مقالات

أبو الروتي (15)

01/01/2025, 09:52:36

في عصر ذات يوم من عام 1964، وأنا في صف رابع ابتدائي رأيت الناس يقفون في باب أحد المحلات في سوق الطويل، وحين اقتربت منهم لأعرف سبب وقوفهم بباب المحل تناهى إلى مسامعي صوت الرئيس جمال عبد الناصر وهو يخطب من مدينة تعز، وسمعته يقول إن على بريطانيا أن تحمل عصاها وترحل من عدن.  

ويومها، ذكرتني عصا بريطانيا، التي تكلم عنها الرئيس جمال عبد الناصر في خطبته تلك، بعصا السيد في مدرسة القرية (المِعْلاَمَةْ)، وبدا لي أن بريطانيا هذه لديها عصا مثل عصا السيد  تضرب بها الناس في عدن، مثلما يضرب السيد بعصاه التلاميذ. 

كان ذلك هو ما فهمته يومها من خطاب جمال عبد الناصر في مدينة تعز. وفي الأيام التالية حين رأيت الناس يخرجون في مظاهرات للشوارع ويهتفون:

- برَّعْ برَّعْ يا استعمار 

خرجتُ اهتفُ معهم: "برَّعْ برَّعْ يا استعمار".

وكنت أفرح بالمظاهرات أكثر من كل أترابي، ومن كل زملائي في المدرسة، ولم يكن سبب فرحي بها  لأني أكثر وعيا، أو لأن حسي الوطني أعلى من حسهم، وإنما لأني كنت أكره الدراسة.

ولأنها – أي المظاهرات – كانت تحررني من سور المدرسة، وتخرجني من بين جدران الفصول الدراسية، التي أكرهها، إلى الشارع وإلى فضاء الحرية.

وبسبب كراهيتي للدراسة، كانت المظاهرات هي المنقذ، وكنت -في قرارة نفسي- أتمنى لو أن كل أيامنا مظاهرات. 

وذات يوم، وأنا في بيت كافيتا، سمعت أمها تقول إنها وابنتها -بعد رحيل البريطانيين من عدن- سوف  ترحلان إلى الهند.

واستغربت يومها من كلامها، فقد كنت أحسبهما عدنيتين، ليس فقط بسبب لهجتهما العدنية، وإنما لأن لون بشرتهما المائل إلى البياض كان يختلف عن لون بشرة الهنود المائل إلى السُّمرة، لكني فيما بعد حين عرفت أنهما من كشمير الهند.

وبسبب خوفي من أن ترحل كافيتا مع أمها بعد خروج الإنجليز من عدن رحتُ في المظاهرات ادأهتف بلساني مع المتظاهرين: 

- برع برع يا استعمار. 

وأما في الداخل، وفي أعماقي، فكنت أتمنى أن يبقى البريطانيون في عدن كيما تبقى كافيتا إلى جانبي؛ ذلك لأن البنت كافيتا كانت قد ملأت قلبي وروحي وسمعي وبصري، وكانت عدن بالنسبة لي هي كافيتا، وكافيتا هي عدن، وكان يتملكني شعور بأنني بدونها سوف اختنق كما تختنق السمكة حين تخرج من الماء.

وفي مساء ذات يوم، وكافيتا تذاكر لي، تناهى إلى مسامعنا صوت إطلاق نار، وخرجت أجري إلى سوق الطويل، ورأيت الناس يتحلقون حول شخص مُلقى في الشارع، وكان من أصل هندي اغتاله الثوار بتهمة أنه عميل للإنجليز..

وحين اقتربت منه، ورأيته ممددا داخل دائرة من دمه، الذي كان لم يزل طريا، اعترتني قشعريرة رعب، وأسرعت أجري عائدا..

وحين أخبرت أم كافيتا بما رأيته، شحب وجهها، واختفى منه ذلك الألق، والشيء نفسه رأيت وجه كافيتا قد شحب هو الآخر، واكتسى بالفزع.

وقبل خروجي من البيت، طلبت مني الأم أن أمر عند ذهابي إلى المدرسة على كافيتا، وأرافقها إلى مدرستها (البادري).

كان بها خوف على بنتها، وقد  طلبت مني  ذلك اعتقادا منها بأن كافيتا سوف تشعر بالأمان، وأنا بجانبها إلا أن الحقيقة هي أنني من شعر بالأمان؛ ذلك لأن الشياطين الخمسة، الذين بطحوني في الشارع وضربون،  كانوا مازالوا يتحرشون بي، وكنت على يقين من أنهم سيعاودون ضربي عند أقرب فرصة سانحة.

وفي صباح اليوم التالي، مررت على كافيتا للبيت، وبقيت أنتظرها. وأثناء ما كنت أنتظرها في الصالة قدمت لي أمها كيكا لذيذا مع كأس شاي. وعندما انتهيت من أكل قطعة الكيك اللذيذة مع الشاي، كانت كافيتا الحلوة تقف أمامي وهي بملابس المدرسة، وبكل جمالها وفتنتها. ويومها رحت أسير بجانبها وأنا فرح بوجودها إلى جانبي، وكان قلبي يخفق مثل أشرعة المراكب، ومعنوياتي عالية، وكنت أشعر كأن الشارع ملكي، وأنا الملك، لكن الشياطين الخمسة لحظة أبصروني أمشي بصحبة فتاة جميلة شعروا بالغيرة والغضب، وحتى يهينونني  ويذلونني راحوا يتحرشون بي وينادونني:

"يا بو الروتي.."، ولحظتها انهارت معنوياتي، ورحت أتوجس خوفا، وأتساءل بيني ونفسي: "ماذا لو هجموا علي وضربوني أمام كافيتا؟!".

مقالات

ورحل سلطان الأغنية الكبير

سلطان سعيد الصريمي فارس الأغنية، وأبو نشوان؛ "الأغنية" التي صدحت بها حناجر الجماهير لعقود طويلة ولا تزال، واحدٌ من أبناء الفلاحين، أحب البحر، وغنّى للثورة والأرض، وكل جميل في الحياة.

مقالات

علي محمد زيد وترجمة كتاب "الدولة والقبائل في تاريخ اليمن الحديث" (2)

لا بُدَّ مِنْ الإشارة إلى الإنجاز البحثي والعلمي الذي حققه الدكتور بول دريش في التنقيب والبحث عن «قواعد الملازم»،، التي كانت مرجعًا للعديد من الدراسات والأبحاث؛ ومن أهمها رسالتا الدكتوراة لكُلٍّ مِنْ: الدكتور فضل أبو غانم، والدكتور رشاد العليمي.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.