مقالات
الغناء بلهجة النفط!!
يسقط الفنان بالضربة القاضية إذا فقد إحساسه بذاته، وتقبل النسخة التي يتوقعها الآخرون منه، والآخرون هنا أمراء النفط وزمنهم الملتمع بكل ما هو بلاستيكي وزائف.
أما إذا كان هذا الاستبدال للهوية متضمناً للمعنى والانتماء، الذي نشأ فيه الفنان وشكّل شخصيته، عندها يكون الانفصام تاماً ولا رجعة عنه.
انفصال بين "هوية شخصية" خُدِشَتً وتم قمعها، وهوية جديدة يرتديها الفنان قناعاً في مسرح مزدحم بالمزيفين. استبدال الهوية هنا "ذاتي"، لا هوية وطنية فحسب.
الكتابات والآراء المتباينة، التي أثارها كلام الفنان الشاب فؤاد عبدالواحد، مهمة جدا وليست اهتماما بما لا يستحق الاهتمام؛ كما يكتب بعضهم متعالياً، ولابساً جلباب الحكيم وهو يلقي بجملة بالية من بعيد: انصرفوا عن التفاهات وتحدثوا عن كذا وكذا!!
لا يوجد قضايا كبيرة وقضايا صغيرة في مجال الكتابة. بإمكان مقالة، نُشرت في مجلة الكرمل عن نزال ملاكمة قديم بين فريزر ومحمد علي كلاي، أن تمنح قارئها معرفة وفكر وفلسفة ونظرة واسعة للحياة وخبراتها، لا يجدها في كتاب عن الحرب العالمية الثانية.
التفاصيل الهامشية، مثل إفصاحات فؤاد عبدالواحد، والآراء حولها من كُتاب ومثقفين وشعراء وأدباء ومفسبكين، تعرّفنا بجيل من اليمنيين؛ جيل الشباب وآرائهم المتباينة ونظرتهم لأنفسهم، وما يريدونه من الحياة ومن مجتمعهم.
تباينات اليمني والخليجي، وقوع اليمني بين نارين؛ نار الصراعات الدامية في الأرض الخراب في وطنه، ونار النموذج الاستهلاكي لمدن الملح - كما سماها الروائي الفذ عبدالرحمن منيف - في بلدان المولات من حولهم.
فؤاد عبدالواحد هو الزيف الواقف تحت الأضواء الخليجية. زيف يُراد له أن يتوج خراباً عميماً يضرب اليمن في العمق. المستفز هنا هو الخواء، وليس سواه.
لا أتحدث هنا عن هجرة، ولا عن إكتساب يمني جنسية بلد آخر. تاريخ اليمن يكاد أن يكون تاريخاً للرحيل، تاريخاً لغربة اليمني وهو يملأ الجهات بأفواج المهاجرين بحثاً عن فرصة حياة، عن أفق، أو متماهياً في حروب، لعل أهمها كانت التوسعات الكبرى للحِميريين وملكهم أسعد الكامل، والفتوحات الإسلامية التي كان اليمنيون عمودها الأهم.
هاجر اليمنيون مثل غيرهم، وفي القرن العشرين ذهبوا إلى جهات الأرض الأربع، عاشوا واشتغلوا وتجنسوا، كانوا من أوائل العمال في ليفربول وشركات فورد، ولكنهم لم يجدوا أنفسهم في أي مكان في الأرض أمام حالة مشابهة لخواء الخليج المتخم بالنفط. خليج تسكنه "عُقدة اليمن" حتى وقد أثخنتها الحروب والصراعات الدامية وجحود بنيها ومؤامرات جيرانها.
لم يقبل الخليج اليمنيين في كل تاريخه النفطي المعاصر. استقبلت السعودية اليمنيين كعمال، ولكنها لم تفتح بابها مطلقاً اإندماج اليمني أو منحه الجنسية. يقيم اليمني في مُدن الخليج النفطي "مدن الملح" نصف قرن مشاركاً في عمرانها، ويخرج منها منهوباً من "الكفيل".
يقيم اليمني شهرا واحداً في مصر، أو بلاد الشام والمغرب العربي، ويخرج بثلاثين صديقاً، ويقيم في مدن الملح ثلاثين عاماً، ويغادرها دون أن يكون لديه صديق واحد.
ما الذي تغير حتى يظهر علينا فنان يمني شاب ليرمي جحوده في وجه ناسه ومن أحبوه، قائلاً إنه من أصل يمني!
وكأن أبوه وجده استوطنوا البحرين، وولد وترعرع فيها، متذكراً في بزوغه كفنان أصله القديم!
تاريخ البشرية هو تاريخ الانتقالات. يهاجر البشر ويكتسبون جنسيات أخرى في بلاد المهجر، لكنهم لا ينفصلون عن "حقيقتهم".
يحدث أن مهاجرين يجوبون العالم، ويرتقون في سُلم الحياة بمؤهلات عالية ومعارف، ويبدعون في فنون وعلوم وعمران، ويكتسبون ثلاث أو أربع جنسيات فوق جنسيتهم الأصلية، ولكنهم لا يُزيفون ذواتهم، ويجحدون موطنهم الأول، ولا يجدون أن ذلك يمنعهم من احترام البلدان التي عملوا فيها وتوطنوا وتجنسوا بجنسياتها.. هذا هو الأصل، وما عداه جحود وتزييف للذات.
•••
مدن الملح الخليجية لم تقبل أحداً. جاءها اليمنيون والشوام والمصريون، ولم يحدث يوماً أنهم شعروا أنهم في "موطنهم"، ولا تملكهم شعور أنهم يمكن أن يصبحوا يوماً جزءا منها وينالوا "جنسيتها".
يعاني العربي مهاجراً في مدن الملح، حتى عندما يحقق مبتغاه المادي - السبب الوحيد الذي يصبرهُ على احتمال العيش في خليج مالح وجاف واستهلاكي، خالٍ من العلاقات الإنسانية.
أن تكون خليجيا، فإن أول ما يخطر في الذهن أنك شخصية مغرورة وسطحية ومهتمة بالأشياء المادية في الحياة.
طوني صغبيني -كاتب ومؤلف لبناني- قضى 5 سنوات يعمل في وظيفة عملية في شركة بمدينة دُبي، لا علاقة لها بكونه كاتباً؛ كتب يقول:
"سنواتي الخمس في هذا المكان كانت صراعاً مريراً مع كل شيء من حولي؛ صراع وجودي حتى أحاول فيه أن أبقى حقيقياً في مدينة مليئة بالأقنعة".
يضيف صغبيني، في مقالة طويلة بعنوان "صراعي مع العيش في إحدى مدن الملح":
"المجيء إلى مدينة الزجاج والرمال، والعمل محاطاً بأناس مهووسين بالمال، كان له ثمن غالٍ جداً على روحي.
الأصدقاء والمعارف، الذين خرجوا من هذا المكان، خرجوا بضرر نفسي وصحّي ما؛ كأن المدينة تقضم جزءاً من روحهم ثمناً للنعمة المادية التي تمنحها لهم".
تجنيس فنان أو شخصية ما، هو حالة نادرة واستثنائية في مدن الملح النفطية.
يتجنس اليمني في أوروبا وأمريكا، ويكتسب المواطنة والحرية في بلد محكوم بالقانون والمؤسسات، ويتجنس فنان يمني في مدينة الملح؛ لأنه قابِل للتسويق في خليجٍ منتشٍ بخراب الشام والعراق واليمن، ويتملكه شعور بنجاح نموذج ممالك المولات البلاستيكية في زمن تعاني فيه مصر من أزمتها، وتغرق اليمن في صراعات دامية، كان لأنظمة الخليج نصيب الأسد فيها.
•••
الانتماء لليمن ليس انتماء لنظام سياسي أو جماعات مهيمنة سياسية أو مجتمعية، ولا هو انتماء لوضع معين تمر به، جيداً كان أو سيئاً.
الانتماء لبلد هو انتماء لهوائها وترابها، جبالها وسهولها، لغتها ولهجتها ومفرداتها ونغمة روحها، انتماء لذاتك وطفولتك والموجة التي ضُبِطت روحك عليها.
خلطة متغلغلة في روح المرء وكيانه. وهو انتماء لا ينفي الانتماء المواطني الضروري المُحَدِد للعلاقات الموضوعية بين مواطن ودولة ومنظومة محتمعية. فقدان الانتماء الموضوعي "دولة ومواطنين" ينزع البلد من ملكية ناسه ومواطنيه، لكنه لا ينزع انتماءهم العميق له، الانتماء الذي يحفزهم لتغيير وجهته وواقعه.
تمر اليمن في حرب وانقسامات وصراعات دامية، أفقدت كثيرا من المثقفين والكُتاب والأدباء توازنهم، وأوجدت على هوامشها نماذج من شباب ناقم على كل شيء، ويستلذ بالارتكاس نحو إدانة الذات، تجريم اليمن دون ان يدرك أن خراب بلد ما هو إدانة لنخبه الفاعلة، وليس للبلد كتاريخ، ومكان لناسه وساكنيه.
بالمقابل، ظهر في زمن الحرب كُتاب شباب يوقظون الأمل في الناس، بما تحتويه كتاباتهم من نباهة المثقف وقدراته المعرفية، وهي نباهة وثقافة تتجاوز الشرط العام المحكومين به.
مبارك الباشا واحد من هؤلاء، وأكثرهم رصانة وتحرراً من غواية الظهور والإبهار السطحي. كاتب شاب ومتفرد، في مقالة له قبل سنوات يستقصي فيها دور المثقف، كتب يقول:
"الحرب تثير غُباراً سرعان ما يستحيل إلى ستارةٍ رماديّةٍ كثيفةٍ وهائلةٍ تجعل الأغلب بالكاد يتلمّس طريقه فيها تلمّساً. والمثقف، كغيره من المحتربين، لا يغدو بعيداً عن خطر الانحراف إلا بقدر ما لديه من بصيرةٍ تتعدّى إفصاحات البصر".
يضيف: "إن الأوطان، مهما واجهت من تحديات، لا يمكن في الأخير إلّا أن تصير إلى أهلها. فموازين القوّة تتغيّر، بينما ارتباط الشعوب بهويّتها وترابها يكاد يكون ثابتاً. إنّ المثقف يعرف أنّ القوّة كأس دوّارة، لا تستقرّ في كفٍّ إلى الأبد، وأن واجبه الأخلاقيّ، حين يخضع شعبه لمحاولة استئصالٍ، أن يظلّ حارساً لانتماء هذا الشّعب لترابه وأدبيّاته وهويّته، وأن يُذكي الرّوح النضاليّة لشعبه بما يكفي ليتغلّب بحماسته، حماسة الفعل المقاوم، على فارق الإمكانات المعادية".
وتابع: "والمثقّف لا يحتقر شعبه، لا يظلّ يحصي له مساوئه في الفترة التي يحتاج تعداد مزاياه وإثارة كبريائه ودفعه للاستبسال. وإنّ هذه الروح هي ما يعوزها الكثير من مثقفينا، والحقّ أن أمثال هذه النماذج أكثر من أن تُحصى، وهي تؤكّد القول بأن الحرب لا تمضي إلى مجتمعٍ إلا عبر هشاشة نُخَبِه".
هناك الكثير من المثقفين والأدباء والفنانين يؤمنون بوطنهم اليمن، بينما هي في ظُلمات الصراعات العمياء، بل إن هذا هو الوقت المناسب لإظهار الانتماء والتأكيد عليه، لا وقت التبرؤ منها.
ومع ذلك، لا يكتفي اليائسون من التبرؤ من اليمن، بل ويسخرون ممن يتمسك بها ويسندها في الزمن الصعب.
يشير مبارك الباشا إلى هؤلاء بقوله:
«على أنّه يظلّ هناك من المثقّفين من اضطلعوا بمسؤوليّتهم وما يزالون، وإنّه لمن المضحك أنّ هؤلاء سرعان ما غدوا عرضة لبهلوانيّات الفريق المفعم باليأس، فهم من وجهة نظر أولئك المنتفخين جداً: شعبويون، غنائيّون، ويفتقرون للعُمق!».
*
يكتب سيوران، وهو فيلسوف روماني هاجر إلى فرنسا وكتب بلغتها: " المرء لا ينتمي إلى بلاد، إنه ينتمي إلى لغة".
من باريس كتب لصديقه في رومانيا الكاتب والفيلسوف الروماني كونستنتين نويكا (۱۹۰۹ - ۱۹۸۷):
"أنت تلح عليَّ، بعد كل هذه السنوات من الصمت، كي أمدك ببعض التفاصيل عما يشغلني، وكذلك عن هذا العالم الرائع! الذي تقول إنّي محظوظ بسكناه والتجوال فيه. في وسعي إجابتك بأنني رجل عاطل، وإن هذا العالم لا روعة فيه".
يضيف: "لكن إجابة بهذا الاقتضاب، على الرغم من دقتها، لن تفلح في إشباع فضولك، ولا في الرد الشافي على العديد من أسئلتك. أحد هذه الأسئلة، وهو يكاد لا يختلف عن اللوم، استرعى انتباهي بشكل خاص".
وتابع: "تريد أن تعرف إن كنت أفكر في العودة يوما إلى لغتنا نحن، أم أني أعتزم البقاء وفيا لتلك الأخرى التي تنسب لي فيها رفاهةً لا أملكها، ولن أملكها أبدًا. قد يشبه الأمرُ سَرْدَ كابوس لو أنّي فصلت لك تاريخ علاقتي بهذا اللسان المستعار، وكلماته المُفكر فيها مراراً وتكراراً، العاجزة عن التعبير لفُرط ما عبرت، المُرعبة لفرط الدقة. كيف تُريد من روماني أن يتدبر أمره معها، أن ينتبه لدلالتها الصافية، وأن يستعملها بحرص وأمانة؟ لا وجود لكلمة لم أشعر بالدوار أمام أناقتها المُنهكة: لم يبق من أثر للتراب، ولا للدم والروح في هذه الكلمات. إنها محشورة في تراكيب متيبسة ذات وقار جيفيّ يحصرها ويحدد لها مواقع يصعب حتى على الله أن يخرجها منها".
نظرة سيوران للغة الفرنسية لم تمنعه أن يكون واحداً من أهم الكُتاب الناطقين بها خلال النصف الثاني من القرن العشرين، بحسب رأي سان جون بيرس. ومع ذلك يرى سيوران أن هذه اللغة هزمته، وأن كتاباته الشذرية جاءت حلاً لهذا الاغتراب اللغوي.
كيف لليمني أن يسكن لهجة استهلاكية خليجية دون أن يفقد "ماهيته"، وتنقطع صلته ب"عُمقهُ" اللازم لأي فرادة إبداعية؟
لا رومانيا هي اليمن، ولا البحرين فرنسا، وبالتأكيد لا وجه للمقارنة بين فؤاد عبدالواحد وإميل سيوران.
لكن رسالة سيوران، واغترابه، ملائم لإضاءة الفكرة هنا بأفق عالمي، فكرة التجنس والاغتراب، واختلاف الوجهات والآراء والخبرات بشأنها.
التناقض مع لهجة الغرور النفطي يكاد يكون تناقضاً مع لغة أخرى، تشكلت داخل اللغة العربية نفسها. تناقض مع لهجة الخواء المادي الفاقد للمعنى.
ما الذي تمنحه لهجة الدسومة النفطية لفنان شاب مثل فؤاد عبدالواحد، إذ يظهر مستعداً ليقايض "ذاته" بالانتساب إليها؟
بالتأكيد، ليس الفن ولا الإبداع.
لا يمنحك تقمص لهجة الخواء النفطي شيئاً سوى الزيف. إنها لهجة الخليج، وقد اكتست بسُحام النفط، وخواء المول الاستهلاكي. لم تكن هذه نغمة محمد عبده وطلال مداح، ولا عبدالكريم عبدالقادر وعبدالله الرويشد. هي لهجة البطِر المُحتفل بخراب بلدان إخوته في شام العرب ومصرهم وعراقهم، كأن هذا الخراب سبب يبرر الخواء المديد في مدن الملح والرمال والنفط. النبرة الفاقدة لألفة الإحساس الإنساني الطبيعي، التفخيم المصطنع لأمير النفط الذي لم تفلح ثمانون عاماً من الثروة في تهذيب جلافته، اللهجة النقيض للأناقة. هل تسمع وقع اللسان يرتطم داخل الفم كقطعة غليظة من ربَل داكن بلون الديزل. لهجة لسان مسترخٍ في فم منفصل عن ذاته. اللهجة المغطاة بالدسم؛ دسم لزِجْ وذائب في مفرداتها، اللهجة المتفاخرة بِكُتل لحمية محشوة بالرُز، لهجة تخبرك كيف يكون فراغ الغطرسة لدى ثري فقد أصالته، كما وتخبرك كيف يمكن لفنانٍ متجنس أن يظهر منتشياً بفقدان "ذاته!".