مقالات

المرضى اليمنيون في مصر.. معاناة تتجاهلها السفارة ومسؤولية إنسانية غائبة

09/09/2025, 12:29:00

منذ اندلاع الحرب في اليمن عام 2014 وتفكك مؤسسات الدولة، تدفقت أعداد كبيرة من اليمنيين إلى مصر باعتبارها الملاذ الأقرب والأكثر استيعابًا للجاليات العربية، وكان من بين هؤلاء آلاف المرضى الذين وجدوا أنفسهم مضطرين للبحث عن العلاج في بيئة صحية مرتفعة التكاليف، ومعقدة الإجراءات، وغياب شبه كامل للدعم الرسمي من الحكومة اليمنية أو سفارتها في القاهرة. 

هذه المأساة لم تعد ظرفًا استثنائيًا، بل تحولت إلى أزمة إنسانية مستمرة منذ أكثر من عقد، يعاني فيها المرضى وأسرهم من استنزاف مادي ومعنوي لا يُطاق.

تشكل الأمراض المزمنة والخطيرة مثل السرطان، الفشل الكلوي، أمراض القلب، والجهاز العصبي، العمود الفقري لهذه الأزمة، حيث يعتمد اليمنيون في مصر على القطاع الصحي الخاص بشكل شبه كامل. وتصل تكلفة العلاج لبعض الحالات إلى عشرات الآلاف من الدولارات سنويًا، وهو مبلغ يفوق قدرة معظم الأسر اليمنية التي فقدت مصادر دخلها بسبب الحرب والنزوح.

 ويكفي أن ندرك أن جلسات الغسيل الكلوي وحدها قد تكلف مئات الدولارات شهريًا، بينما تُقدّر أدوية السرطان والعلاجات الإشعاعية والكيماوية بعشرات الآلاف (تقارير منظمة الصحة العالمية، 2023). 

هذه الأرقام تعني أن كثيرًا من المرضى يضطرون لوقف العلاج في منتصف الطريق، أو البحث عن تبرعات فردية، أو الاستدانة بما لا يستطيعون سداده، فيتحول المرض إلى حكم بالإعدام البطيء.

في قلب هذه المعاناة، يُفترض أن تلعب السفارة اليمنية في القاهرة دورًا محوريًا في حماية رعاياها، لكن الواقع يكشف عن غياب شبه كامل لبرامج منهجية أو خطط واضحة. يقتصر تدخل السفارة غالبًا على إحالات محدودة لحالات استثنائية، دون دعم أو وجود لأي شكل مؤسسي يضمن توفر أدنى مساعدة مالية أو طبية، وغياب كلي وانعدام الموارد في ظل غياب العدالة والشفافية في تقديم الدعم. 

كثير من المرضى وذويهم يشكون من تعقيدات إدارية ووساطات شخصية تطغى على آليات التسهيل والإرشاد وتسهيلات الإقامة بعد رفع كلفة الإقامة لليمنيين في مصر، وهو ما يحوّل السفر إلى مصر للعلاج من حق مشروع إلى نكبة مستمرة مشروطة بتوفر دعم مالي من خارج مصر، ويكتنفه تعقيدات التحويل المالي واستلام الحوالات، ومخاطر السجن بسبب حيازة العملة وإجراءات الإقامة في مصر.

هذا التقصير لا يمكن اعتباره مجرد عجز مالي فقط، بل يعكس خللًا إداريًا وفسادًا سياسيًا مرتبطًا بانقسام السلطة الشرعية نفسها وصراعاتها الداخلية، التي انعكست بشكل مباشر على أداء بعثاتها الدبلوماسية في الخارج.

وعند مقارنة التجربة اليمنية بتجارب أخرى، تتضح الصورة أكثر. فالسفارة السودانية في القاهرة، رغم ظروف السودان المنهك بالحرب أيضًا، بادرت إلى إنشاء صندوق دعم صحي يغطي تكاليف علاج الفئات الأشد ضعفًا، وتعاونت مع جمعيات خيرية سودانية ومصرية لتوفير أدوية مخفضة للمرضى. 

السفارة الليبية، التي تمثل دولة تعاني من انقسام سياسي مشابه لليمن، وقّعت بروتوكولات رسمية مع مستشفيات كبرى لتخفيض أسعار العلاج، ونجحت في إدراج مئات الحالات ضمن برامج علاجية منظمة.

 حتى السفارة الفلسطينية، رغم محدودية مواردها، وفرت عبر التنسيق مع منظمات دولية مثل الأونروا والهلال الأحمر آلية لتخفيف الأعباء عن المرضى. هذه النماذج تؤكد أن الحلول ليست مستحيلة، بل إن غيابها في الحالة اليمنية يعكس إرادة سياسية مشلولة أكثر من كونه قصورًا في الإمكانات.

الإعلام اليمني لعب دورًا بارزًا في تسليط الضوء على هذه الأزمة، حيث تناولت قنوات مثل بلقيس والمهرية في تقاريرها الاستقصائية قصصًا مأساوية لمرضى عالقين بين مطرقة المرض وسندان الغربة. 

هذه القنوات قدمت نماذج مؤثرة لحالات أطفال يعانون من السرطان، وكبار سن يفقدون حياتهم بسبب عدم القدرة على شراء الأدوية، لكنها لم تجد استجابة تليق بحجم الفضيحة الإنسانية من قبل السلطات الرسمية. 

وعلى الرغم من أن بعض وسائل الإعلام اليمنية الأخرى مثل المهرية واليمن اليوم وبلقيس وغيرها أشارت في تقاريرها الإنسانية وبرامجها إلى معاناة الجالية اليمنية والقادمين للعلاج، إلا أن الهمّ اليمني بقي في الهامش نظرًا لغياب ضغط سياسي منظم من قبل الحكومة الشرعية.

المشكلة في جوهرها ليست فقط أزمة صحية، بل أزمة سياسية وإدارية متجذرة، تعكس عجز الدولة اليمنية عن القيام بأبسط مسؤولياتها تجاه مواطنيها.

 غياب قاعدة بيانات دقيقة لعدد المرضى وحالاتهم، عدم وجود بروتوكولات تعاون مع المستشفيات المصرية، وغياب صندوق دعم طبي مستقل، كلها مؤشرات على أن المأساة ليست عرضًا عابرًا، بل انعكاسًا لانهيار المنظومة الرسمية.

الحلول، رغم تعقيد الأزمة، ليست مستحيلة. المطلوب أولًا إنشاء قاعدة بيانات مركزية تشمل الحالات الأكثر إلحاحًا، ومتابعة الحالات، ومنع سماسرة العلاج من اليمنيين والمصريين من استغلال الحالات ووقوع اليمني في جهل الوضع الحالي في مصر وكلفة العلاج، وما هي المستشفيات المصرية المناسبة لهم، حتى يمكن من خلالها توجيه الموارد بشكل عادل وشفاف.

 ثانيًا، توقيع بروتوكولات تعاون عاجلة وتنفيذها مع عدد من المستشفيات الحكومية والخاصة في مصر لتخفيض أسعار العلاج وضمان الجودة والشفافية واستمراريته. 

ثالثًا، تفعيل صندوق دعم طبي يمول من موازنة الدولة اليمنية ويُرفد بتبرعات رجال الأعمال والمغتربين، على أن يخضع لإشراف لجنة مستقلة تضمن الشفافية. 

رابعًا، ورغم وجود ملحقية طبية، لكنها للأسف لا تقوم بدور فاعل أو مهني كممثل صحي متخصص ضمن الطاقم الدبلوماسي في السفارة لمتابعة الحالات بشكل مباشر وفعلي، وغياب التنسيق مع المستشفيات المصرية والمنظمات الصحية مثل الصليب الأحمر والهلال الأحمر المصري لتغطية جوانب العجز، ومتابعة حالات الفساد وعدم الشفافية والجودة في بعض مستشفيات القطاع الخاص في مصر.

إن استمرار تجاهل هذه الأزمة يمثل وصمة عار على جبين الحكومة الشرعية وسفارتها في القاهرة، ومسؤولية تاريخية وأخلاقية لا يمكن التهرب منها. فاليمنيون الذين وجدوا في مصر ملاذًا بعد أن فقدوا وطنهم لا ينبغي أن يُترَكوا فريسة للمرض والفقر معًا. وإذا كانت الحرب قد سلبت منهم أرضهم، فإن التقصير الرسمي لا يجب أن يسلبهم حقهم في الحياة والعلاج الكريم.

مقالات

لماذا الثقافة الجمهورية ضرورة للجيل الجديد؟

ينشأ امامنا اليوم جيلٌ يمنيٌ جديدْ من الشبان والشابات، أحدهما في الداخل شغلته الحرب وضغط المعيشة عن ما عداهما، وآخر في الخارج شبه مغيَّبٍ او منفصل بحكم البعد عن الواقع الراهن في بلاده، وكلاهما ينظر من زاويته إلى الحال التي آلت إليها أمورنا، ولا يسأل نفسه أين كنا؟ وما السبب في الراهن الذي نعيشه منذ خمسة عشر عاماً.

مقالات

تشرشل والعليمي

لم يجد تشرشل وقتًا للجلوس على موائد مع من قد يخرجون لاحقًا للحديث عنه ومقارنته بزعماء آخرين. وإن وجد الوقت، كان سيرفض الجلوس. عبقرية القادة وطبيعة اهتماماتهم الكبرى تمنحهم حساسية بالغة تجاه أولئك الذين يختزلون كل شيء في مائدة دسمة ومقابلة عابرة.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.