مقالات
الشاعر الذي حاجج عمر بن الخطاب!
بعض الشعراء الكبار أغفلتهم التراجم والسِّيًر، ولولا بعض الكُتب التي أنصفت تاريخهم ومكانتهم الشِّعرية لكانوا نسيًا منسيًا، ومن هولاء الشاعر سُحيم بن وئيل عبد بني الحسحاس، الذي لفج وجهه وهو وليد ضوء الخارج، إذ نزل مهده قبل ارتفاع الرسول إلى الرفيق الأعلى بتسع سنوات، وكان يتمنَى لو أنه عرف فتح مكة؛ على ما سمع من غلظتهم وقوّتهم في الحرب، كأنَّما خُلقوا لها.
ذات يوم، استشار الشاعر سُحيم بن وئيل عبد بني الحسحاس عبدالله بن مسعود عن حديث سمعه من رسول الله: فقال دع هذا لفقهك، فإن الرّواة الرّواة لا يقبلون روايات من سمع في سِنك، وما يزال أصحاب الفتوى مختلفين في رواية عبدالله بن عباس؛ لأنه كان حدَثًا، أي في آخر أيام الرسول.
فقال سحيم: إذا لم أصلح راوية فلا أصلح إلا نعارًا بالشِّعر الذي يندي الجباه، ويخدش الصون.
وكان أول قصيدة أنشدها في عمر بن الخطَّاب في يائيَّته الشهيرة، التي جمع فيها تسعة من أغراض الشعر، وهذا مطلعها:
عميرة ودِّع إنْ تجهَّزتَ غازيا كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
فقال عمر: "لو قدَّمت الإسلام لكان ذلك أحجى".
فردَّ سُحيم بن وئيل عبد بني الحسحاس: "إن تذكيري أوصل إلى القلوب وأحسن مدخلا؛ لأن كل من ارتعشت لحيته سيتذكر الموت فيتوب عن ذنب أو يرجع عن باطل؛ لأن وعظ المرء بما فيه، أو بما يمكن أن يكون فيه، أوقع في النفوس".
فتعجب الصحابة من ذلك العبد الأسود المتَّسخ الثياب، كيف تصدر عنه المعارف النفسية وتجارب الناس مع الناس، من ذا خطر له هذا، قبل أن نسمعها من ذلك القن...؟
وكان سحيم يرى نفسه غير جدير بامرأة، وإذا كان جديرًا بها كثمرة من ثمار الحب فمن أين له الحب الذي يسُد حاجة بيت. وكان غير ميول إلى الحرب؛ لأن الذين كانوا في سِنه يخرجون مع الفاتحين ويعودون مظفرين غانمين.
فقال: "لا أدعي أنني أثبت أمام صهيل الخيل، أو أني رابط الجأش أمام صليل السيوف، إنَّ رزقاً يأتي من مخاوف الموت لا يهنأ به صاحبه".
ولهذا مال إلى رعي الأغنام، فرعى وحده أغنام أهل قرية كاملة، وكان عددها ثلاثة آلاف رأس.
وحين يعود من الرعي يفصل أغنام هذا عن أغنام ذاك، وكأن بينه وبين الأغنام لغة مشتركة، فتفهم الأغنام عنه كما كان يفهم عنها.
قال محمد بن سائب الكلبي: "كان الشاعر سحيم عليمًا بخصائص الأصوات وسبب تصويتها، كان إذا سمع الشاة تثغو أسرع إليها، ويسألون كيف عرفت أنها كانت بين حجرين جثم طرف أحدهما على طرف ظلفها؟
فيقول: عرفتُ هذا من صوتها؛ لأنه كان يحمل طلب الإغاثة، وكان إذا سمع أكثر من شاة تثغو في وقت واحد عرف أن الأغنام في حالة عطش!!
وسألوه كيف تعرف هذا؟
قال: لأنَّ صوت العطشان أكثر التواء، ومخنوق البحة، وحين تدنو الغنم من القرية يسمع لها ثغاء فيسرع إلى لمها من كل الجوانب لترويحها إلى زرائبها، فيقولون: كيف عرفت أنهن عرفن ميعاد رجوعهن؟
فيقول: سمعتُ في أصواتهن رنَّات الفرح.
وكان يخبر عن كل حيوان بصوت ماذا يشكو، أو ماذا يشتهي، أو أنه يستنجد، فإن لكل حالة صوتاً يدل عليها، ولم يقنع إلا عندما لاقاه محمد بن قاسم الثقفي، وسمع صوت هر يصرخ من باب غرفة، ثم يولي مدبراً، قال محمد ماذا تبتغي هذه الهرة؟
قال: إنها ترى في البيت شيئًا لا بُد أن ينقض عليها؟
قال: ولماذا كان لصوتها تلك الرعشة؟
قال تلك علامة الخوف، ألا تلاحظ أنها حين صوتت كادت تنطق حروفاً صامتة في لسانها!!".
وكان سُحيم على دمامته واتساخ ثيابه على حظوة عند الحسان، حتى أهاج الاستغراب، فتميَّز شعره بثلاث خصال:
الأولى: المكاشفة بتجاربه، الثانية: تسجيل عوائد القوم من خلال معارف النساء، الثالثة: كان يتساءل عن كل مكان ينزل فيه لكي يطابق وصفه صورة الموصوف؛ كما في قوله:
وهنَّ العبيريات يوم لقيننا ظبآء جنت أعناقنا للمكانس
إذا شق بُرد شقَّ بالبرد برقع دواليك حتى كلنا غير لابس
قال الأصمعي: "سجل الشاعر سُحيم عادات العُشَّاق في بني صبير، فإذا التقى العشاق بالعاشقات شقَّ كلٌّ عاشق جيب قميصه من الردن حتى الحزام، ويكون الرد على هذا شق البُرقع حتى الشفة العليا من الفم، ثم يتسع العاشق في شق قميصه فتشق من ثيابها، حتى يلوحوا بلا ثياب، لله دره؛ ما أرصده بعوائد القوم".
وفي يائيته الشهيرة سجَّل هذه التجربة:
وبتنا ورأسانا على علجانه وريحٌ تُهادينا الرمال تهاديا
توسدني كفَّاً وتثني بمعصم عليَّ وتحوي رجلها من ورائيا
فارتأت القبيلة أن تشده إلى شجرة بعد أن يرتوي من الكأس، وإذا نفذ ما عنده زادوه، ومن هفا إليها عند مرورها أوهفت إليه فهي التي قصدها!!
وفي طليعة الصباح، خرج القوم يستطلعون، فوجدوا نساء القبيلة كلها محيطات به، قطعن الحبل الذي شده إلى الجذع، ثم تحلقن ينفضن رأسه وثيابه من الغبار، وثلاث منهن رائحة غادية إليه بالمأكل، حتى تجمع أمامه عشرون رغيفاً وعشرون قطعة من الزبد وعنقود من التمر المجفف، وكأنهن لا يردن أن يفارقنه حتى يأمنّ عليه من القبيلة. فقال رئيس القبيلة: أهكذا تفعلن، تقطعن وثاقه وتجلبن إليه من الطعام ما يكفي وفداً، وتُردن أن ينجو من أي عقاب. فتصدَّتْ له إحداهن وقالت: اذهبوا عائدين إلى بيوتكم، فما أنتم ممن يكرم الضيف، ويعزُ شاعر، كيف لو سمعت بكم قبائل العرب أنكم تجمعتم على عقاب عبد أسود، إنَّ هذا سيظل خزياً عليكم!!