ما يزيدني معرفةً وفهمًا للواقع من حولي.

ـ س12: تجربتكم الروائية ترجمةً وعملاً، ما البدايات؟ وكيف تنظرون إلى السرد في اليمن، وما جديد السارد زيد؟

ـ ج12: كتبتُ روايتي الأولى «زهرة البن»؛ لتلتقط تناقضات بداية التغيير الجمهوري. وتغوص روايتي الثانية «تحولات المكان» في لحظة كفاح الجمهورية من أجل البقاء وصراع الجديد من أجل تعميق مجراه داخل محاولات النهضة والبناء. هذا في لحظة كان فيها السرد الروائي في اليمن ما يزال يسير على خُطَى الرواد، وكانت هناك محاولات لشق طريق أصيل للرواية في الثقافة في اليمن، فأُنتِجَت تجارب روائية مختلفة مهَّدت لانتشار فن الرواية في الحركة الثقافية اليمنية. أمَّا روايتي «كوبنهاجن في بيتنا» فهي مستوحاة من لحظة كان اليمن خلالها المُصَدِّر الوحيد في العالم للبُن، الذي كان ثروة تشبه النفط حاليًّا؛ مما جعل اليمن مركز جذب عالمي بحثًا عن حقول هذا المنتج الزراعي الثمين، كمقدِّمة نتج عنها فيما بعد نشر زراعته في بلدان كثيرة في العالم حتى خسرت اليمن احتكارها لتصديره. وقد استوحيتُ مادة الرواية من وصول بعثة من الدنمارك إلى مسقط رأسي لمعرفة شجرة البُن وكيفية زراعتها، من بين أعضاء هذه البعثة عالم نبات له نظريات معروفة في علم النبات اسمه فورسكال. أمَّا روايتي الأخيرة «الفقاعة»، فتغوص في معاناة المثقف العربي المهاجر إلى الغَرب. يأتي محمَّلا بأحلام كبيرة ومشاريع ثقافية طموحة، فإذا به يضطر للقبول بوظيفة متواضعة، إن وَجَد، ليكسب لقمة العيش، ولا يكون أمامه سوى القبول الحزين بهذا الخيار البائس أو التمرد على هذا المصير؛ حفاظًا على تماسكه وعلى القيم التي حرَّكت حياته، ومن ثم تحمُّل ما يترب على خياره النبيل من نتائج قد تكون قاسية.

ـ س13: كأديب وباحث، ما قراءتكم للوضع الثقافي والأدبي في اليمن وعربيًا، وما قراءتكم للوضع العام عربيًّا وفي اليمن حاليًّا؟

ـ ج13: من الطبيعي أن يعيش الوضع الثقافي في اليمن، وفي العالم العربي، أزمةً عميقة ناتجة عن صدمة الإحباط الذي نعيشه، وعن سقوط جميع المشاريع السياسية والاجتماعية للنهضة والبناء، بما في ذلك البناء الثقافي. يزدهر الأدب والثقافة في لحظة نهوض عام، وانطلاق أحلام التغيير والمعاصرة والتقدم. صحيح أنَّ هناك محاولات فردية هنا وهناك، ومحاولات تنمية في بعض البلدان، لكن ازدهار الثقافة العربية والوصول إلى النهضة العامة تتحقق على مستوى الإقليم كله، وليس في جانب منه. بل إنَّ بلدانا، مثل اليمن والسودان وليبيا وحتى العراق وسوريا ولبنان وغيرها، تراجعت ثقافيًّا بشكل لم يتخيَّله أحد قبل ذلك، وتراجع فيها التعليم، واندثرت الصحافة الحرَّة، والمجلات الثقافية، والصناعات الثقافية إلى درجة لا تصدق. وانهارت الأحزاب، والمجتمع المدني الذي يُعدُّ رافعةَ العمل من أجل الحرية والديموقراطية والمشاركة الشعبية والتنمية والتطور. وقد كانت صدمتي كبيرة أنني وجدت في زيارتي الأخيرة شبابًا أميين في سن العشرين في منطقة كان التعليم الجمهوري فيها قد أصبح حقًا لكل طفل، وأنتجت معلِّمين بما يكفيها، ويوفِّر معلمين لمناطق أخرى. لا يمكن لهذا الدمار المنتشر وهذا التراجع الكبير أن ينتج ثقافةً ولا تنمية ولا مشروعا عاما للنهضة.

ـ س 14: رؤيتكم للمستقبل في اليمن وفي العالم العربي؟

ـ ج14: يُقال إنَّ كثيرين يمكن أن يُحدِّثوك عن الماضي، لكن قليلين جدًا يمكن أن يتنبَّؤوا بتطورات المستقبل. ومع ذلك، من المؤشرات الظاهرة للعيان يمكن إبداء بعض الملاحظات. لقد كان لدينا بيت مخلخل يحتاج إلى إصلاح أو إلى إعادة بناء، فجاءت ثورة الشباب بكثيرٍ من النيات الحسنة والحماسة، لكن بدون برنامج مدروس بعناية، وبدون قيادة مجرِّبة تنظر إلى البعيد، وتدرس المعطيات، وتحسب النتائج المترتبة على الفعل، فأسقطته أرضًا، لتأتي قوى الغَلَبَة المدَجَّجَة بالسلاح والعصبية؛ لسد الفراغ، وإنتاج الوضع الراهن المستعصي على إعادة لملمة النسيج الاجتماعي وحشده من حول مشروع واقعي وطموح لتحقيق الاستقرار الضروري لإعادة البناء والتطوير أملاً في حدوث نهضة مستقبلية. ولا يمكن الوصول إلى تحقيق هذا المشروع للنهضة والبناء بدون إقناع الناس الذين دفعوا ثمن التجارب الفاشلة من دمائهم ومن معيشتهم، ومن فقدان الأمل بتحقيق مستقبل أفضل لأولادهم. لقد نجحت الجمهورية في اليمن من خلال تضامن جميع القوى الحية في المجتمع دون تمييز، أو تعصب قبلي أو سلالي أو مناطقي. ولن يعود مشروع النهضة في اليمن وفي العالم العربي إلى الانطلاق دون العودة إلى المواطنين، وحشدهم للتضامن على طريق تحقيق هذا المشروع النبيل لإعادة بناء ما خربته سنوات الحرب. لقد عدنا إلى درجة الصفر في كثير من المجالات، وآن الأوان ليتوقف هذا الدمار، ونبدأ البناء من جديد. قد يقال: إنَّ الخارج يتدخل ويمنع الوصول إلى حل، لكن المسؤولية الأولى تقع على عاتق القوى الحية في كل مجتمع، وحين تتوافق على حلٍّ قائم على المساواة بين المواطنين، ويحافظ على أمنهم ومصالحهم ويشركهم في بناء حاضرهم ومستقبلهم، يمكنهم أن يقنعوا العالم بأنَّ أمن بلدهم واستقراره وتقدمه في مصلحة الجميع.

ـ س15: كخبير سابق في اليونسكو، ماذا عن تجربتكم فيها؟ وماذا عن رفيقكم المثقف والأديب والخبير الدولي في اليونسكو المرحوم الدكتور أحمد الصياد، ودوره في قيادة اليونسكو، ومعاناته وإبداعاته الكثيرة، ودوره في «كتاب في جريدة»؟ وماذا عن أعماله التي قُمتَ بجمعها وإصدارها؟

ـ ج15: تعاني المنظمات الدولية حاليًّا، بما فيها اليونسكو، من تراجع أحلام التضامن الإنساني بين بني البشر، وبين كل الثقافات في العالم. تلك الأحلام الكبيرة التي انطلقت غداة مجزرة الحرب العالمية الثانية، فسمحت بتحرير الكثير من بلدان إفريقيا وآسيا من الاستعمار، وأطلقت موجة من التفاؤل العالمي بانتشار مُثُل السلام والحرية والتنمية والتضامن الإنساني. وبدلاً من مواصلة تطبيق تلك المُثُل والمبادئ النبيلة على المستويات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية لمساعدة البلدان الفقيرة والنامية في مكافحة الفقر ومحاولة اللحاق بالعالم المتطور، تراجعت مبادئ التضامن الإنساني، وتغلَّبَت المصالح الضيقة، وسادت النزعات الأنانية، مِمَّا أدى إلى صعود التيارات اليمينية المتطرفة وتوسعها، وازدياد معاداة الأجانب. وتأثرت المنظمات الدولية بهذه النزعات اليمينية، فتناقصت ميزانياتها، وتراجعت طموحات برامجها، وضعُفت قدرتها على الفعل والنشاط، وقَلَّ سخاء كبار المساهمين فيها مِمَّا حرمها من الموارد الكافية لأداء الرسالة العالمية التي أوكلت إليها في البداية. وقد وصل الصديق العزيز المرحوم الدكتور أحمد الصياد إلى المشاركة في قيادة اليونسكو في لحظة ارتفعت فيها مكانة اليمن على المستوى العالمي بقيام الوحدة اليمنية، حين بدأ العالم يتطلع لقيام بلد عربي كبير بسكانه وبإمكاناته وبمواقفه، التي عبَّر عنها الصياد، والداعية إلى التمسك بمبادئ التضامن الإنساني بين بني البشر بعيدًا عن العنصرية وعن التمييز بحسب العِرْق أو الدين أو المنطقة أو الثقافة. والحقيقة أنه إلى جانب كفاءة الصياد وقدراته، تُعَدُّ المكانة الدولية لأي دولة انعكاسًا لوعود نهضتها، ولعملها داخليًّا لتحقيق الاستقرار والتنمية، وتراكم الانجازات الحضارية، وتوفير فرص العيش الكريم لمواطنيها، وصون كرامتهم، وفتح الأبواب لتطوير حاضرهم وبناء مستقبل مشرق لأبنائهم. وقد أوحت تجربة الوحدة بأن اليمنيين وضعوا أقدامهم على أول الطريق نحو عالم يسير إلى الأمام، ولكنهم، للأسف، خيبوا آمال مواطنيهم وآمال العالم فيهم. وللمساهمة في توطيد القراءة، ونشر الثقافة والتوعية كان الصياد وراء إصدار اليونسكو لمشروع «كتاب في جريدة» الذي يَنشُر كل شهر كتابًا عربيًّا مختارًا، ملحقًا بصحيفة يومية في كل بلد عربي في وقت واحد، لتتمَّ قراءتهُ في العالم العربي كله. وتولَّى رئاسة تحرير هذا المشروع صديقه شوقي عبد الأمير- المدير العام الحالي لمعهد العالم العربي في باريس.

وقد قمتُ، بالتعاون مع أسرة الصياد ومع بعض المثقفين اليمنيين، بجمع أعماله في ثلاث مجلدات، يحتوي الأول على كتاباته السياسية، والثاني على أعماله الأدبية، والثالث مؤلفاته عن اليونسكو التي أصدرها بالفرنسية والعربية، ونَشَرَت تلك الأعمال مؤسسة أروقة في القاهرة ووزعتها.

ـ س16: أعطيتم الكثيرَ فكرًا وأدبًا وترجمةً وبحثًا، ما مشروعك القادم؟

ـ ج16: انتهيتُ حاليًّا من ترجمة كتاب عن صنعاء كمدينة ألفية يقرب عمرها من عمر دمشق والإسكندرية وغيرهما من المدن العريقة في منطقتنا، يدرس التنظيم التقليدي لحرفها وموروثها المهني طوال القرون، وكيف واجهت الانفتاح على العالم حديثًا، وما أسهمت به الثقافة الجمهورية في خلق الظروف المناسبة لإلغاء احتقار الحرف والفئات الحرفية؛ لتسود المساواة بين اليمنيين. وسيُنشَر هذا العام في القاهرة.

كما أعمل على مشروع طموح يدرس التحدّيات، التي واجهت الثقافة الجمهورية في مرحلة تلي لحظة التغيير الجمهوري، التي تناولها كتابي السابق «الثقافة الجمهورية في اليمن».

تقارير

في ظل التحشيد وانسداد أفق الحل السياسي.. هل ينتظر اليمنيون جولة جديدة من الحرب؟

وجّه رئيس مجلس القيادة الرئاسي، رشاد العليمي، برفع الجاهزية القتالية للجيش، وذلك خلال اتصال هاتفي بوزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان العامة، مشددًا على الاستعداد للتصدي الحازم للميليشيا الحوثية وأعمالها العدوانية ومخططاتها الإرهابية، والمضي قدمًا في معركة استعادة مؤسسات الدولة وإنهاء الانقلاب.

تقارير

كيف يمكن للأحزاب اليمنية أن تستعيد مصداقيتها في ظل هذا التناقض بين خطابها وسلوكها؟

رغم أن الأحزاب السياسية اليمنية كانت فاعلًا أساسيًا في المشهد السياسي، إلا أنها غابت عن أبرز التحولات التي عصفت بالبلاد، خاصة في العقد الأخير من تاريخه، حيث تنصّلت من مسؤوليتها عن الكوارث السياسية والاقتصادية التي ساهمت في تفاقم الأزمات الوطنية.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.