مقالات

أحمد الحبيشي.. بَحّة الصوت الشجية كهوية غنائية

23/04/2025, 06:58:04

لا تكاد تسمع أحمد الحبيشي دون أن تجذبك بَحة صوته، تلك الكسرة الصوتية الرّقيقة التي التصقت به منذ بداياته، وتحوّلت مع الوقت إلى سِمة أساسية في هويته الفنية.

ما يميِّزه ليس النَّبرة، ولا الطبقة العالية التي يجيدها، ولا حتى اللون الغنائي التراثي الذي برع فيه، وأضاف له من ألحانه. ما يميّزه هو تلك البّحة التي تسكن صوته، كما يسكن الحنين قلب العاشق المفارق.

ليست بحّة إنهاك، ولا خشونة تعب تثلم صفاء الصوت، بل تكوين صوتي أصيل، فيه شجن وجداني خافت، يمنح كل جملة غنائية نفحة من روح الفنان وتجربته في الحياة. بحّة صوت تضفي على أدائه رنَّة خاصة تميِّزه عمن يتقمص الإحساس ويتظاهر به.

هذه البُّحة ليست عرضاً جانبياً، بل ملمح أساسي في شخصيّته كفنان، ومدخل مُهم إلى تجربته الغنائية.

برزت موهبة الحبيشي الغنائية بداية تسعينات القرن الماضي، وهي نقطة فاصلة بين جيل الفنانين الكبار (جيل الستينات والسبعينات)، والجيل التالي الذي يمثل فؤاد الكبسي وأحمد الحبيشي أبرز رموزه.

الأصوات تُقاس بصفائها ونقاوتها، لكن الفنان أحمد الحبيشي جعل من بحّة صوته، وقدرته على الغناء بطبقة صوت عالية، هوية خاصة له. 

بدت بحّة صوته كأنها لحن فرعي يرافق أغنيته من بدايتها حتى نهايتها. في كل مقطع يؤديه، كانت تلك البحّة تقول شيئا مكملاً للكلمات الممتزجة برنات العود ونغماته.

-"رحمتي لك"..

أغنية امتزج فيها حزن الشاعر بشجن الفنان.

كانت هذه الأغنية «رحمتي لك» أول لحن للحبيشي في بداية حياته الفنية منتصف التسعينات، لكنها بدت وكأنها تتويج مبكر لنضوج فني داخلي، يسبق الخبرة بسنوات:

رحمتي لك يا غُزيِّل

يا صُغيِّر يا غرير

رحمتي لك يا مُفارقْ

يا مُعذَب يا كسِيرْ

بهذه الكلمات، يفتتح الحبيشي واحدة من أكثر أغانيه تعبيرا عن أسلوبه وطريقة أدائه. الشاعر الكبير مطهر الإرياني كتبها، كما يُقال، رثاءً لابنهُ طارق الذي مات في غير أوانه «كان عمره 15 عاماً». لكن هذا الحزن الخاص تحوّل في الأغنية إلى مدى شعوري مفتوح، كأن كل مستمع يجد فيها حزنَهُ وحنينه.

“رحمتي لك” لم تُكتب فقط لابنٍ غائب، بل لكل القلوب التي حملت هماً أكبر من قدرتها على الاحتمال، وغنّت:

رحمتي لك كيف يحمل

قلبك الهم الكبير

يا جبال أبكي لعاشق

كات في عُمر الزهور

تُلامس بحّة صوت الحبيشي كلمات هذه الأغنبة كأنها شجن يطفو على سطح الصوت. شجن جميل لا يُثقل الجملة الغنائية، بل يمنحها إحساساً إنسانياً عميقاً، يمنحها تجربته.

فيها رقة مُكثفة ممتزجة بالحُزن، كأنها عبرت قلبه قبل أن تصل إلى حباله الصوتية.

الإحساس نفسه تجده في أول شريط صدر له مفتتح تسعينات القرن الماضي "ليلاه"، ويطربك بها في أغنية "وقد رسولي الطير"، لكنه أكثر تعبيراً في "رحمتي لك".

هذه القصيدة تجمع بين مناسبة كتابتها، ومدلولها الواسع في أدائها كأغنية. الأداء البديع للفنان أحمد الحبيشي في هذه الأغنية وصل بصوته إلى أقصى مدى لقدرته على سبر أغوارها.

هناك حزن شفيف في هذه القصيدة / الأغنية، والحزن لا يُؤدى بصوت سليم تماماً، بل يحتاج إلى نبرة صدق، كسرة خفيفة، بحّة، وهذا ما يمتلكه الحبيشي فطرياً.

في المقاطع العالية، في أغنية "رحمتي لك" تحديداً، لا يهرب الصوت من البحّة، بل يصعد بها، كما يصعد الحزن حين يتحوّل إلى إحساس عالٍ محلّق فوق تناقضات الحياة.

ترتفع النبرة، لا لكي تستعرض قوة الصوت وقدراته، بل لتستعرض حنيناً غائراً في النفس، فتبدو متناغمة مع المعنى في كلمات الشاعر ، هذا يُضيف للشجن نكهة خاصة.

البحّة هنا إنسانية محببة، وكأنَّ الصوت يقطر دمعة استقرت كقطرة شافية في القلب الحزين.

اللازمة الغنائية الأخيرة في الأغنية تفتح بُعداً آخر، إذْ تنتقل من خطاب فردي إلى مشاركة جماعية في الحنين.

في هذا المقطع تحديداً، تتجلى فرادة الأداء المتميِّز، والتكثيف العاطفي في لحن الحبيشي:

يا بنات بالله هاتين

قصته من نغمته

اهجلين باسمه وغنين

واخبرين عن حالته

أكثر أغانٍ تميّز الفنان الحبيشي في أدائها، وتكثفت فيها بحّة صوته الشجية، بالإضافة الى "رحمتي لك" هي:

"وقد رسولي الطير، يا أهل الهوى، ليلاه، أقضي اليوم سالي، يا عقرب الساعة، كم من الوقت شا راعي لكم، قالوا عزم خلي وشد رحله، يا شاغلين البال، ما عادناش جمال، أحباب أحباب لا جاكم مطر في الليل لا تحسبونه مطر هو دمع عيني سيل". وأغنية "ما بالهم عذبوني"، وهي من ألحانه.

في مرحلة لاحقة، ومع مرور الزمن، بدأت البحّة نفسها تتغيّر. صارت أثقل. وبدت وكأنّها تُربك الجملة الغنائية، وتحدّ من مدى صوته، وتقيّد أداءه في الطبقة العالية التي تستهوية، وعُرف بها أمام جمهوره.

لم يعد قادراً على أداءاته السابقة نفسها، ومع ذلك ظلت البحّة جزءا لا ينفصل عن روحه الغنائية، حتى حين تحوّلت من نقطة تميّز إلى ثُقل طاقي يكسر رتم أدائه، ويفقده القدرة على تقديم أفضل ما لديه.

هل الإجهاد هو السبب، التدخين، التقدم في العمر، الغناء في ظروف غير ملائمة (الأعراس)، أم المرض الذي عانى منه وزادت وطأته عليه مؤخراً؟ ربَّما كلها مجتمعة.

هذا ما جعل الحبيشي يحتفظ بعدَّة أغانٍ من ألحانه. أفصح عن ذلك في 'بودكاست' حديث، وأنه لم يجد الفنان الشاب الذي يؤديها بالطريقة نفسها التي يريدها. إحدى هذه الأغاني أدَّاها الفنان حمود السمة. لكن الحبيشي ذكر أن حمود غناها بطبقة منخفضة، وليس بالطبقة العالية التي يهواها الحبيشي، ولحن الأغنية على رتمها.

-دعمه للفنانين الشباب

تحدَّث الفنان حسين محب في 'بودكاست' مع أسامة عادل قبل أسبوعين عن بداياته، واستعاد تلك اللحظة الفارقة التي أمسك فيها الفنان أحمد الحبيشي بيده، واتصل بأسرته وأقنعهم بالسماح له بالغناء، ثم منحه عوده الخاص ليأخذه معه في أول حفلة يحييها في زبيد، وكأنَّما سلّمه مفاتيح الطريق.

ذلك التصرَّف، على بساطته، كان فعلاً رمزياً بالغ الدلالة: فالفنان الكبير لا يخشى الصوت الجديد الذي يمكن أن يخطف الأضواء منه، بل يسُرُهُ أن يرى أثره يظهر في الآخرين.

لم يكن يخشى أن يتجاوزه أحد، أو أن يُطمس اسمه خلف بريق قادم جديد؛ لأنه لم يرَ في الفن حلبة صراع بل ساحة وهج جماعي، تنضج فيها التجربة الفنية بالتراكم بقدر ما تحفِّزها وتغنيها المنافسة.

هكذا نرى صورة الفنان مكتملة:

يقدِّم خبرته ودعمه لفنان شاب، لا باعتباره متفوقاً يتفضّل، بل كصديق يدرك أن الفن الحقيقي لا يكتمل إلا بالمشاركة.

يدعم الفنانين الشباب، لا بنبرة المُعلم، بل بنبرة الشغوف الذي يرى في كل وجه جديد احتمالاً لحلم قديم يتجدد، وفي كل صوت صاعد امتداداً للصوت الإنساني الكبير الذي ينتمي إليه الفن.

ولم يكن الموقف مع الفنان حسين مُحب استثناءً بل سِمة في حياة الحبيشي. 

الفنان عبد الرحمن الأخفش تحدّث عنه بتبجيل، ووصفه بأنه كان صِلة وصل بين جيل الفنانين الكبار وجيل الألفية الجديدة.

الفنان حمود السِّمة أكثر قرباً منه، وتأثر به، وغنى من ألحانه. فنانون شباب آخرون يعرفون أن الحبيشي هو الفنان الذي لم يضع حاجزاً بينه وبين من يطرق بابه.

في شخصية أحمد الحبيشي، يلتقي الفنان بالإنسان، في تمازج لا تذبل فيه الموهبة بانغلاقها على الذات، بل تتألق وتكبر بتلقائية العلاقات المتحررة من الأنانية والأثرة.

الأنسان الذي يملك روحاً سخية، ويمسك بيد فنان شاب، ويمنحه خبرته، هو فنان حياة فوق كونه فنان غناء.

الفن، حين يبلغ ذروته، يتحوّل إلى حالة اندماج مع الآخرين: إحساساً، ومشاركة.

وما من فنان حقيقي إلا ويحمل في أعماقه هذا التحرر من "الأنا" المرضية.

-الصوت المُعتق، وسلطنة الأداء

في جلسة مقيل جمعتني بصديق يمتلك ذائقة مرهفة، استمعنا معاً إلى تسجيل متأخر لأيوب طارش وهو يُغني: “حبيت واخلصت في حبي لمن كان خداع…”. اعترض الصديق قائلاً: “التسجيل القديم لهذه الأغنية أجمل، صوته فيه نقياً وعذباً”. لكني رأيت العكس؛ إذ يحمل التسجيل المتأخر بَحة رخيمة، تفيض بالشجن، وتمنح الأغنية نغمة ُلم تمتلكها في "نسختها" الأولى.

بحّة معتقة تمنحها نضج التجربة، وغسق الروح، وحنين المفارق لربيع العُمر.

بحّة الصوت لدى أيوب طارش ظهرت مع تقدّمه في السِّن. لدى علي حنش كانت بحَّة شعبية، فيها تلقائية الناس وصخب حياتهم اليومية، لكنها أيضاً كانت تحمل أثر الإفراط؛ السهر والقات والذوبان في ساعات صنعاء السليمانية ولياليها،

وكأنّ الصوت لم يأبه لصاحبه، فبدأ يتآكل.

جورج وسوف كان صوته صافياً ونقياً في بداياته. بحّة الصوت ظهرت لاحقا، وكانت مفتاح نجوميته، وطابعا غنائيا خاصا به، لا يشبهه فيه أحد، مع أنها بحّة وجدت من تآكل وتمزّق في الصوت.

صوته يحمل علامات إفراط واضحة: صوت يتأوّه ويُقاوم كي يظهر. صوت يأتي من حنجرة مخنوقة، لكنه أيضاً صوت آسر بطريقته الخاصة؛ لأنه يُغني من عمق الحياة، من إحساس حقيقي، وهذا يُلامس المستمع بعمق لا تستطيع الأصوات النقية الوصول إليه. وربما بقي مغموراً أو توقف عن الغناء لولا تلك البحّة الممزقة التي تمنحه قدرته على "السلطنة" بين مقاطع الأغنية هابطاً وصاعداً معهاً كأنه دنيا لوحده.

في المقابل، تميَّز أحمد الحبيشي، منذ البداية، ببَحّة صوته، لكن مع طبقة عالية نادرة الانسجام مع هذه السِّمة الصوتية.

كانت طبقة صوته العالية تصعد بأريحية متناغمة مع البحّة، وهما مِيزتان كان بإمكانه أن يذهب بعيداً بهما، لكنه حصر نفسه في مساحة غنائية ضيِّقة، هي الغناء التراثي، تحديداً عبر تأثره بالفنان محمد أبو نصار.

في غناء أحمد الحبيشي، هناك مزاج وانسجام داخلي لافت، كأنَّك تجلس معه في مجلس خاص. لكنه يفتقر أحياناً إلى الجاذبية الإيقاعية. أداؤه يوحي بالحميمية لا بالانطلاق، بالثبات لا بالحركة. لم يغامر بالذهاب إلى غناء ألوان أخرى، أو الغناء مع فرقة موسيقية.

ورغم أن تجربته لم تذهب إلى مداها الأقصى كما يليق بفنان يملك ذلك الصوت المتفرّد، إلا أن البصمة التي تركها لا يمكن نسيانها. صوته، ببَحّته الشجية وأدائه الرفيع، سيبقى حياً في وجدان محبي الطرب اليمني، كعلامة فارقة في جيل التسعينات.

لم تُتحْ للفنان أحمد الحبيشي ظروف الانتشار الواسع، واضطر إلى الاغتراب عشر سنوات للعمل في السعودية لتوفير متطلبات الحياة لأسرته، لكن الفن الذي قدّمه في سنواته الذهبية يكفي ليمنحه مكانته. لقد غنّى بما يكفي ليكتب اسمه في سجل الفنانين الكبار، ووهب صوته للوجدان الجمعي دون تكلّف أو ادّعاء. 

أحمد الحبيشي صوت له بصمة خاصة، التمع مكتملاً منذ أول ظهور له، وتوارى بهدوء، لكنه ترك أثراً لا يُمحى.

مقالات

"كمران" أكثر من علامة تِبغ!

ربّما يعرف اليمنيون جميعاً "كمران" باعتبارها العلامة التجارية الأولى لأهم منتج محلي من التبغ، لكن ربّما يجهل الغالبية العظمى منهم أنها من أهم الجزر اليمنية على البحر الأحمر.

مقالات

لماذا تغيّرت سياسة الولايات المتحدة تجاه الأقليات الشيعية في المنطقة؟

في كتابه الدبلوماسية، أشار وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر (1923–2023)، الذي وُصف بثعلب السياسة الخارجية الأمريكية، إلى أهمية دعم الولايات المتحدة للأقليات في الشرق الأوسط، وعلى رأسها الشيعة.

مقالات

أبو الرُّوتي (31)

بعد انتقالي إلى حي المنصورة، وفي أول يوم أذهب فيه إلى كلية "بلقيس"، حدث الموقف نفسه الذي حدث معي في 'كريتر' عند ذهابي إلى المعهد العلمي الإسلامي، مع الفارق أن الذين تعرضوا لي هذه المرَّة لم يكونوا طلبة

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.