تقارير
ملامح الحرب المقبلة في اليمن.. من سيضغط أولا على الزناد؟
لن يستمر الجمود في اليمن طويلا، فهذا ما تقتضيه طبيعة الصراعات، والأوضاع لا تبقى ساكنة إلى ما لا نهاية حين تتراكم القوات والأسلحة والمطامع السياسية لقوى محلية وإقليمية.
وإذا تقاعست السلطة الشرعية وحلفاؤها عن المبادرة وفتح جبهة حاسمة لاستعادة الدولة، فإن الحوثيين هم من سيبادرون بإطلاق الرصاصة الأولى وجر الآخرين إلى ساحة المعركة.
وقد ازداد الحديث في الآونة الأخيرة عن معركة الحسم ضد الانقلاب الحوثي واستعادة الدولة، على ألسنة رئيس مجلس القيادة الرئاسي وأعضاء في المجلس ووزراء ومسؤولين آخرين، كما دعا الرئيس رشاد العليمي، في كلمة اليمن أمام الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة، إلى تشكيل تحالف دولي مساند للحكومة الشرعية لاستكمال تحرير البلاد من قبضة مليشيا الحوثيين المدعومة من إيران، واستعادة أمن اليمن واستقراره، وإعادة بناء مؤسسات الدولة.
الدعوات المتزامنة لحسم المعركة ضد الانقلاب الحوثي تأتي بعد جمود طويل، بدأ بعد الاتفاق على هدنة أممية لمدة شهرين في 2 أبريل 2022 قابلة للتمديد، وتم تمديدها مرتين، لتنتهي في 2 أكتوبر 2022، عندما أعلن المبعوث الأممي، هانس غروندبرغ، عدم توصل الأطراف إلى تمديد آخر للهدنة، ومنذ ذلك الحين ظلت البلاد في حالة لا حرب ولا سلم حتى اليوم.
ورغم الدعوات لإنهاء انقلاب مليشيا الحوثيين أو الحديث عن اقتراب معركة الحسم، لكن لا توجد تحركات واستعدادات عسكرية نوعية وملموسة على الأرض لخوض معركة حاسمة لإنهاء الانقلاب واستعادة الدولة.
وفي المقابل، تواصل مليشيا الحوثيين استعداداتها العسكرية في جبهات الداخل، سواء تحسبا لأي حرب محتملة ضدها، أو لتبادر هي إلى إشعال معركة شاملة بهدف توسيع نطاق سيطرتها، والتعجيل بحصاد المكاسب السياسية التي جنتها على هامش العدوان الصهيوني على قطاع غزة، تحت تأثير نشوة أوهام الشعور بالقوة جراء مواجهة أمريكا وإسرائيل.
واللافت أنه بعد الحديث عن قبول حركة حماس بخطة ترامب لإنهاء الحرب في قطاع غزة، بادرت مليشيا الحوثيين إلى شن هجوم مباغت على مواقع للجيش الوطني في الجبهة الشرقية لمدينة تعز، بالتزامن مع تعزيزات عسكرية مكثفة تدفع بها إلى جبهات تعز ومختلف جبهات الداخل.
هذا الهجوم أعاد إلى الأذهان الهجمات الحوثية على العديد من الجبهات في الداخل بعد الاتفاق على هدنة لتبادل الأسرى بين حركة حماس والكيان الإسرائيلي، في يناير الماضي، ما يعني أنه بمجرد توقف الحرب في قطاع غزة، تبادر مليشيا الحوثيين مباشرة إلى شن هجمات في جبهات الداخل، لاعتقادها بأن مواجهاتها مع أمريكا وإسرائيل ستجعل من الحرب في الداخل مجرد نزهة، مع أن تلك المواجهات لا ترقى إلى حرب شاملة، ولا تعدو كونها مجرد تبادل محدود لهجمات لا تسبب أضرارا كبيرة.
- دوافع الحرب المقبلة
رغم انقسام مختلف القوى والمكونات اليمنية المناهضة للحوثيين، لكن هناك مخاوف من استمرار تدفق السلاح لهم واستمرارهم في تجنيد مزيد من المقاتلين ومراكمة المزيد من القوة، واستغلالهم لحالة الفقر والجوع التي تعد من إفرازات حكمهم في مناطق سيطرتهم لمقايضة الأسر الفقيرة بتجنيد مقاتلين مقابل حصولها على مساعدات غذائية محدودة، واستغلالهم الحرب الوحشية على قطاع غزة للتسويق لأنفسهم محليا بأنهم مساندون للقضية الفلسطينية، والزعم بأنهم أصبحوا قوة إقليمية قادرة على فرض ذاتها في الداخل والإقليم، وأنهم قوة لا تُقهر، لخلق حالة من اليأس بإمكانية القضاء عليهم، وإقناع أبناء القبائل بالوقوف إلى جانبهم باعتبار أن القبائل عادة ما تصطف إلى جانب الطرف الأقوى في معادلة الصراع محليا.
وبالتوازي مع تشكُّل مزاج رسمي وشعبي واسع لإنهاء الانقلاب الحوثي واستعادة الدولة، بدأ أيضا يتشكل مزاج دولي رافض للحوثيين جراء تهديداتهم المستمرة للملاحة في البحر الأحمر، وما لحق بالاقتصاد العالمي من أضرار وخسائر بسبب تحول طريق التجارة الدولية من مضيق باب المندب والبحر الأحمر إلى رأس الرجاء الصالح في جنوب أفريقيا، فضلا عن تضرر عدد كبير من السفن التي حاولت المرور عبر البحر الأحمر، بالإضافة إلى تداعيات الصراع الإقليمي التي أظهرت الحوثيين كذراع إيرانية نشطة تثير قلق أعداء طهران، خصوصا في ظل استمرار إيران في تهريب الأسلحة لهم، بالرغم من انهيار محورها الذي لم يبق منه سوى مليشيا الحوثيين.
لكن في المقابل ما تزال المواقف الإقليمية تتسم بالحذر، فالدول المؤثرة في الشأن اليمني، وتحديدا السعودية والإمارات، تدرك أن أي معركة واسعة ضد الحوثيين قد تفرز توازنات غير مرغوبة لهما في الداخل اليمني، وقد تفضي لصالح أطراف غير مرضي عنها، فضلا عن كون بقاء الحوثيين طرفا فاعلا في المشهد اليمني يمنح الدولتين مبررات لاستمرار وجودهما العسكري في اليمن، وما يترتب على ذلك من مصالح خاصة بهما.
وإذا كان التوقف المتوقع للحرب في قطاع غزة سيعفي المجتمع الدولي من اتخاذ موقف حازم ضد مليشيا الحوثيين، كونها ربطت توقف هجماتها ضد إسرائيل وتهديد الملاحة الدولية في البحر الأحمر بتوقف الحرب في غزة، وبالتالي لن تكون هناك ذرائع للحرب ضدها، لكن المجتمع الدولي سيظل يراقب تطورات الأوضاع في اليمن، ولن تسمح القوى الإقليمية والدولية للحوثيين بتوسيع نطاق سيطرتهم في الداخل، وبالتأكيد سيكون هناك دعم للحكومة اليمنية وللمكونات الرافضة للحوثيين في حال اندلاع معارك واسعة على امتداد مختلف الجبهات وبدأت مليشيا الحوثيين بتحقيق مكاسب ميدانية.
ورغم إدراك مليشيا الحوثيين لذلك، لكنها تعتقد أنها اكتسبت مناعة ضد الضربات الأجنبية منذ اندلاع عملية "عاصفة الحزم" وحتى اليوم، ولذلك ستعود هذه المرة إلى الداخل بروح عدائية وانتقامية جديدة، مع الاستمرار في تهديد السعودية والإمارات لتحييدهما عن التدخل العسكري مجددا في أي معركة محتملة تخطط لها المليشيا.
بمعنى أن الحوثيين أنفسهم يتهيؤون للحرب، ويعتقدون حاليا أنهم في أقوى حالاتهم بعد مواجهتهم "الرمزية" لأمريكا وإسرائيل، ولذلك فهم اليوم أكثر ثقة في أنفسهم من أي وقت مضى، ويرون أن شن حرب في الداخل سيكون تتويجا لنشوتهم السياسية والإعلامية الأخيرة، ومحاولة لتثبيت موقعهم كقوة محلية وإقليمية لا يمكن تجاوزها.
كما أن الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة التي كانت تصل إلى عمق الأراضي الفلسطينية المحتلة، حتى وإن كانت لا تسبب أضرارا تذكر للاحتلال الإسرائيلي، لكنها تعد رسائل حوثية للرياض وأبوظبي بأن أي تدخل عسكري من جانبهما مجددا في اليمن سيكون الرد بالاستهداف المباشر لمنشآتهما الحيوية، خصوصا أنهما لا تمتلكان منظومات دفاعية متقدمة كتلك التي يمتلكها الكيان الإسرائيلي، وهو ما أثبتته التجارب السابقة، عندما هاجم الحوثيون منشآت حيوية سعودية نجم عنها أضرار كبيرة، مثل الهجمات التي استهدفت شركة أرامكو، في سبتمبر 2019، وتسببت في توقف تصدير نصف إنتاج السعودية من النفط لمدة قصيرة.
ويزيد من التهيئة لاندلاع معارك واسعة في اليمن أن فرص السلام ضئيلة للغاية، فالحوثيون لن يوافقوا على أي تسوية سياسية إلا وفق شروطهم أو أن تكون فرصة لتكريس مكاسبهم وليس للتنازل عنها، لأن طبيعة التسويات السياسية تقتضي تقديم تنازلات من مختلف الأطراف، وهو ما لن يقبل به الحوثيون.
كما أنهم سيرفضون أي عملية سلام حقيقية تنص على إجراء انتخابات وتعدد القوى المسلحة في صنعاء أو دمج مختلف التشكيلات العسكرية في إطار وزارة الدفاع، لأن ذلك سيقوض احتكار الحوثيين للسلطة والسلاح معا، كما أن أي اتفاق يُلزمهم بتسليم السلاح أو دمج مقاتليهم في الجيش الحكومي يعني بالنسبة لهم نهاية مشروعهم تماما، وهو ما لن يقبلوا به.
- الحرب القادمة.. اختبار قوة أم معركة شاملة؟
من المرجح، وفق مؤشرات عدة، أن الحرب القادمة إذا دشنها الحوثيون ستكون بدايتها هجمات مباغتة في مواقع متفرقة بالعديد من الجبهات، بحثا عن ثغرات تمكنهم من تحقيق مكاسب ميدانية سريعة، ثم خوض معارك استنزاف بطيئة ستتصاعد تدريجيا، بشكل لا يستدعي تدخلا خارجيا لمصلحة الحكومة الشرعية والأطراف المناوئة للمليشيا التابعة لإيران.
أما إذا كان التحالف السعودي الإماراتي والسلطة الشرعية والمكونات الأخرى هي من ستدشن معركة ضد الحوثيين، في حال حدثت تطورات تطلبت ذلك، فإنها لن تكون حربا شاملة منذ بدايتها، وإنما ستكون حرب اختبار قوة محدودة النطاق، تقيس مدى استعداد الحوثيين للقتال وقدرتهم على الصمود، واستكشاف طبيعة قدراتهم العسكرية الميدانية من حيث العدد والعتاد.
أي أنها ستكون بمنزلة معركة "جس نبض" قبل اتخاذ قرار بخوض مواجهة أكبر، ومعركة جس النبض هذه ستقتضيها عدة أمور، من أهمها استمرار تعزيزات الحوثيين العسكرية إلى مختلف الجبهات، وتركيزهم على حرب استنزاف طويلة كتكتيك جديد بعد فشلهم في معركة مأرب، وتصعيد خطابهم ونبرة التحدي ضد السعودية والإمارات، والمرواغة في حال عادت الوساطة العمانية وغيرها بشأن السلام لاستهلاك الوقت، حتى تنضج الظروف المناسبة لهم لخوض معركة حاسمة لتوسيع مكاسبهم على الأرض.
وفي كل الأحوال، لن تخوض السعودية والإمارات حربا مفتوحة على امتداد مختلف الجبهات على غرار حرب عام 2015، لكنهما قد تدعمان حرب اختبار محدودة النطاق تقيس التغيرات الجديدة في قوة الحوثيين، فإذا كانت قوتهم محدودة، ستتوقف المعركة ضدهم لتعود الأوضاع إلى الجمود، وإذا تبين أنهم قد أعدوا قوة فعالة ميدانيا، حينها سيتم خوض معارك واسعة ضدهم، ليس بهدف القضاء عليهم، وإنما لتحجيم تلك القوة، حتى لا تصبح أكثر خطورة.
- ماذا لو تأخرت معركة الحسم سنوات إضافية؟
في الحقيقة، الخطورة اليوم ليست في اندلاع معركة حاسمة في المدى القريب، سواء دشنها الحوثيون أو السلطة الشرعية مدعومة من التحالف، وإنما الخطورة تكمن في إطالة عمر الانقلاب الحوثي وتأجيل معركة الحسم، لأنه كلما طال عمر الانقلاب الحوثي ازدادت تكلفة الحسم العسكري، ولذا فالسؤال الأهم هو: كم بقي من عمر الانقلاب الحوثي؟ وماذا لو طال أمد الحرب عشر سنوات أخرى يواصل خلالها الحوثيون مراكمة الأسلحة وتجنيد مقاتلين بنفس الوتيرة التي هم عليها الآن؟ وماذا لو تم القضاء تماما على أذرع إيران في المنطقة وبقيت مليشيا الحوثيين في اليمن كوكيل وحيد لطهران في الإقليم؟
وهنا تكمن المخاوف من أن تتحول مناطق سيطرة مليشيا الحوثيين إلى ملتقى للمليشيات الشيعية التابعة لإيران في حال جرى حصارها في بلدانها ومصادرة أسلحتها الثقيلة، ذلك أن إيران ستعمل على تجميع هذه المليشيات في مناطق سيطرة الحوثيين، الذين سيصبحون وكيلها الوحيد في اليمن والإقليم، وستظل تعمل على تقويتهم والدفع بهم إلى تهديد الملاحة في البحر الأحمر وتهديد خصومها في المنطقة، ولن تتوقف عن دعمهم والدفع بهم إلى تهديد خصومها إلا في حال تم القضاء عليهم تماما.
وقد تدفع بهم إلى السيطرة على اليمن كاملا لفرض أمر واقع، مسنودين بمليشيات شيعية مدربة تدريبا عاليا على الحروب الأهلية لتعويض خسائر طهران في لبنان وسوريا وربما العراق، أي أنها ستعمل على حماية سلطة الحوثيين كما عملت على حماية نظام بشار الأسد في سوريا، وهو ما قد يغير طبيعة الحرب، ويحولها من نزاع داخلي إلى مواجهة إقليمية مفتوحة تدور على الأرض اليمنية، والدفع بقوى إقليمية ودولية إلى التدخل المباشر أو غير المباشر في اليمن، بحجة حماية مصالحها أو منع التمدد الإيراني المتجدد.
كما أن إطالة عمر الانقلاب الحوثي سيمنح إيران وقتا إضافيا لإعادة بناء القوة الحوثية، ورفدها بتقنيات متطورة في مجال الصواريخ والطائرات المسيرة، مع الاستمرار في دعمهم بشبكة من المهندسين والخبراء الذين سيكتسب الحوثيون على أيديهم خبرات نوعية في التصنيع العسكري.
علاوة على ذلك، من غير المستبعد أن تنقل طهران التكنولوجيا النووية إلى مناطق سيطرة الحوثيين، لإنجاز جزء مهم من برنامجها النووي بعيدا عن أنظار جواسيس أمريكا وإسرائيل داخل إيران وتعرضه لتدمير شامل، وبالتالي ستصبح إيران دولة نووية، وسيصبح الحوثيون دولة نووية بالوكالة، أي أن إيران ستطور برنامجا نوويا خاصا بهم، يمكنهم من السيطرة على اليمن كاملا، وبث الرعب في الإقليم، بعد أن تكون هي قد امتلكت ذلك السلاح، ومنعت الأطراف الإقليمية من الاقتراب من الحوثيين.
كما لا يمكن تجاهل دور الصين وروسيا في خلفية المشهد، فإطالة عمر الحوثيين وعدم التعجيل بالقضاء عليهم، سيمنح بكين وموسكو فرصة لمحاولة تقويض النفوذ الأمريكي في المنطقة عبر مسارات غير مباشرة، منها دعم الحوثيين بتقنيات أو مكونات تسليحية تسهم في تعزيز قدراتهم العسكرية لتهديد مصالح واشنطن في المنطقة.
ومع كل هذه المؤشرات المتشابكة، تبدو ملامح المرحلة المقبلة مفتوحة على أكثر من احتمال، يتوقف تحقق أي منها على تطورات داخلية وإقليمية متسارعة، فاليمن اليوم يقف عند مفترق طرق حاسم، فإما أن تُحسم معركة الدولة ضد الانقلاب الحوثي في إطار وطني وبدعم إقليمي ودولي واسع ومنسق، أو تدخل البلاد في مرحلة جديدة من الفوضى الممتدة، حيث يتحول الحوثيون إلى كيان شبه دولتي يفرض نفسه كواقع دائم، وتصبح كل جبهة حرب مؤجلة بانتظار من سيضغط على الزناد أولا.
وإذا لم تبادر السلطة الشرعية والمكونات الأخرى المعادية للحوثيين إلى توحيد الصفوف والضغط على الزناد الآن بدعم إقليمي ودولي واسع، فإن مليشيا الحوثيين هي من ستبادر إلى الضغط على الزناد أولا، عندما تعتقد أنه أصبح لديها من القوة ما يكفي لفرض أمر واقع جديد على الأرض، وهكذا ستنطلق شرارة الحسم الكبرى.