مقالات
الزمن الأغبر والزمن الأسود!
في الزمن الأغبر كُنا نحلم بدولة ديمقراطية، رغم كل التزوير الذي شاب الانتخابات بأنواعها ومسمياتها، ونحلم بمنجزات عملاقة وطاقة نووية وقطارات نووية، حسب وعودهم الكثيرة، التي كانت تنطلي على قطيع السبعين، وهامش أوسع من هامش الحريات، وصحف وإعلام أكثر جرأة ونقدا للممارسات الخاطئة بغرض إصلاحها.
حلمنا بمستشفيات وجامعات عملاقة ومدارس حكومية، وموانئ تستغل هذي المساحات الشاسعة من الشواطئ اليمنية وأساتذة جامعيين مؤهلين، ومعلمين على أعلى مستوى، ونحلم بانفتاح حقيقي على العالم، وثورة ضد الفساد والتوريث، ونعبّر عن أرائنا بحُرية مطلقة دون خوف أو قيود أو محاكمات، وبكل إرادة ومسوؤلية..
وكانت هناك نيابات صحافة في حدود المسموح والمعقول، كان ذاك أحلاما وردية لعمل حل لكل شيء مائل في البلاد، فكانت ثورة 2011م، لم يكن اليمنيون في تلك اللحظة التاريخية على أخطاء بل كانوا في الطريق الصحيح، ولكن بكل أسف كانت المؤامرات الإقليمية والدولية فوق قدرة هذا الشعب الصابر الذي ضحى بأنبل الناس فيه بتلك الثورة النبيلة، وكان ما كان.
تحميل تلك الثورة النبيلة كل ما حدث حتى اليوم هو خطأ فادح كبير، وخارج حسابات الثورات الكثيرة، التي حدثت في جهات كثيرة من العالم، وحصل لها ما حصل لثورة 2011م، وأكثر من التفاف المتآمرين، ودفع المليارات من أجل إسقاطها وإفشالها، وما حصل هو أشبه بحصار السبعين يوماً، غير أنه تم تجاوز المؤامرات على ثورة 26 سبتمبر؛ بسبب التفاف الشعب كله حول الثورة، وانقسامهم حول ثورة فبراير، إن المليارات دفعت لإفشال ثورة فبراير.
التنكر لتلك الكواكب من الشهداء يعتبر جريمة بحد ذاتها، وخاصة أولئك الذين سقطوا يوم "جمعة الكرامة".
نحن اليوم نحلم بنصف دولة، أو ربع دولة، بل وأصبحنا لا نعلم هل نحن في حلم أم في علم، لا نعرف رأس الدولة من الذنب، ولا الذنب من رأس الدولة، التي مجرد سلطة أمر واقع بغيض.
تحول كل شيء إلى بطش وجبروت، المشرف دولة، وعاقل الحارة دولة، والقاضي في المحكمة دولة، ومدير الشرطة دولة، وأي طقم يركبه عدد من المسلحين دولة قائمة بذاتها، وبيدها السلطات الثلاث.
الناس في هذه المساحة الجغرافية لا يعرفون من يحكمهم بالضبط، يتم إصدار أمر بالإفراح عن أبي زيد الكميم من أعلى سلطة -حسب التلفزيون- ولا يتم الإفراج عنه، لا أحد يعلم من بيده سلطة الأمر والنهي، سلطة خفية.
الوطن كله محكوم بقبضة غير منظورة، وسلطة خفية أشبه ما تكون بطاقية الإخفاء، أو مسلسل الرجل الخفي، الذي لا يعرف حقيقته أحد، فلا هو الرجل رقم صفر ولا الرجل رقم واحد، فالرجل رقم واحد مشغول بالخطابات، ومدمن للميكرفونات والشاشات، والإم بي ثري، والتنظير الغريب وغير المفهوم، منذ بدأنا نسمع خطاباته أو هراءه وهو يعظ، ولم تفلت أو يلتفت لسانه يوماً أو لحظة إلى معاناة الناس، الذين يحكمهم بالحديد والنار، والجوع والحصار، والحرب ومرادعة الدول الكبرى، التي تعاقبه بكل حنان. معاناة 40 مليون يمني، كما أصبح العدد لديهم، يتضورون جوعاً وفقراً وجهلاً ومرضاً، وعلاجهم في مذهبهم هو "الشعارات الزائفة".
أربعون مليوناً أصبحوا هدفاً للتحشيد والتعبئة والنفخ، وليس للتعليم والتطبيب والتطوير؛ ليكونوا وقود المعارك القادمة، التي لن تنتهي، ولحرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل.
مع العلم أن هذا المخزون يعجبك، فهو يتلون كما تجري به الرياح، أو كما يشتهي الوزَّان، ومخلص مع من غلب بأقوى قوة، حتى إذا أشرف على السقوط تركه هناك لمصيره.
أصبح ميدان السبعين ميزاناً للقطيع، ومقياساً دقيقاً قد يختفي في أي لحظة؛ بانتظار قوة جديدة صاعدة، وسلطة أمر واقع منتصرة تلقف ما حولها في كل حال، حتى لو كان نقيضاً ومغايراً لمن سبقه.
الجميل والغريب أن هذا القطيع الكبير من هذا الشعب المفتون هم أنفسهم الذين كانوا عفافيش حتى العظم، واليوم ها هم متحوثون حتى "المشاش"، وقد نراهم قريباً بكل تأكيد وقد تحولوا إلى كائنات لزجة يلتصقون بكل قادم، ويصرخون مع كل ناعب.
هذا القطيع الكبير غير مقتنعين بسوى ملء بطونهم، التي تشبه براميل النفايات، أو خدودهم بكل أنواع القات والبردقان، والتحليق بعيداً عن الواقع، ومعايشة الوهم، ومقايضته بالحقيقة المريرة، وهولاء هم أكبر الضحايا، وحملة "رايات الظلم".