مقالات
أربعة أيام.. عزلت اليمن عن العالم!!
تذكّرنا -خلال الأيام الأربعة الفائتة- كل ما استخدمه الناس في اليمن للتواصل في زمن ما قبل الإنترنت ووسائل الاتصال الحديثة، من "الطَبَلْ" والجوابات الورقية ومظاريفها، إلى البرقيات والتلكس والفاكس والتليفونات الأرضية.
لم يعرف اليمني معنى العزلة عن العالم مثلما عرفه وعاشه في أربعة أيام من الانقطاع التام للإنترنت في كل اليمن. سبع سنوات من الحرب، وما جلبته من أزمات، لم تجلب إحساسا بالعزلة شبيهاً بما فعلته أربعة أيام عزلت ثلاثين مليون يمني عن العالم.
أربعة أيام كانت أكثر من كافية لإعادة تذكيرنا بما يعنيه الإنترنت في بلد مثل اليمن، تكاد الحرب أن تُلقي به خارج الحياة والعالم.
في بلدان أخرى مستقرة وحجم تجارتها واقتصادها وأعمالها أكبر، واعتمادها على الاتصال بالعالم لا يقبل احتمالات توقف كهذا الذي عرفته اليمن، يقاس أثر التوقف، حتى لو كان لساعات، بما يخصمه من حالة مكتملة العافية في اقتصادها واستقرارها ونموها، أما في اليمن فيقاس الأثر بما يعكسه على ما تبقى من حياة.
هنا تتساوى أهمية الإنترنت للجميع في عالم اليوم، أكانوا رجال أعمال في هونج كونج ومانهاتن أو أناسا تطحنهم الحرب في بلد مثل اليمن.
وكأنّ لا حياة بدون الشبكة العالمية التي حولت العالم إلى فضاء واحد متصل، ذلك أنها غيّرت مفهوم الحياة أساساً مثلما غيّرت منظوراتنا كلها.
عالم اليوم هو عالم الإنترنت والتواصل، وهو ليس سوى وجه واحد من تقدّم علمي شكّل عالمنا وغير حياتنا، عالم خرائط ال "دي إن أي" وعلوم الوراثة والدماغ والأعصاب، وزراعة الأعضاء، ومكائن الغسيل الكلوي، وجراحات زرع الشرايين القلبية، وتطورات العلوم الطبية التي تستخدم أجهزة الرنين المغناطيسي والموجات فوق الصوتية لفحص الدماغ والجسم البشري، والفحص التصويري الوعائي للقلب.
الإنترنت والتطورات العلمية غيّرت عالمنا والحياة من حولنا. غيّرت صورة المشهد كله، وغيّرت وعينا بالأشياء ونظرتنا للاقتصاد والسياسة والحرب والعالم والحياة.
هذا الفضاء العالمي الواحد هو ما يجعل الأثر هو نفسه في بلد متقدّم ومستقر، وبلد يعيش حالة حرب وانهيار للدولة، وإن اختلفت درجات الأثر ومستوياته.
يتعايش اليمنيون مع حالة حرب تنطوي على مصفوفة متنوعة من الأزمات: انقطاع المرتبات، أزمات الغاز والبترول والديزل، صعوبة التنقل للبشر والبضائع والسلع في الجغرافيا النازفة والملغومة بالحواجز والنقاط والمسلحين والجبايات، اهتراء ما تبقّى من قوام المؤسسات التعليمية بعد انهيار الدولة، انهيار العملة واتساع رقعة الفقر الذي يكاد أن يعم معظم السكان، ومع كل ما تتضمنه متوالية البؤس هذه لم يكن انقطاع الإنترنت لمدة أربعة أيام حدثا اعتياديا، لقد كان تجريباً مفزعاً لإغلاق ما تبقى من أنفاس اليمن.
التعبير يكاد أن يتساوى مع التنفس الطبيعي في بلد مكظوم مثل اليمن.
أن تنشر في وسائل التواصل الاجتماعي معناه أن تتنفس. الرأي والتعليق على حدث سياسي يتساوى هنا مع المنشور الساخر، والصورة الشخصية، التهاني والتعازي، والمقالات وأخبار الفعاليات.
كل ما يظهر في هذا الفضاء هو رئة تنفس اصطناعي بديل لجموع تسحقهم الحرب وانعكاساتها على حياتهم، ربّما أكثر مما تفعل بالمقاتلين في الجبهات.
فضاء التعبير هنا ليس إلا رأس جبل الثلج في مصفوفة أهمية الإنترنت في اليمن. الحياة تتوقف تماما بدون نت: الصرافين والبنوك التجارية، تحويلات المغتربين لأهاليهم وأسرهم، واتصالاتهم المجانية، جزء كبير من التجارة المعتمدة على النت مثل استيراد السيارات المستعملة -على سبيل المثال- الباحثين والطلاب الذين يعتمدون على النت كمصدر أساسي للمعلومات.
هي سلسلة لا نهاية لها من أوجه حياتنا ترتبط بالإنترنت وتعتمد عليه.
في وسائل التواصل الاجتماعي بإمكانك اليوم تنزيل آلاف الكتب من تيلبجرام، وهو واحد من تطبيقات كثيرة جعلت المعرفة متاحة مجاناً لمن يرغب.
إلى هذا الفضاء الإلكتروني يلجأ الباحثون عن وظيفة، مثلما تفعل الشركات وأصحاب الأعمال لعرض فرص العمل والمنتجات والإعلانات.
لا صحافة في اليمن في زمن الحرب، غير أن بإمكانك أن تضغط على موبايلك لتصفّح العدد الصباحي من 'النيويورك تايمز' و'الجارديان' و'اللوموند' في أقاصي الأرض، بلغاتها الأصلية: الإنجليزية، والفرنسية، أو مترجمة إلى العربية.
القواميس والموسوعات لا تتطلب سوى مهتم يرغب بنكز سباتها، وتصفّحها، أو إنزالها إلى جهازه كمرجع ثابت للاستخدام.
هذا الفضاء يكاد أن يكون حياة موازية، لمن أمرضتهم حياة الاستقرار في دول الغرب، كما هو لمن أنهكتهم الأزمات والحروب والفقر في العالم المقيم في أتون الماضي وحبائله وصراعاته.
النت هو الوحيد المنفلت من قوائم المحظورات وحواجز الجماعات المنبعثة من قبورها، والدول التي تخوض حروبها بدمائنا، وإن استخدمته فهي تحظر مثلها مثل كل مستخدم آخر لا تحدده مكانته في سلّم سلطات الدويلات وأمراء الحرب ، والدول الساعية لصنع نفوذها فوق أشلائنا وخارطتنا الممزّقة.
المجتمع الإلكتروني ليس ترفاً فائضاً ولا حالة مؤقتة، هو أحد أوجه الحياة في عالمنا، وجهها الناظم، ورتمها غير القابل لتجنيبه والاستغناء عنه.
أن تُسْتلب حياة الكثيرين في الإقامة داخل الشاشات، هذا تحدده طريقة الاستخدام لا طبيعة النت ووسائل التواصل الاجتماعي.
التفت عمران في ظهيرة يوم من أيام الانقطاع الأربعة، وهو شاعر شاب وشبه مقيم على شاشة الموبايل، مشيراً بإندهاش إلى حاضرين جميعهم لا يمسكون الموبايلات في حالة نادرة وغير مألوفة: لقد اكتشفت -خلال يومين من انقطاع النت- أن موبايلي مليء بكتب وأفلام وأغاني أجنبية ومقطوعات موسيقية عالمية!
هذا ليس استثناءً. معظمنا يلهث لمعرفة أو اكتشاف شيء لم يسبق أن عرفه، وعندما يجد الكتاب، الفيلم الذي يبحث عنه، المقالة التي أنهك جهازه العصبي لتصفحها وتنزيلها، يرمي بما بحث عنه في أرشيف موبايله، ويعود إلى مواصلة البحث اللاهث، وكأنّ مثل هكذا تصفّح منهك يقطع الأنفاس ويستهلك الأعصاب، غاية بحد ذاتها. غاية تعيد تشكيل منظومتنا الدماغية والعصبية. عادة تزرع القلق في رؤوسنا، وتستبدل ما تتلفه من ذاكرة المتصفح، بإرشيف إلكتروني عُرضة للحذف، وغير متاح للاستخدام كآلية تفكير في ذهن المستخدم المقيم في شاشة موبايله.
ضعف الذاكرة، الذي يكاد أن يكون حالة عامة، له علاقة بهذا الإفراط في الإقامة بالشاشات. كان الأوائل في الزمن القديم يستوعبون معارف زمنهم في رؤوسهم وعندما وُجِدَتْ الأوراق ودفاتر الملاحظات استخدمت هذه الأخيرة لبلورة الأفكار وتدوين الملاحظات، لا كبديل للذهن يضعفه ويخصم من قدراته على الاستيعاب وهضم المعارف.
في عصر الشاشة، هناك ما يشبه الإحساس اللاواعي بأن ما تقوم بإنزاله من الأونلاين وتؤرشفه في موبايلك هو جزء من دماغك، ذاكرتك، دوائر جهازك العصبي التي غدت متصلة بالدوائر الإلكترونية التي تستخدمها، كأنها امتداد لها وجزء منها.
ليس ما تؤرشفه فحسب، الشبكة الإلكترونية تتلاحم مع شبكتك الدماغية، وتغدو في اللاوعي بديلا متاحا وجاهزا ساعة تحتاجها للبحث عن معلومة، للاطلاع على مراجع عنوان ما، لقراءة ما كُتِب حول هذه الفكرة الفلسفية أو تلك القضية أو ذاك الحدث التاريخي.
هذا ليس تأثيراً محتوماً على كل مستخدم للإنترنت. هو بالأحرى احتمال يمكن الوقوع في اعتياداته من مستخدمين تكاد حياتهم أن تُختزل في الشاشات ودوائرها الإلكترونية. أتكلم بالطبع عن حقل روّاده تأسرهم الاهتمامات المعرفية والثقافية، تاركاً أنواع أخرى عديدة من المستخدمين للإنترنت لمن يأتي من أوساطهم، ومن هو أكثر اطلاعاً بطبيعة علاقاتهم بالفضاء الإلكتروني، وتأثيراته عليهم، وما يشغلهم فيه، ويستحوذ على اهتماماتهم.
نحتاج بين الحين والآخر إلى أخذ إجازة من حياة الشاشات، كما نحتاج إلى ترشيد علاقتنا بها، كمتسع يضيف إلى حياتنا ويلبّي احتياجاتها لا كبديل عنها يستلبها ويصيبها بالتشوش ووجع الدماغ. غير أن ذلك لا يتحقق ببتر الإنترنت وانقطاعه التام. هو يتحقق بإدارة علاقتنا بفضاء هو جزء من حياتنا، وعَلامةْ عالمنا التي تمنحه طابعه وسمته الأساسية وملامحه وآليات تواصله وميكانزمات اشتغاله وشروط تطوره وقفزاته. لما لا، وهي من تمنحه اسمه المرتبط بكل مجالاته: عصر المعلوماتية، وما يتناسل منها من مسميات؛ الفضاء المفتوح، القرية الكونية، وكل تسمية تشير إلى هذه السمة التي بإمكانها أن تتجاوز الحدود وتختزل المسافات، وتخفض التكاليف والجهود، وتسرّع التغيرات، وتمكّن عالمنا من تحقيق تطورات تقنية وعلمية حاسمة ومذهلة في زمن قياسي، كانت تطورات علمية أقل منها بكثير تحتاج إلى حقب زمنية طويلة كي تكتشف وترى النور.