تقارير
سقوط الأسد وعقدة الربيع العربي.. لماذا لا ترغب السعودية والإمارات بحسم المعركة في اليمن؟
ليس غريبا أن السعودية والإمارات لم تعملا على توحيد المكونات اليمنية المشتتة تحالفاتها بينهما للتقدم صوب العاصمة صنعاء وإنهاء الانقلاب الحوثي، استغلالا للظروف الإقليمية الراهنة، واستجابة للمطالب الشعبية المتزايدة باستعادة الدولة والقضاء على مليشيا الحوثيين، ذلك أن نجاح الثورة السورية أعاد للأذهان أجواء ثورات الربيع العربي التي شكلت ملامح جديدة للمشهد السياسي الإقليمي خلال العقد الماضي.
وقد كانت الثورة السورية النقطة المفصلية في مسار الربيع العربي وما ترتب عليها من تدخل إقليمي ودولي، ويمثل نجاحها اليوم زلزالا إقليميا أربك كل الحسابات، وأثار مخاوف النظام العربي التقليدي الذي كان قد بدأ يعمل على احتواء نظام بشار الأسد وإعادة تأهيله ومحاولة دمجه في الإقليم، خصوصا من جانب السعودية والإمارات، اللتين قادتا الثورات المضادة لثورات الربيع العربي، خشية نجاحها، وكذلك خشية صعود التيارات الإسلامية إلى السلطة، وهو ما حدث مؤخرا في سوريا.
- إجهاض الثورة اليمنية
وبالرغم من أن الهدف المعلن لعملية "عاصفة الحزم" في اليمن كان القضاء على الحوثيين وإعادة السلطة الشرعية إلى العاصمة صنعاء، لكن التطورات التي شهدتها السنوات العشر الماضية بينت أن التدخل العسكري كان بهدف إجهاض الثورة اليمنية وليس القضاء على الحوثيين، وتفتيت البلاد بين مليشيات ومكونات متنافرة أوجِدت من العدم، وسيطرة الرياض وأبو ظبي على الموانئ والمطارات والجزر ومنابع الثروات وبعض المدن الساحلية المهمة، والحرص على بقاء الحوثيين لاتخاذهم ذريعة لاستمرار التدخل العسكري والهيمنة في البلاد.
وبالتالي من المستحيل اليوم أن تدعم الدولتان المكونات اليمنية وتحثهما على وحدة الصف وإنهاء الانقلاب الحوثي استغلالا للظروف الراهنة، بدليل أن الحرب في اليمن ظلت لسنوات عديدة دون حسم عسكري بالرغم من القدرة على تحقيق ذلك، وإضاعة العديد من الفرص، وسط تساؤلات عامة المواطنين حول طبيعة الحسابات السياسية التي تمنع الحسم العسكري وإنهاء الصراع من جانب القوى الإقليمية الرئيسية التي لها نفوذ كبير في اليمن.
وربما أن الرياض وأبو ظبي تفكران اليوم بكيفية إجهاض الوضع الجديد في سوريا حتى لا يشكل نموذجا ملهما للشعوب الأخرى، خصوصا أن سقوط بشار الأسد كشف سوأة النظام العربي التقليدي الذي يتشابه رموزه في الاستبداد والطغيان وأدوات القمع والجرائم التي تتم بعيدا عن أعين الإعلام والمنظمات الحقوقية، وترهيب أهالي الضحايا لمنعهم من الشكوى أو إبلاغ أي جهة معنية بحقوق الإنسان بتلك الجرائم والانتهاكات التي تتم في السجون السرية.
كما أن سقوط نظام بشار الأسد ونجاح الثورة السورية لا يُعِد فقط إحياء للربيع العربي، بل بدا أنه سيعزز من نفوذ التيارات الإسلامية بعد سنوات من الحرب عليها وشيطنتها من جانب النظام العربي التقليدي، وهذا يثير قلق جميع الأطراف المنخرطة في الثورات المضادة للربيع العربي.
ولذا فإن عدم رغبة الرياض وأبو ظبي في حسم المعركة في اليمن، والتريث في اتخاذ موقف محدد، يرتبط بالخوف من عودة أجواء الربيع العربي وتمددها، وما سيرافق ذلك من تعزيز للنفوذ التركي والقطري في المنطقة لملء فراغ تراجع النفوذ الإيراني، مما قد يعيد فتح ملفات الخلافات الإقليمية الكامنة تحت ستار المصالحات المفخخة.
علاوة على ذلك، شكّل سقوط نظام بشار الأسد بتلك السهولة، بعد أن فقد دعم حلفائه، صدمة للنظام العربي التقليدي، الذي يبدو أنه بات يخشى من تأثير ذلك على استقراره في المدى الطويل، ذلك لأن سقوط بشار الأسد كشف هشاشة الأنظمة العربية التقليدية أمام شعوبها في حال ثارت الشعوب ضدها أو طالبت بالتغيير، وبذلك يكون الزلزال السوري قد كشف فشل الثورات المضادة، وأحبط الاعتقاد بأن زمن الإسلاميين قد ولى إلى غير رجعة، وكشف فشل محاولات إعادة تأهيل نظام الأسد، وبالمحصلة يعني ذلك أن النظام العربي التقليدي غير قادر على ترميم ذاته والصمود في وجه العواصف العاتية.
وحاليا ليس من المستبعد أن عدم رغبة السعودية والإمارات بحسم المعركة في اليمن نابع من قلقهما من أن التغيير في اليمن قد يكون أكثر تأثيرا وخطورة عليهما مقارنة بالتغيير الحاصل في سوريا، وتعكس ترتيبات المشهد اليمني من جانب الرياض وأبو ظبي أن هناك محاولات لترميم نظام الرئيس الراحل علي صالح وترقيعه وإجبار مختلف المكونات على تحسين العلاقة معه تمهيدا لإجبارها على القبول بعودته عبر شخصيات من عائلته، وسيظل الحسم العسكري مؤجلا حتى إشعار آخر.
- الانكشاف الإقليمي
كشفت الأحداث التي شهدتها المنطقة طوال العقد الماضي عن هشاشة مختلف الأطراف التي تصدرت الصراعات أو التدخل العسكري أو دعم المليشيات والمجموعات المسلحة، كما كشفت عن هشاشة التحالفات والمحاور التي برزت من رحم الصراعات والتوترات شبه المزمنة في الإقليم.
وكانت اليمن تكاد أن تكون أول ساحة تشهد صراعا حقيقيا بين النظام العربي التقليدي والمحور الإيراني، بعد أن شكلت السعودية تحالفا قالت إنه من عشر دول لإنهاء الانقلاب الحوثي وقطع يد إيران في اليمن، لكن سرعان ما تلاشى ذلك التحالف بعد أن تبين أن السعودية والإمارات غرقتا في تفاصيل جزئية وأن مسألة قطع يد إيران في اليمن كانت مجرد شعار للتغطية على أهداف أخرى.
ومع طول أمد الحرب في اليمن، وترسيخ الحوثيين سيطرتهم في معظم محافظات شمالي البلاد، وتنامي قوتهم العسكرية، وتنفيذهم هجمات على المنشآت النفطية السعودية وقصف الإمارات، اتجهت كل من الرياض وأبو ظبي للمصالحة مع إيران والحوثيين، وهي مصالحات يمكن وصفها بأنها استسلام أمام النفوذ الإيراني، لأنها تمت في سياق زمني كانت فيه إيران هي الرابح الوحيد، دون أي مكاسب للرياض وأبو ظبي.
لقد كان الاعتقاد السائد هو أن المحور الإيراني فرض سيطرته وأصبح ذلك أمرا واقعا يجب التسليم به، وأن السعودية والإمارات أصبحتا مكشوفتين أمنيا أمام إيران ومليشياتها، وأنهما غير قادرتين على التصدي للصواريخ والطائرات المسيرة التي يطلقها الحوثيون أو مليشيات شيعية أخرى على أراضيهما، كما أنهما توقفتا عن دعم المعارضة السورية المسلحة، وفي وقت لاحق بدأتا العمل على إعادة تأهيل نظام بشار الأسد والسعي لدمجه في الإقليم، ومحاولة إبعاده عن إيران.
لكن لم يدم الحال طويلا، ففي الوقت الذي ساد فيه الاعتقاد بأنه تم إجهاض ثورات الربيع العربي، والانحناء أمام النفوذ الإيراني، وإذا بالمعارضة السورية المسلحة تبعثر كل الأوراق وتربك جميع الحسابات، من خلال عملية "ردع العدوان"، والإطاحة بنظام بشار الأسد سريعا خلال 12 يوما فقط، الذي لم يتلقّ أي دعم أو إسناد من إيران وبقية المليشيات التابعة لها.
وهنا انكشف ضعف القبضة الإيرانية، وتبين أن سبب توسع نفوذها طوال السنة الماضية هو أنها لم تُواجه بتكتل عربي قوي، أي أنها كانت تتحرك في الفراغ، والاستفادة من بعض الأحداث التي صبت في مصلحتها، بدءا من الإطاحة بالرئيس العراقي صدام حسين، وانتهاء بتسليم صنعاء وعدد كبير من المحافظات اليمنية لمليشيا الحوثيين.
وهكذا كشفت الصراعات الإقليمية خلال العقد الأخير هشاشة أكثر الدول العربية إنفاقا على السلاح وطموحا للعب دور إقليمي أكبر من قدراتهما، وهما السعودية والإمارات، ثم كشفت هشاشة وضعف المحور الإيراني الذي تفكك وانهار سريعا بشكل لم يكن متوقعا.
وفي المقابل، يمثل سقوط بشار الأسد وانتصار الثورة السورية نجاحا كبيرا لثورات الربيع العربي رغم المؤامرات عليها من جانب النظام العربي التقليدي، وهو ما سيثير قلق الأطراف المناهضة لتلك الثورات، وفي مقدمتها السعودية والإمارات، ولعل ذلك ما يفسر تريثهما بشأن الوضع الجديد في سوريا رغم انفتاح كثير من الدول الغربية على الإدارة الجديدة في دمشق.
- تعقيدات جديدة للملف اليمني
تعد اليمن اليوم ساحة صراع بين قوى مختلفة، كانت في البداية بين إيران من جهة والسعودية والإمارات من جهة أخرى، واليوم ساحة صراع بين إيران وإسرائيل، وأيضا ساحة سباق على النفوذ والهيمنة بين السعودية والإمارات، وقد تتحول أيضا إلى ساحة صراع بين روسيا وأمريكا إثر اتهامات لروسيا بتزويد الحوثيين بالسلاح لاستهداف السفن الأمريكية وغيرها من سفن الدول الداعمة لأوكرانيا ضد روسيا.
ونتيجة لذلك، بات الملف اليمني اليوم يمثل اختبارا عسيرا للسعودية والإمارات وإيران وقوى إقليمية ودولية أخرى، وعلى نحو أعمق لليمنيين أنفسهم، فالقرار الحاسم يبقى في يد الشعب اليمني الذي يحمل الكلمة الفصل لتحديد مصيره، وإذا ظهرت قيادة وطنية فإن الشعب سيلتف حولها للتخلص من سطوة القوى المتصارعة على الأرض اليمنية، ولن يلقي بالا لأي محاولات خارجية لإجهاض مسار التحول في البلاد الذي انطلق في العام 2011.
إن العداء لثورة الشعب السلمية من جانب جيران اليمن وقوى الثورة المضادة في الداخل هو ما حرف مسار الثورة السلمية إلى حرب أهلية وتحويل البلاد إلى ساحة صراع وتصفية حسابات بين قوى إقليمية ودولية، حتى صار الوضع اليوم في البلاد أكثر تعقيدا، فهناك تهديدات أمريكية وإسرائيلية بتوجيه ضربات عنيفة للحوثيين، في مقابل تأكيد إيران على مواصلة الدعم للحوثيين والإشادة بهجماتهم على الاحتلال الإسرائيلي.
وعلى الجانب الآخر، تهدد إيران بإعادة بناء ما يسمى محور المقاومة، وتهدد الثورة السورية، في حين تعيش مليشيا الحوثيين حالة استنفار دائم خوفا من تحرك عسكري ضدها في الداخل.
وفي المقابل، يعكس الصمت السعودي والإماراتي نهجا غامضا تجاه المتغيرات الإقليمية، ويبدو أنهما تترقبان أي ثغرات لتفخيخ الوضع في سوريا، لكنهما ستضطران لمواكبة المتغيرات في حال فوّت السوريون الفرصة على الأطراف المتربصة بهم واستمروا على المضي في الاتجاه الصحيح لبناء الدولة السورية.
- قيود التغيير في اليمن
لقد حفزت التطورات في سوريا الشعب اليمني للتحرر من الحوثيين والنفوذ الإيراني، لكنه مكبل بسبب عدم وجود قيادات وطنية غير خاضعة للنفوذ الخارجي المعادي للربيع العربي والمستعد لتقبل كل السيناريوهات البديلة مهما كانت كارثية.
الآن من الواضح أن إيران تسعى بجد لإعادة ترتيب أوراق محورها الإقليمي وبنائه من جديد، في وقت لا تزال فيه الرياض وأبو ظبي غارقتين في انتهاج سياسات تعادي أي رياح تغيير مرتبطة بالربيع العربي، وهذا التوجه عزلهما عن إدراك التحولات الإقليمية واستغلالها لمصلحتهما أولا قبل أن تكون لمصلحة الشعب اليمني.
وهكذا يتضح أن السعودية والإمارات أصبحتا عبئا ثقيلا على القضية اليمنية، وليس من المبالغة القول إن التحرر من وصايتهما مقدمة للتحرر من الحوثيين والنفوذ الإيراني في اليمن، فإستراتيجية الدولتين تُبقي المعركة في اليمن مفتوحة بلا حسم، حيث تعرقلان توحيد القوى اليمنية وإطلاق طاقاتها لإنهاء الانقلاب الحوثي، ويبدو أنهما تفضلان الاحتفاظ بورقة الحسم العسكري لاستخدامها لصالحهما في اللحظة المناسبة في حال عدم نجاح مشروعهما بتفتيت اليمن.
وفي حال قرر الشعب اليمني النهوض وتغيير الواقع والقضاء على الحوثيين بعيدا عن وصاية السعودية والإمارات، ستسارع الدولتان للتدخل، لا لدعم الشعب، بل لحصد مكاسب سياسية وعسكرية تعيد توجيه الأحداث بما يخدم مصالحهما.