مقالات

الفاشلون سياسيًا يحتفلون

23/05/2025, 11:22:56

في كل عامٍ، تتكرر مشاهد التهاني والتصريحات والشعارات في ذكرى 22 مايو، لكنّها لا تعكس فرحًا حقيقيًا بقدر ما تكشف تناقضًا فادحًا بين المعنى النبيل للوحدة اليمنية وبين ممارسات من يتسابقون إلى منابر الخطاب السياسي. بدلًا من أن تكون عيد الوحدة مناسبةً لتجديد العهد الوطني، تتحول إلى ساحةٍ صاخبةٍ تعجّ بالمزايدات والشعارات الجوفاء، وهكذا يصبح العيد اختبارًا قاسيًا للنوايا، ومرآةً تكشف عجز من يدّعون تمثيله دون أن يكونوا حراسه الفعليين.

اليوم، وفي كل ذكرى تزداد فيها الوحدة شحوبًا، يتسابق رموز المشروع السياسي الفاشل — من العليمي إلى عيدروس، ومن اليدومي إلى عبد الملك الحوثي، مرورًا بعلي محسن، والمخلافي، والسقاف — على إصدار البيانات وإلقاء الخطب. لكنّ هذا التسابق المحموم لا يعكس إيمانًا بالمشروع، بل هو أقرب إلى حركةٍ طفوليةٍ ساذجةٍ، يسعى أصحابها للخروج من دائرة النسيان إلى دائرة الضوء، ولو على حساب أطلالٍ تركوها خلفهم بعد معاركهم الأنانية.

في مشهد الذكرى، تتمايز فئتان من السياسيين: فئة المهنئين الذين فرّطوا بالحلم وفشلوا في تحويل الوحدة إلى مشروعٍ وطنيٍّ جامعٍ، اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا.

فئة الشامتين الذين، رغم شرعية كثيرٍ من مظلوميتهم، عجزوا عن تحويل تلك المظلومية إلى مشروعٍ تحرريٍّ ديمقراطيٍّ متماسكٍ، وتحولت الوحدة لديهم إلى شماعةٍ للتخوين وسلعةٍ سياسيةٍ في بازار الابتزاز.

لم تكن أزمة الوحدة اليمنية بعد 1990 ناتجة عن الفكرة ذاتها، بل عن اختلالات عميقة في بنية الدولة وهويتها السياسية والمؤسسية، حيث جاءت الوحدة على أرضية دولةٍ مأزومةٍ، لم تُبنَ على مؤسساتٍ راسخة، ولا على عقدٍ اجتماعيٍّ حديثٍ، بل على إرثٍ سلطويٍّ هشٍّ يعكس المأزق العربي العام في تكوين الدولة الحديثة.

حين حرّك علي عبد الله صالح قواته العسكرية في 1994، لم يكن هدفه الدفاع عن الوحدة بقدر ما كان يسعى لحماية إرثه السياسي الشخصي. أما حزب الإصلاح، فقد دخل المعركة وهو مثقلٌ بإرث التحالفات القبلية، فيما دخل الحزب الاشتراكي مدفوعًا برغبة الدفاع عن مصالح “الرفاق” ونموذجٍ سياسيٍّ كان يلفظ أنفاسه الأخيرة عالميًا. وجاءت نتيجة الحرب لتكرّس منطق الضمّ لا الوحدة، والسيطرة لا الشراكة، حيث سعى صالح بعدها إلى تفكيك حلفائه، وصولًا إلى تحالفه الكارثي مع الحوثيين في 2014، الذي سلّم صنعاء في لحظة انهيار كبرى للدولة والجمهورية والمشروع الوطني بأكمله.

في اليمن، لم تكن هناك دولتان من حيث الجوهر الاجتماعي والوطني، بل كان هناك نظامان سياسيان خلفتهما خارطة الاستعمار والحرب الباردة. لم يكن الشعب منقسمًا، ولا الاسم متشظيًا، بل ظل اليمنيون في وجدانهم شعبًا واحدًا، موصولًا بجغرافيا واحدة وتاريخٍ مشتركٍ. الوحدة لم تكن صفقةً بين صالح والبيض، بل مشروعًا سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا يمنح المواطن حرية اختيار نظامه، واستثمار الموقع والجغرافيا والموارد للنهوض الوطني.

لكن هذا المشروع تعرّض لمحطاتٍ متواليةٍ من الفشل السياسي. لم تولد الوحدة على أرضيةٍ صلبةٍ، بل باتفاقٍ سياسيٍّ هشٍّ افتقر إلى الحصانة الدستورية والرؤية المؤسسية. وعندما اندلعت حرب 1994، سقطت الرمزية الطوعية للوحدة، وتحولت إلى أداةٍ للغلبة، لا لبناء التعايش، وكان النصر العسكري بداية الانكسار الأخلاقي. في العقد اللاحق، لم تنجح النخب في بناء بدائلٍ، وتكرّست المظالم التي فجّرت الحراك الجنوبي، لكنه أخفق بدوره في إنتاج مشروعٍ وطنيٍّ متكاملٍ، وظل يدور في خطاب مظلوميات دون بنيةٍ سياسيةٍ قابلةٍ للبقاء.

لم تكن الوحدة ملكًا لأحد، ولا سبيلاً للارتزاق السياسي، بل كانت مشروعًا وطنيًا جامعًا، لا يقبل القسمة بين من فرّطوا بها باسم الدولة، ولا من تاجروا بها باسم القضية. كل من حوّل الوحدة إلى وسيلةٍ لمصلحته، خسرها أخلاقيًا وتاريخيًا، وتبقى الوحدة حلمًا للشعوب لا للساسة، ومشروعًا حضاريًا يستحق إعادة التأسيس على قاعدة التوافق والمواطنة والعدالة، لا على شعارات الغلبة والثأر والفرز.

إننا لا نحتفل بالوحدة حين نكررها خطابًا، بل حين نحررها من قبضة من شوهوا معناها، وننقذها بوعيٍّ جديدٍ يرى الوحدة كما وُلدت: طريقًا نحو يمنٍ واحدٍ، حرٍّ، ومستقبلٍ يتّسع للجميع.

مقالات

الوحدة والاقتصاد المأكول

في 22 مايو 1990، خرج اليمنيون إلى الشوارع يحتفلون بوطن واحد.. بجغرافيا لم تعد مقسمة على خارطتين، وبعلم واحد يرفرف فوق سارية الأمل. كان ذلك اليوم إعلانًا لحلم كبير اسمه الوحدة اليمنية، وكان من الطبيعي أن تتعالى الهتافات، وتزغرد الأمهات، لقد عشت تلك الفرحة وأنا في السابعة من العمر، وأشعلنا النار على أسطح المنازل وقمم الجبال، كان لدي شعور بأننا قادمون على فرح عظيم، كيف لا؟ وهو حلم الشعب بأن تختفي براميل الشريجة، ويُمحى ذلك الخط الوهمي بين الشمال والجنوب.

مقالات

الوحدة اليمنية.. لحظة للمراجعة

في الثاني والعشرين من مايو 1990، لم يكن اليمنيون على موعد مع يوم عادي في تاريخهم، بل مع لحظة فاصلة شكلت تتويجًا لمسار نضالي طويل واختزالًا لحلم وطني كان يراود الأجيال منذ عقود.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.