مقالات

أبو الروتي (13)

16/12/2024, 16:54:21

كان عامل الفُرن منصور يستيقظ كل صباح وهو حزين، كئيب، عابس الوجه.

عيناه منطفئتان، وصوته محبوس، ومعنوياته منهارة، لكنه بعد وصولنا إلى الساحة، وبعد أن يكرع في بطنه بقايا القوارير حتى يتبخّر حزنه، وتتلاشى كآبته، وتشرق ابتسامته، وتحمرُّ خدوده، وتنتعش روحه، وترتفع معنوياته، وتنطلق لسانه، ويعتدل مزاجه، ويغدو مرحاً، خفيفاً، حتى يُخيّل لك من خفّة وجمال روحه كأن الذي يجري في عروقه "أسبرت" وليس دماً.

كان من بعد تلك الرضعة، التي آخت بيننا، ومن حين أصبحنا أخوين بالرضاعة يهتم بي، ويخاف علي، ويتصرّف كأنه ولي أمري، حتى إنه بعد أن مزق الشياطين الخمسة زيي المدرسي اشترى لي زيّاً جديداً على حسابه.

وفي المقابل، كنت أحرص  عند وصولنا إلى الساحة- على أن أجمع له ثُمالات القوارير لأراه ثمِلاً؛ ذلك لأنه عندما يثمل يكون في أجمل حالاته. 

أتذكر أني ذات يوم تعاركت مع سكران من سكارى الساحة،

وكان السكران قد نهض باكرا مثلنا،  لكنه لم يأتِ إلى ساحة القوارير؛ بحثا عن القوارير الفارغة، وإنّما جاء يبحث عن ثُمالات، ومخلّفات سكارى الليل. 

وحين ابصر معي قاروةً فيها أقل من الرُّبع، سال لعابه عليها، وظل بعدي، يلاحقني ويتوسل إليّ أن أتنازل له عنها، لكنه وقد أبصرني متشبثا بها تملّكته رغبة شديدة في أن ينتزعها مني بالقوة، لكني رحت أتمسك بها بكل قوتي، وأصرخ بكل صوتي مناديا منصور.

وعندما أوشك السكران أن يفصل بيني وبينها، استخدمتُ أسناني ورحتٰ أعض يده، وأواصل العض.

ومن شدة الألم، أطلق السكران البائس صرخةً موجعةً، ثم أفرغ كل ما في داخله من حنق وغضب، وركلني ركلةً قويةً طرحتني أرضاً.

ولشدة ارتطامي بالأرض، انكسرت القارورة، وسال الخمر، لكن السكران حين أبصر الخمر يسيل إلى الأرض، راح يشتمني، ويشتم أمي.

وحين حضر منصور، ووقف على المشهد، راح يلومني، ويقول لي محتجا: 

"ليش ما أعطيتها له؟".

قلت له: "كيف أعطيها له، وهي حقك!!".

قال: "من قال لك إنها حقي، الخمر حق الله".

واستغربت من قوله إن الخمر حق الله. 

وكنت أستغرب أكثر من سلوكه مع السكارى المرابطين في ساحة القوارير. كان هناك سكارى لا يعودون إلى بيوتهم، وربما أنهم ليس لديهم بيوت ليعودوا إليها، وكان هؤلاء يعتكفون بجانب قواريرهم حتى الصباح، وكنا عند وصولنا الساحة نجدهم في الزوايا والأركان، وعند جذوع الأشجار، وكل واحد منهم له زاويته وقارورته، مثلهم مثل النُّساك والمتصوفة كل واحد منهم له خُلوته وزاويته، وفيما كنت أخافهم وأتحاشاهم.

كان منصور يقترب منهم، ويتكلم، ويضحك، ويمزح معهم، ويكرع شيئا من قواريرهم في بطنه، وبعضهم يناديه، ويدعوه باسمه، ويعزمه على جرعة، أو جرعتين، وكنت أستغرب كيف أنه لا يخاف منهم، وهم سكارى.

وعندما أبديت له إستغرابي، واندهاشي من سلوكه معهم، قال لي:

"السكارى ملائكة".

وكان أن صعقتني كلماته تلك، وقلت بيني ونفسي:

"منصور هذا باين علوه كافر، كيف يقول السكارى ملائكة، وهم يشربوا خمر!!".

 كنت قد عرفتُ منه أسماء وأنواع الخمور، وعرفت كيف أميز بينها من أشكال القوارير.

وذات مرة عثرتُ على قارورة "ويسكي"، ولشدة فرحتي رحت أناديه بكل ما لديَّ من صوت:

"منصوووور يا منصووووووور 

وجاء منصور يجري، وفي اعتقاده أنني في معركة مع أحد السكارى، أو مع طفل من أطفال القوارير، لكنه تفاجأ حين أبصر في يدي قارورة "ويسكي". 

ولشدة فرحه، أخذ القارورة، ورفعها إلى مستوى فمه، وما لبث أن قذف بها بعيدا. وصرخ في وجهي بكل صوته، وقال لي، وقد اعتراه شعور بالاشمئزاز:

"هذا بول يا حمار".

ومع أني شعرتُ لحظتها بحرج شديد إلا أني في قرارة نفسي لم اقتنع بكلامه؛ فقد كانت القارورة قارورة "ويسكي"، ولون الشراب بلون "الويسكي"، وقلت: 

-"مو في ناس يبولوا ويسكي!!".

وكان رده بأن بعض الناس بسبب المرض يكون بولهم بلون "الويسكي".

 وقال لي يومها متهكما:

"الله خلق لنا حاسة الشم من شان نقدر نفرِّق بين البول وبين الويسكي".

وكان قد زعل مني وشتمني، وقال عني إني حمار ، لكني لم أزعل منه، وإنما كنت زعلانا من نفسي، فقد كانت نيتي أن أدخل الفرح إلى قلبه لكن ما حدث هو العكس، أدخلت إلى قلبه الحزن.

ثم إنه كان يومها حزينا، وفي حالة نفسية سيئة، والسبب أنه لم يجد شيئا من الخمرة يكرعها في بطنه، ويعدل بها مزاجه، حتى إنه أثناء عودتنا من الساحة بقي صامتا على غير عادته، ولم يتكلم معي، ولم أكن أعرف حينها أن هناك حاسة خاصة بالشم، تمكننا من التمييز بين البول والويسكي، لكن أكثر ما كان يزعجني بعد أن أنيطت بي مهمة جمع قوارير الخمر، هو أن كل من يقترب مني ويشم رائحتي يظن بي الظنون.

أتذكَّر أني ذات صباح، وبعد عودتي من ساحة القوارير، ذهبت إلى المقهى، وجلستُ بجانب رجل شايب في الصف، الذي على يمين صاحب المقهى، وبمجرد أن جلستُ بجانبه قام من جنبي، وانتقل إلى الصف المقابل، وهو يتأفّف ويسد أنفه. 

وقد أثارت حركته تلك استغراب رواد المقهى في الصف المقابل لكنه وقد لاحظ استغرابهم قال؛ ليبرر سلوكه أمامهم:

"جاهل ويشرب خمر.. أين أبوه؟! أين أهله؟! كيف يسمحوا له يشرب خمر؟!".

وعندها، التفت كل الذين في المقهى نحوي، وسألوا الرجل إن كان حقا يعي ما يقول، أم أنه يمزح!!.

وراح الرجل الشايب يُقسم لهم اليمين:

"والله ما أكذب عليكم، شمُّه خمر، تعالوا شموه لو ما تصدقونا؟!".

كان أحدهم قد انتهى من شرب كأس الشاي، ونهض للمغادرة، لكنه قبل أن يغادر المقهى اقترب مني يتشممني؛ ليتأكد من كلام الرجل الشايب.

وبعد أن تشممني، التفت إلى رواد المقهى، وقال لهم:

"الحاج ما يكذبش؛ شم الولد خمر، ينجخ نجيخ".

وكان كل من ينتهي من شرب الشاي، ويتهيأ للمغادرة، يدنو مني ويتشممني، ويؤكد كلام الرجل الشايب.

لكن أحدهم، وقد أحس بمأساتي، صاح محتجا: 

"كلكم قمتم تتشموا الولد!!".

قال له أحد الشمَّامين:

"الحاج ما يكذبش، الولد شمُّه خمر".

 قال الرجل، وهو منفعل: "الولد شمه خمر، وانتم شمكم خراء".

ولحظتها كادت تحدث معركة بين الرجلين، لولا تدخل صاحب المقهى، الذي نهض من مكانه؛ ليفصل بينهما. 

كانت تلك أول مرة أجد نفسي في موقفا محرجا، لكنه لم يكن الموقف الأول والأخير.

مرات كثيرة، وجدت نفسي في مواقف مشابهة؛ أتذكر مرة أن أم "كافيتا" أرسلتني لأشتري لها "تُمْبُل"، وفيما كنت واقفا انتظر دوري شمني أحدهم، وراح يصرخ قائلا:

"معقول هذا الجاهل يشرب خمر وهو في هذا السن؟!!".

وقبل أن أفيق من الصدمة، رأيتُ حشدا من الفضوليين يحيطون بي، ويمطُّون رؤوسهم ومناخيرهم ليشموني، وبدلا من أن أنتظر دوري، أطلقتُ لساقي العنان، ولُذت بالفرار.

ومن حينها، كنت أترك مسافة بيني وبين الآخرين؛ خوفا من أن يشموني.

أما في المعهد العلمي الإسلامي، فكان الأمر صعبا، وأكثر صعوبة.

كنت كلما عدتُ من ساحة القوارير، أعود وأنا مبلّل بالخمرة؛ ملابسي وشعري ورقبتي وظهري، وكانت سلّتي المليئة بالقوارير تلوحُ وهي فوق رأسي كأنها قطّارة تقطّر فوقي.  

وبسبب ضيق الوقت، كنتُ -بعد عودتي- أنزع ملابسي المبتلة بالخمر، وألبس الزي المدرسي، وأفطر على عجل، وأجري لألحق بالمدرسة.

وكثيرا ما كنت أصل وقد دخلوا الفصل، لكن رائحتي التي أصبحت بصمتي كانت تسبقني وتفضحني، وتدخل الفصل قبلي، وتعلنُ عن حضوري.

وكنت عند دخولي، ألمح التلاميذ الجالسين قريبا من الباب يتغامزون ويتهامسون ويتعجبون.

وذات يوم، وصلتُ متأخرا أكثر من اللازم، وعند دخولي طلب مني مدرس الحساب أن أدنو منه؛ ليحاسبني على تأخري، وحين اقتربت منه شم رائحة الخمرة تفوح مني، وجُنّ جُنونه.

وبدلا من أن يسألني من أين لي تلك الرائحة، مسكني من رائحتي، وقادني إلى الإدارة.

مقالات

"أيوب طارش".. اسم من ذهب

ما أكثر ما تعرَّض أيوب طارش لعداوات ساذجة من بعض المحسوبين -بهتانا- على رجال الدين، وخطباء المنابر المنفلتة، ليس آخرهم عبد الله العديني، الذي أفسد دينه ودنياه وآخرته بإثارة قضايا هامشية لا تهم أحدا سواه

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.