مقالات
أزمة الثقة في اليمن: من انقسام الداخل إلى استغلال الخارج (2)
الثورة وبداية التحول نحو الهوية الوطنية
مع اندلاع ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962، ودوي إعلان النظام الجمهوري، دخلت اليمن طورا جديدا من تاريخها الحديث. فقد سعت الثورة إلى استبدال الهويات الدينية والقبلية الضيقة بهوية وطنية جامعة تعيد تعريف الانتماء من الولاء للإمام أو القبيلة إلى الولاء للوطن والمواطنة. جاءت “الجمهورية” بوصفها وعدا تاريخيا بالخلاص من قرون العزلة والظلم، وبالانتقال من وضع “الرعية” إلى موقع “المواطن” الذي يشارك في صياغة مصير بلاده.
دولة على أنقاض قرون من الانغلاق
غير أن طريق بناء الدولة الحديثة لم يكن معبدا. فالحرب الأهلية التي أعقبت الثورة استنزفت موارد البلاد وأعاقت جهود التأسيس، كما أن ظروف الصراع بين الجمهوريين والملكيين جلبت تدخلات إقليمية ودولية واسعة، هدفها ضرب النظام الجمهوري الوليد. وحين وضعت الحرب أوزارها، كانت الجمهورية قد ورثت تركة ثقيلة من قرون الجمود والانغلاق، في بلد خرج لتوه من قبو العصور الوسطى إلى قلب القرن العشرين، وهو يفتقر إلى البنية التحتية والمؤسسات الإدارية والتعليمية، وتثقل كاهله تضاريس اجتماعية وسياسية معقدة، زادها الفقر والعزلة وعورة.
دعم شعبي بلا مؤسسات
ورغم كل هذه التحديات، ظل المجتمع في جوهره مؤيدا للثورة ومبادئ الجمهورية، مدفوعا بالأمل في التغيير والخروج من حقبة الاستبداد والتخلف. لقد حاولت التدخلات الأجنبية التشكيك في هذا التأييد الشعبي وضرب النظام الوليد، لكن الواقع أثبت أن الحاضنة الاجتماعية كانت حقيقية، حتى وإن لم تترجم فورا إلى مؤسسات قوية أو عقد اجتماعي مستقر. وهكذا، فإن هشاشة الدولة لم تكن نتيجة غياب الدعم الشعبي، بل نتيجة تعقيدات تاريخية وبنى منهكة، وقيادات وقوى ظلت بعد ذلك تتصارع على النفوذ حالت دون تحويل هذا التأييد إلى مشروع وطني متماسك.
جمهورية الطموح والأعباء
وهكذا نشأت جمهورية محملة بالطموح لكنها مثقلة بالأعباء. فظهر نظام سياسي تتعايش فيه مؤسسات الدولة الحديثة مع الأعراف والولاءات التقليدية. ومع ذلك، استطاعت الجمهورية في شمال الوطن منذ السبعينيات وحتى أواخر الثمانينيات أن تنجز الكثير في مجالات التنمية والخدمات العامة، وأن تزرع في وجدان اليمنيين شعورا جديدا بالمواطنة والانتماء للدولة. فبعد حصار السبعين وانتهاء الحرب الأهلية وهزيمة الملكيين، تمكنت الجمهورية من تثبيت استقلال القرار الوطني وموازنة علاقاتها الدولية، ثم بدأت مرحلة تنموية واعدة على ما سبق تأسيسه رغم محدودية الموارد، ما ولد شعورا عاما بالرضا الاجتماعي، إذ بدا ما تحقق آنذاك إنجازا كبيرا قياسا بظروف البلاد الصعبة.
غير أن هذا الرضا ظل مشروطا بالظروف التاريخية، إذ لم يتحول إلى عقد اجتماعي راسخ يؤسس لثقة مستدامة بين المجتمع والدولة. لذلك، بقيت الثقة تتأرجح وتتغير حسب قوة السلطة ووجود مؤسسات قوية.
هزيمة الاستعمار وبناء الدولة
وفي جنوب الوطن، خاض اليمنيون معركة أخرى لا تقل شأنا في بناء الدولة الحديثة. فبعد نيل الاستقلال في 30 نوفمبر 1967 بهزيمة بريطانيا وإخراجها من جنوب الوطن، تمكن النظام السياسي هناك بجهود جسيمة وتضحيات كبيرة من توحيد السلطنات والمشيخات في إطار دولة مركزية قوية تمتلك جهازا إداريا منضبطا ومؤسسات حديثة. وقد شهد الجنوب إنجازات ملموسة في مجالات التعليم والصحة والبنية الاجتماعية، غير أن دورات الصراع السياسي الداخلي التي عصفت بالنظام بين حين وآخر كانت تعيد البلاد إلى دائرة الانقسام وتعيق استقرار مؤسسات الدولة وتطورها.
حين تقوض الصراعات منجز الدولة
ظل التنازع على السلطة في الجنوب يحد من إمكان بناء الثقة السياسية، إذ كانت الانقسامات الأيديولوجية تستدعى كلما حاولت الدولة ترسيخ وحدتها المؤسسية وتضرب كلما تم إنجازه.
ومع ذلك، فقد مثل الشطران - الشمالي والجنوبي - تجربتين متوازيتين في بناء الدولة الحديثة، واجه كل منهما تحدياته الخاصة، لكن كليهما حمل طموح اليمنيين إلى تجاوز مرحلتي الإمامة والاستعمار نحو الدولة الوطنية الحديثة.
الوحدة كضرورة تاريخية لا خيار سياسي
أدركت النخب في الشطرين مبكرا أن استكمال مشروع الدولة لا يمكن أن يتحقق في ظل التجزئة. وفي هذا السياق يقول الدكتور أحمد الصياد: “وقد أصبح واضحا أن الشطر الجنوبي لا يمكنه إنجاز مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية بأفقها الاشتراكي في ظل واقع التجزئة، بل ربما يصعب إقامة دولة اشتراكية في شطر من الوطن دون الآخر. كما أن الشطر الشمالي بدوره لا يمكنه مواصلة تطوره المستقل وحماية سيادته والمحافظة على مكتسبات ثورة أيلول (سبتمبر) بدون إنجاز عملية الوحدة… وكل ذلك يدفع بقضية الوحدة لتكون في مقدمة المهام وأولى المراحل وصمام الأمان للمحافظة على أهداف ثورتي أيلول (سبتمبر) وتشرين (أكتوبر) المجيدتين.”
شكلت هذه الرؤية المبكرة محاولة لتجاوز حالة انعدام الثقة بين الشطرين من خلال مشروع الوحدة، لكن هذا المشروع بعد ذلك جاء مثقلا بتناقضات القوى التي تولت قيادته، مما جعله يحمل في داخله عوامل وأسباب الأزمة المستقبلية.
الوحدة اليمنية: الوعد والتحدي
جاءت الوحدة اليمنية في عام 1990 لتستكمل مسار الثورة اليمنية وتحقق شرط قيام الدولة الوطنية الحديثة. غير أن ما رافق قيام الجمهورية اليمنية الموحدة من صراعات سياسية — بلغت ذروتها في حرب 1994 — سرعان ما أدخل الدولة في امتحان عسير لمفهوم الجمهورية والوحدة معا، وكشف حدود مشروعها الوطني في قدرته على استيعاب التنوع وتوزيع السلطة والموارد بعدالة.
كانت الوحدة اليمنية في جوهرها وعدا تاريخيا باستكمال مشروع الثورة في صيغة جديدة، غير أن تعقد المشهد السياسي وتنامي مركزية السلطة وتآكل مؤسساتها قادا إلى أزمة ثقة عميقة في الدولة والجمهورية والوحدة معا.
هيمنة المركز وتآكل الثقة
منذ قيام الجمهورية اليمنية الموحدة، تكرس نموذج الدولة المركزية على نحو جعل صنعاء مركز الاحتكار السياسي والإداري للقرار الوطني. تمحورت السلطة حول النخبة الحاكمة في العاصمة، بينما منحت الأطراف - شمالا وجنوبا وشرقا - هوامش محدودة من المشاركة والتنمية، تستخدم غالبا كوسائل للضبط والولاء لا كشراكة حقيقية في صناعة القرار. وهكذا تشكلت علاقة غير متكافئة بين المركز والأطراف، تدار فيها السلطة والموارد بمنطق السيطرة لا بمنطق الشراكة الوطنية.
وبدل أن يتحول الجهاز الإداري إلى أداة للتنمية والإدارة الرشيدة، غدا وسيلة لتوزيع الولاءات وإدارة المصالح الضيقة، تكرس به سلطة المركز على حساب بقية المناطق. ومع مرور الوقت، تآكلت جاذبية الدولة في الوعي العام بعدما فقدت قدرتها على تجسيد قيم العدالة والمواطنة المتكافئة، فبدت في نظر المجتمع كيانا منفصلا عن الناس، لا يمثلهم ولا يرعى مصالحهم. ومع احتكار نخبة محدودة للسلطة والثروة باسم الجمهورية، تحولت الدولة من رمز للوحدة والتحرر إلى أداة للإقصاء والتفاوت، وهو ما عمق مشاعر السخط والنقمة تجاهها في مختلف المناطق، ولا سيما في الجنوب، حيث تزايد الإحساس بالغبن من تهميش الشراكة الوطنية وتقويض روح الوحدة التي قامت على التكافؤ.
لقد تحولت مركزية الدولة من وسيلة للتوحيد إلى مصدر للانقسام، إذ ولدت شعورا بالغبن لدى الأطراف، وأعادت إنتاج أزمة الثقة التي حاولت الوحدة تجاوزها.
إدارة الولاءات بدل بناء الدولة
إن إخفاق الدولة المركزية في اليمن لم يكن مجرد خلل إداري أو ضعف مؤسسي، بل انعكاس لعجز بنيوي في الجهاز البيروقراطي عن إنتاج ولاء وطني حقيقي للدولة ولمشروعها الجمهوري. فقد افتقرت المؤسسات إلى الكفاءة والحياد، وتحولت إلى امتداد للسلطة السياسية لا حارسا للمصلحة العامة، ما أفقدها ثقة المجتمع وقدرتها على بناء رابط وطني جامع.
لقد حاولت الدولة إدارة التعدد اليمني بمقاربة إدارية ضيقة تركز على الولاء للمركز أكثر من بناء الانتماء للمشروع الوطني. فتعاملت مع التنوع الاجتماعي والثقافي بوصفه تهديدا ينبغي ضبطه لا رافعة يمكن توظيفها لبناء هوية جامعة. وبدل أن تحول هذا التعدد إلى مصدر ثراء وتماسك وطني، أسهم ضعف مؤسساتها وغياب الرؤية التكاملية في تحويله إلى بؤر للتنازع ومصدر دائم لفقدان الثقة بالدولة.
وهكذا، فغياب المشروع الوطني الجامع، وانحياز المؤسسات للسلطة بدلا من المصلحة العامة، حولا الدولة إلى كيان منفصل عن المجتمع، عاجز عن بناء الثقة أو إنتاج الانتماء. لقد أهدرت فرصة تحويل التعدد إلى قوة وطنية، وبقيت الدولة أسيرة مقاربات ضيقة عمقت الانقسامات بدل أن تعالجها، مما جعلها هشة أمام الأزمات، وعاجزة عن ترسيخ شرعية مستدامة.