مقالات
الدين والفن من منظور كلي
العلاقة بين الدين والفن متداخلة ومتشعبة إلى الحد الذي تبدو فيه ملتبسة وغير واضحة أحياناً، و في تجربتنا العربية هناك من يرى أنهما متباعدان والعلاقة بينهما في أضيق نطاق، بينما يرى فريق آخر عكس ذلك تماماً، وكما توجد في تجربتنا مواقف دينية تحد من الإبداع والفنون، هناك ظواهر أخرى تشير إلى تشجيعها، بل إن كثيرًا من الخطوات المهمة والتطورات في تجربتنا الفنية كان لها روادها من أصحاب الخلفيات الدينية والمشائخ كما هو الحال في الموسيقى العربية القديمة والحديثة مثلاً.
ولكن ماذا يقول التفكير الكلي أو الفلسفة عن علاقة الفن بالدين؟.
قد يكون من الصعب أن نختصر هذه العلاقة هنا باستقراء كل شيء، ولكن من وجهة نظري أن أهم ما هو معتبر عند كبار الفلاسفة خاصة من المدرسة العقلية المثالية والعقلانية النقدية، يشير إلى أن الدين والفن ينتميان إلى مجال مشترك واحد، و يمكننا هنا تسميته بالمجال الإنساني أي المجال الذي يعبر فيه الإنسان عن نفسه بشكل قد لا يتعلق بالضرورة باحتياجاته المتعلقة بالبقاء البيولوجي، أو حتى يعبر عنها بشكل متجاوز لها نسبياً بطرق تبدو غريبة ومجنونة و لا تتمتع بالكفاءة أو الكفاية المادية، حسب علي عزت بيجوفيتش والمسيري مثل، و من أهم الأمثلة على ذلك هو تصنيف هيجل الشهير للفن والدين والفلسفة، والذي لم أتعجب من وضعه لها ضمن إطار مبحث واحد في فلسفته ومؤلفاته، فالدين عنده هو التعبير المجازي عن المطلق، بينما الفن هو التعبير الحسي عن المطلق، بل و يرى أن كلاً من الفن والدين يؤديان للفلسفة (التعبير العقلي عن المطلق) والعكس، في إشارة إلى حتمية التداخل أو مجال دورهما المشترك، ومثله بالطبع وإلى حد كبير المثالية الألمانية ككل.
كذلك الذين يركزون على التعارض بين الدين والفن مثل نيتشه يدركون هذه الطبيعة المشتركة بينهما، فبالرغم من القول المشهور لنيتشه الذي فيه إشارة إلى أن الفن يزدهر في ظل تراجع الدين، إلا أنه يرى فيه ذلك النشاط الإنساني أو الميتافيزيقي الوحيد الذي يستحق الاهتمام!, أي أنه يعترف بطبيعة أو جوهر الظاهرة الفنية الإنسانية رغم ماديته الصارخة، إلا أن الفن هنا ظاهرة مجنونة ومقبولة و مهمة عنده إذا صح تعبيرنا هنا.
ومما سبق يبدو لي أن العلاقة في أصلها لم تكن تعارضاً أبداً حتى عند من يظنون ذلك، بقدر ما يمكن أن نصفها (بالتنافس) على تمثيل جانب معين من الإنسان، فبالرغم من أن الظاهرتين مختلفتين من عدة نواحي بدون شك، إلا أنهما يشتركان في تمثيل الظاهرة الإنسانية في جانبها المعقد المتعالي نسبياً على المادة، لذا ينشأ أحيانا بينهما ذلك التنافس الذي يزيد من حدته بعض رواد الفكر في المجالين بغرض احتكار الإنسان، أو احتكار إشباع حاجته الغريبة تلك، التي نسميها نحن بالجانب الروحي، في حين أن النظرة الأوسع والأكثر إنسانية لا بد وأن تركز على المصالحة وعلى المشترك بينهما، وأن تنويع النشاط الإنساني أمر طبيعي، فهو يمكن أن يغذي البعد الروحي فيه بالدين والفن والتأمل ويمكن أن تستوعب المجالات المختلفة بعضها البعض.
فكما يوجد هناك من يرى أن الفن ذلك النشاط الذي يهرب فيه الإنسان من قسوة الحياة و ماديتها، هناك من يرى أنه ملجأ لمواجهة عدميتها، أو أن نعيش عدميتها مع الفن بشكل جمالي وشجاع وحزين في الوقت ذاته إن صح التعبير، بينما التصور الديني كما أفهمه يحتم علينا ضرورة أن يرى الإنسان في الفن ظاهرة أساسية ونشاطًا جوهريًا لا يمكن لنا إلا أن نمارسة وندافع عنه كتعبير عن حقيقتنا, وليس مجرد ملجأ أو هروب مؤقت ثم نعود لماديتنا، أو نقوم بقفزة ميتافيزيقية لتخطي العدمية بالفن ليصبح مصدر المعنى، بشكل يكاد يشبه قفزة كيركيجارد للخلاص من العدم بالإيمان ..