مقالات

أبو الرُّوتي (28)

26/03/2025, 13:24:55

في الليالي التي لم يكن فيها حظر تجول كان ربُّ عملي يقول لي أمام أخي سيف:
" تعال معي -يا عبد الكريم- نتعشِّي ونتمشِّي".

وكان أخي سيف من فرط طيبته يصدِّق بأننا ذاهبان إلى العشاء والتمشية.
 
ثم إنه لم يكن يعرف أن ربَّ عملنا يذهب إلى السينما، ولو أن أحدهم قال له ذلك لما صدَّق، أو ربَّما اتهمه بتشويه سُمعة ربِّ عمله.

وذات يوم، ونحن في طريق عودتنا من السينما، سألني ربُّ عملي عن دراستي في القرية، وأين درست؟
فقلت له: إن جدتي سجلتني ب"مدرسة البعث" في قرية "بني علي"، وفيها درست إلى صف ثالث ابتدائي.

وبدا مستغرباً حين قلت له ذلك، وكأنه غير مصدِّق، وقال لي:
"من صِدق جدَّتك نزلت إلى قرية بني علي تسجلك بالمدرسة!!".

قلت له: "من صدق".

وزِدْتُ، فقلت له:
"كانت تدفع رسوم المدرسة من مصروفها الذي يرسله لها جدي علي إسماعيل من عدن".

واستغرب ربُُ عملي أكثر حين عرف أن جدتي هي التي تحمَّست لتعليمي، وليس أبي.

وحين قلت له إنها هي التي أرسلتني إلى عدن لأكمل دراستي، قال لي:
 "جدَّتك -يا عبد الكريم- كانت تعرف أنك ذكي".

ومع أنِّي فرحت بقوله عنِّي إنِّي ذكي إلا أنِّي قلت له، وأنا مستحي وخجلان:
"لا، مش انا ذكي".

وعندما كانت جدَّتي تقول لنساء القرية إنني ذكي، لم أكن أصدِّقها، وكنت أقول بيني وبين نفسي:
"أيش عرَّفها جدَّتي أننا ذكي وهي ما درست ولا دخلت مدرسة!!".
 
وبعد أن نزلت عدن، ورسبت في صف رابع بالمعهد العلمي الإسلامي، تأكد لي أنها كانت تكذب عليَّ وعلى نساء القرية.

وأمَّا ربّ عملي، ومع أنّي لم أصدِّقه إلا أن قوله عني إني ذكي لم يفرحني فقط، وإنما أيقظ في نفسي شعورا بالمسؤولية، فكان أن رحتُ أقرأ الصحف (فتاة الجزيرة، الأيام)، وجريدة "الفضول".. الخ. وبدأت أرتاد المكتبات، وأتطلَّع في الكتب المعروضة.

 وذات صدفةٍ، اكتشفت مكتبة "مِسْوَاط"، وكانت مكتبة ضخمة؛ فيها نظام إعارة، ومنها رحتُ أستعير القصص والكُتب، وأقرأها في المساء بعد الانتهاء من عملي، وكنت أقرأ في "المَفْرَش"؛:وهو المكان الذي يُبيع فيه أخي سيف الرُّوتي للزبائن، والسبب أنه كان هناك ما يشبه المقعد، وفيه مروحة تلطِّف حرارة الجو،؛لكن البعض من أولئك الذين يأتون لشراء الرُُوتي عندما كانوا يرونني منهمكاً في القراءة، يقتربون منِّي، ويزعجونني بفضولهم، ويشتِّتون انتباهي بأسألتهم:
"أيش اسم هذ الكتاب يا بو الرُّوتي؟"، "من أين اشتريت الكتاب يا بو الرُّوتي؟".

والبعض يقترب منِّي، ويقول متهكما؛ وكنت أزعل بيني ونفسي وأقول: "أيش معنى أنا يقولوا لي: أبو الرُّوتي، وأخي سيف الذي يبيع لهم الرُّوتي ما يقولوا له!!".

لكن أحدهم، ذات مرَّة، تجاوز حدوده، وقال لي:
"يا بو الرُّوتي خلِّيك بالرُّوتي بس، وخلِّي لنا الكتب، لا تكون طمّاع".
 
وبعد أن قال لي ذلك، انتزع الكتاب من يدي، وخرج يجري، وخرجت بعده، وأنا زعلان من تصرفه، وبعد أن أبصرني مصرا على استرجاع كتابي، قال لي:
"خلِّينا أقرأه، وبعد ما أكمِّل  أرجعه لك".

وحين رفضت، زعل منِّي، وقال لي:
"أنا متأكد -يا بو الرُّوتي- أنك ما تعرف تقرأ، وهذا الكتاب الله أعلم من أين سرقته".

ولشدة غضبي من اتهامه لي بالسرقة، وثبت عليه، ورحت أحاول استعادة كتابي بالقوة، وكان هو يشد الكتاب ناحيته، وأنا أشده ناحيتي. وبعد كل ذاك الشد والجذب، انتزعته منه، وقد تمزَّق الغلاف، وتمزَّقت الكثير من أوراقه.

وعندما أرجعته إلى مكتبة "مِسْوَاط"، انزعج أمين المكتبة حين رأى الكتاب ممزقا، ولم يكتفِ بلومي وتوبيخي، ولكنه طلب مني مبلغا يعادل قيمة الكتاب، أو ربما الضِّعف.

 وفيما كنت في مكتب أمين المكتبة أدفع ثمن الكتاب، دخل شخص من جيراننا في منطقة العيدروس، وأول ما أبصرني  بجانب أمين المكتبة، قال لي:
"أيش جابك المكتبة يا بو الرُّوتي؟!".

وبعد أن قال لي ذلك، التفت أمين المكتبة ناحيتي التفاتةً غير مريحةٍ، أثارت في نفسي الخوف، وشعرتُ من نظراته  بأنه سيرفض السماح لي بالاستعارة بعد أن عر ف بأني "أبو الرُّوتي".

وبقيت واقفاً على قلق، وفي رأسي سؤال يدور ويلف:
"هل سيسمح لي أمين المكتبة بالاستعارة، أم سيرفض بحُجة أن المكتبة لا تعير كتبها لأشخاص من أمثالي؟!".

كانت كلمة "أبو الرُّوتي" أشبه ما تكون بتهمة أو وصمة عار تلاحقني.
وعندما أكون بين ناس، وأنا فرح، ومبتهج، ومعنوياتي عالية، وأسمع أحدهم يقول لي: "يا بو الرُّوتي"، يتبخّر فرحي، وتتلاشى ابتسامتي، ويكتسي وجهي بالغضب، وتتوتر أعصابي، وتظهر في تقاسيم وجهي رغبة في الاعتداء على المتكلم.
 
وأما حين  يكون المتكلم بنتاً   فكنتُ أستحي، وأنكمشُ، وأضمرُ، وأصغرُ، وأشعرُ كما لو أنِّي ذبابة أو صرصار.

مقالات

تبرّعوا.. وراقبوا!

وسط دوامة الموت المجاني التي تطوِّق اليمنيين، يتقدّم السرطان كوحش لا يتوقّف عن التهام حياة عشرات الآلاف سنوياً، لا يفرِّق بين رجل وامرأة، شيخ مسن أو طفل.

مقالات

الشاعر الذي حاجج عمر بن الخطاب!

بعض الشعراء الكبار أغفلتهم التراجم والسِّيًر، ولولا بعض الكُتب التي أنصفت تاريخهم ومكانتهم الشِّعرية لكانوا نسيًا منسيًا، ومن هولاء الشاعر سُحيم بن وئيل عبد بني الحسحاس، الذي لفج وجهه وهو وليد ضوء الخارج، إذ نزل مهده قبل ارتفاع الرسول إلى الرفيق الأعلى بتسع سنوات

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.