مقالات
أزمة الثقة في اليمن.. من انقسام الداخل إلى استغلال الخارج (1)
يواجه اليمن اليوم واحدة من أعقد أزماته التاريخية: أزمة الثقة المفقودة بين مكوناته الاجتماعية والسياسية. أزمة لم تولد من رحم الحرب الأخيرة فحسب، بل تمتد جذورها إلى قرون من الشك المتبادل والريبة المتوارثة، تلك التي حذّر منها أبو الأحرار الشهيد محمد محمود الزبيري قبل أكثر من ستة عقود، حين رأى أن داء الشك المستحكم بين القوى اليمنية أخطر على البلاد من الاستبداد نفسه.
وإذا كان التناثر الجغرافي وصعوبة التواصل بين مناطق اليمن قبل قيام الجمهورية قد أسهما في ترسيخ هذه النزعة، وأفسحا المجال لتعدد الولاءات وتكاثر مراكز القوى، فإنّ العقود اللاحقة عمّقت هذا المرض الاجتماعي والسياسي عبر سياسات داخلية وخارجية ممنهجة، غذّت الشكوك وأضعفت الروابط الوطنية. وهكذا تحوّل الشك من ظاهرة طارئة إلى مكوّن بنيوي في العلاقات بين القوى اليمنية، يعيد إنتاج الانقسام كلما لاحت في الأفق فرصة للتوافق أو التوحد.
الانقسام الداخلي وتدخل الخارج
لم يكن الانقسام اليمني شأناً داخلياً خالصاً، بل تحوّل عبر العقود إلى ساحة مفتوحة لتجاذب الفاعلين الإقليميين والدوليين، كلٌّ يسعى لتوظيف الانقسام بما يخدم مصالحه الاستراتيجية وأمنه الإقليمي.
فالسعودية، التي نظرت إلى اليمن بوصفه عمقها الأمني والاستراتيجي، حرصت على إبقاء توازن هشّ في المشهد اليمني، توازن يضمن نفوذها الدائم ويحول دون قيام دولة مركزية قوية قد تتخذ قرارات مستقلة عن إرادتها. ورغم ما قدّمته من دعم سياسي واقتصادي حاسم في محطات متعددة، فإنّ سياستها غالباً ما استهدفت إدارة النفوذ لا بناء الدولة، ما جعل حضورها جزءاً من معادلة الاستقرار الهشّ لا من معادلة الدولة الراسخة.
أما إيران، فقد دخلت إلى اليمن من بوابة الاستثمار في الهامش المذهبي، فحوّلت جماعة الحوثي إلى أداة إقليمية ضمن مشروعها العابر للحدود. ومن خلال هذا الاستثمار، عملت على تحفيز انقسامات عمودية في بنية المجتمع اليمني — شمالاً وجنوباً، وزيدياً وشافعياً — محاولة إضفاء طابع طائفي على صراع لم يعرفه اليمن في تاريخه الطويل، لا في القديم ولا في الحديث، وقد شاركها في ذلك فاعلون آخرون، سواء من الأطراف المحلية، أو القوى الاقليمية.
وفي الوقت نفسه، انتهجت الإمارات مقاربة قائمة على تفكيك المركز، عبر بناء مراكز نفوذ محلية على امتداد الجنوب والسواحل اليمنية في البحرين الأحمر والعربي، مستخدمةً تشكيلات عسكرية وأمنية موالية لها، تتحرك خارج إطار مؤسسات الدولة الشرعية. محاولة إحياء المشروع الاستعماري البريطاني في منتصف القرن العشرين، الذي دفنته اليمن في ثورة الرابع عشر من اكتوبر ١٩٦٣م المجيدة. وهكذا تداخلت المشاريع، وتعارضت الأجندات، وتشتتت الولاءات، وتشظّى المشهد بين قوى داخلية تبحث عن الحماية والدعم، وتقتات على هذا الصراع، وقوى خارجية تتنازع النفوذ.
أما الغرب، فقد اكتفى بإدارة الأزمة من بعيد، ناظراً إلى اليمن من زاوية إنسانية ضيقة، دون التزام سياسي أو أخلاقي يرقى إلى حجم الكارثة، مكتفياً بخطاب الإغاثة بدلا من معالجة جذور الانقسام التي غذّتها سياسات الخارج والداخل معاً.
الداخل اليمني وإعادة إنتاج أزماته
وعلى الرغم من هذا الحضور الكثيف للعوامل الخارجية، فإن الديناميكيات الاجتماعية الداخلية كانت ولا تزال شريكا فاعلا في تكريس الانقسام؛ بحيث لم تكن مسؤولية الانقسام محصورة في الخارج، فالداخل اليمني أعاد إنتاج أزماته الذاتية.
فاليمن، الذي عُرف تاريخيا بتنوّعه القبلي والمذهبي والمناطقي الغني، كان يمكن أن يجعل من هذا التنوع مصدرا للقوة والثراء والفاعلية الوطنية، غير أن سوء الإدارة وتراكم الصراعات حوّلاه إلى ساحة تنافس مستمر. فقد أسهمت النزاعات على الموارد والأراضي والمناصب في ترسيخ ثقافة الولاء للقبيلة أو المنطقة قبل الولاء للوطن، فيما عجزت النخب السياسية عن بلورة مشروع وطني جامع يتجاوز الانتماءات الضيقة. وعوضا عن مواجهة إخفاقاتها بجرأة، لجأت تلك النخب إلى تبرير فشلها بإلقاء اللوم على الانقسامات القبلية والمناطقية والمذهبية، متنصّلة بذلك من مسؤوليتها في فهم البنية الاجتماعية وإدارتها. ونتيجة لهذا السلوك، أسهمت في تغذية نزعات بدائية وانفعالية داخل جمهورها، أعاقت نشوء وعي وطني متماسك.
على أن الانقسامات القبلية والمناطقية والمذهبية لم تكن أصل الصراعات في اليمن، بل كانت نتاجا لاستدعاءات سياسية واقتصادية من الأعلى إلى الأسفل. إذ كانت النخب السياسية والاجتماعية هي التي توظف تلك الانقسامات كأدوات للتعبئة والتجييش في صراعاتها على النفوذ والسلطة، لا كحقائق اجتماعية تولّد الصراع بذاتها.
شهد المجتمع اليمني، منذ نهاية القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين، تحولات عميقة تمثلت في صعود فئات اجتماعية جديدة — من الشباب، والطبقة الوسطى المتعلمة، والحركات المدنية — حملت طموحاً للتغيير والإصلاح، ووجدت نفسها في مواجهة النخب التقليدية داخل مختلف القوى السياسية، من أحزاب ونقابات، سواء في السلطة أو في المعارضة. غير أن هذه الفئات، رغم حيويتها، لم تجد إطاراً مؤسسياً يحتضنها أو يمكّنها من المشاركة الفاعلة في صنع القرار.
وحين اندلعت أحداث الربيع العربي عام 2011 في تونس ومصر، وجدت هذه القوى الجديدة في تلك اللحظة التاريخية فرصة للتعبير عن تطلعاتها، فانطلقت إلى الساحات اليمنية مطالبةً بالتغيير وبناء دولة تضمن العدالة والمشاركة والمواطنة المتساوية. وقد تجسّد جزء من ذلك الحلم في انطلاق المرحلة الانتقالية بعد تنحي الرئيس السابق وتولّي عبدربه منصور هادي الحكم، وهي مرحلة عُلِّقت عليها آمال واسعة بإنجاز الحوار الوطني الشامل بوصفه الطريق نحو عقدٍ اجتماعي جديد، يؤسس لدولة مدنية عادلة تقوم على المشاركة في السلطة والثروة، وبناء مؤسسات وطنية تستوعب الجميع وتستند إلى الإرادة الجمعية لليمنيين.
غير أن الانقلاب الذي قادته جماعة أنصار الله (الحوثيون) في عام 2014 نسف مخرجات الحوار الوطني، وبدّد الآمال التي عُقدت على الانتقال السلمي نحو دولة جديدة. فقد أطاح ذلك الانقلاب بمسار التوافق الوطني وأعاد اليمن إلى دوامة العنف والانقسام، لتجد القوى المدنية والشبابية نفسها مُهمّشة ومقصاة من المشهد السياسي. وبدلا من أن تكون هذه القوى نواة لتجديد النظام وبناء الدولة الحديثة، جرى تفكيكها واستغلال بعضها في صراعات النفوذ، فيما أُجبر آخرون على المنفى أو الانخراط في جبهات الحرب، فتحوّل الحلم بالتغيير إلى مأساة وطنية بصيغة أكثر قسوة. ومع ذلك، ظلّت بعض تيارات الشباب متمسكة بجذوة الحلم، قابضة على فكرة التغيير بوصفها إيمانا وطنيا لا يموت، حتى في وجه الخيبات المتلاحقة.