مقالات

المعرفة نجاة: تأملات في اليأس والأمل والحياة البرزخية!

18/03/2025, 11:43:58

الكتابة مجال لا يُقاس التفوّق فيه مسبقاً بنوع الموضوع الذي تكتب فيه، أو بما يبدو للوهلة الأولى ملمحاً له: يأس أو أمل.

أحياناً أشعر بالرَّغبة في الحياة بقوَّة عندما أقرأ للمفكرين العدَميين، وأشعر بالكآبة عندما أقرأ للمتوائمين المتفائلين المستريحين!!

بإمكاني القول، مُفسراً هذا الشعور الذي أحس به، إنه ربما يعكس قناعة راسخة لديّ أن إدراك حقيقة الحياة يتطلب الحفر بعيداً عن الأقنعة الزائفة التي قد يقدِّمها التفاؤل السطحي، أو التواؤم الخالي من التساؤل.

العدَميون، أو بتعبير آخر المتخففون من قيود الصورة الزائفة ومراعاة توقّعات الآخرين؛ مثل إميل سيوران ونيتشة، يقدِّمون رؤية وجودية تعرِّي الحياة من الزخارف والأقنعة، مما يفتح الباب أمام مواجهة جوهرها بجُرأة، وهذا ربَّما يمنحنا إحساساً بالتحرر والقوّة؛ لأنه يُعيدنا إلى إنسانيّتنا المجرّدة من أي إضافات تخنقها.

أما المتوائمون المتفائلون فقد تشعر بأنهم يقدِّمون صورة غير واقعية، ممّا يجعل نصوصهم بعيدة عن العُمق الذي تبحث عنه، وربّما مملّة مقارنةً بالقلق العميق والأسئلة الضرورية التي يطرحها مفكٍِرون لا يأبهون بتشذيب كتاباتهم، ولا يقلقهم أن تكون مخيِّبة لتوقّعات القارئ السطحي الباحث عن ما يعزز أوهامه، لا عمّا يحفر تحت سطحها الهش.

الحياة عند المتوائم السطحي تبدو "مرتبة"، بينما عند من يحفر في الأعماق، دون ضمانة مسبقة، تبدو "حية" وصادقة.

رغبتك في الحياة تنبع من تحدِّيها وفهمها، وليس من الهروب منها.

يقول سيوران، في أحد مقالاته المطوّلة، ضمن كتابه "تمارين في الإعجاب":

"لن ندرك معنى الأحداث إلا إذا تصوّرناها مثل مادة معروضة على عين مُلاحِظ لم يعد يخدعه شيء. إنّ من يصنع التاريخ لا يفهمُه، ومن يُساهم فيه بشكل أو بآخر هو إما مخدوع أو شريك. وحدها درجة يأسنا من الأحداث تضمنُ موضوعية أحكامنا".

هذا تعبير مكثّف عن فلسفة سيوران التي تميل إلى التشكيك في قدرة الإنسان على فهم ذاته والعالم. وأن الغوص في معترك الحياة يعيق المرء عن إدراك حقيقتها المجرَّدة.

كعادته، يبدو سيوران هنا فيلسوف "العُزلة "، والانسحاب من الحياة إلى مراقبتها عن بُعد!

هذه دعوة محمَّلة بيأس وجودي.

ما الذي يمنحك هذا الابتعاد؟

هذه المسافة، التي تأخذها من الحياة، تمنحك الحرية وربما القدرة على قراءة صافية لها، حسب رأيه.

لست يائساً مثل سيوران؛ مع ذلك ينتابني شعور مماثل، عن الحاجة إلى أخذ مسافة، عندما يتعلق الأمر بالأحداث في اليمن؛ أخذ مسافة من حياة هي أقرب إلى البرزخ منها إلى الحياة الحقة.

بعد سنوات طوال من حرب متعددة الأشكال، وحياة برزخية حقيقتها الوحيدة هي الاستنزاف والإنهاك، يمكن القول إن فقدان الاهتمام بهذه الدائرة العبثية تفكير سوي وليس "يأساً".

شعرت باليأس من البقاء، ذهنياً، في هذه الدائرة المفرغة (الشأن السياسي المباشر واليومي والمقرف)، أخذت مسافة.. لذا أصبحت أفهمها أكثر.

بعد سنوات طويلة من حالة يمنية مأساوية استنزفت كل شيء: الذات، الطاقة، العقل، الأمل، الروح، المجتمع، الناس، البلد، وحتى الحلم بحل قريب؛ يصبح الانسحاب من الضجيج الفارغ للشأن العام اليومي، أو اليأس، شكلاً من أشكال البقاء النفسي، وأداة لفهم أعمق للحالة.

حين ينهكنا الحدث إلى درجة اليأس، تصبح لدينا القدرة على رؤيته بوضوح مروِّع، خالٍ من الزيف أو التوقّعات التي كانت تعمي بصيرتنا.

الدائرة المغلقة تجعل التغيير يبدو مستحيلاً، وكأنَّك أمام مشهد يعيد إنتاج نفسه بلا نهاية، فتدرك أن المشكلة ليست فقط في تفاصيل المأساة بأشكالها المختلفة، بل في "السيستم" الشبكي الذي صُمم لكي يحفظ استمراريتها.

هذا الفهم، رغم مرارته، يمنحك مسافة تُساعدك على تأمل الأحداث من منظور أكثر شمولاً وربَّما أكثر فعالية، حتى وإن لم يكن ذلك كافياً لتغيير الواقع.

تنسحب من اليومي المباشر والسطحي، والسياسي الجاف والمقرف، إلى أفق الثقافة والفكر والفن والمعرفة؛ لنقل أنك تحتاج ذلك بين الحين والآخر.

المعرفة، حتى في أحلك اللحظات وأكثرها يأساً، تمنح الإنسان شعوراً بالقوة والسيادة على ذاته، وعلى فهمه لما يدور حوله. تُحوِّل الفرد إلى ملك يحكم نفسه، كأنه بذلك يحكم العالم؛ لأنه يدرك الأمور كما هي، بعيداً عن الخداع أو الوهم.

"المعرفة"، وبتعبير آخر القدرة على فهم ذاتك وما حولك، تمنحك إحساساً بالقوة والنجاة، حتى لو كنت يائسا.

ربَّما هذا ما يجعل المعرفة سلاحاً خفياً؛ فهي تمنحك رؤية تتجاوز اللحظة، وتمنحك سلطة داخلية حتى في واقع مُنهِك وصادم للعقل ومليء بالفوضى والعبث.

قد يكون اليأس حاضراً ومقيماً كحالة عامة، لكن المعرفة تعطيك القدرة على استيعاب العبث ورؤيته بصفاء، وهو نوع من الحرية التي لا يستطيع أحد أن ينتزعها منك.

أن تجد "المعرفة" أرقى متعة في الوجود يعني أنك قد تجاوزت حدود التسلية العابرة، والمُتع المادية، إلى شيء أكثر دواماً ونبلاً. إنها الغِبطة التي تنبع من اكتشاف الجوهر، وفهم العالم والنَّفس بعُمق، حتى لو كان هذا الفهم مغموراً باليأس أو مُحاطاً بعبثية الوجود.

المعرفة، بهذا المعنى، تصبح شكلاً من أشكال الحرية الداخلية. مُتعة لا يستطيع انتزاعها منك أي ظرف خارجي. إنها أشبه بنقطة متَّقدة في أعماقك، تضيء حتى في أحلك اللحظات المعتَّمة، وتجعل من رحلة الفهم والتأمُّل غاية في حدِّ ذاتها، بصرف النّظر عن النتائج أو المصائر.

"المعرفة" تمنحك منظور النسر؛ لترى الحياة من علو يحيط بكل أبعادها.

تغدو درعاً يحميك من السقوط في مآزق خطيرة كان من المُمكن أن تنهي حياتك بمعنًى من المعاني.

في أفق الوعي المتجاوز لإحباطات الواقع، تتحول حتى الحياة البرزخية إلى طريق يعيد صقل روحك وصلابة إرادتك. تتحوَّل إلى طريق للانبعاث وقارب نجاة، بدلا من كونها هاوية لموت مُحقق.

النجاة هنا ليست مجرد بقاء مادي، بل ارتقاء بالروُّح والفكر، بعيداً عن الهروب أو التنازل.

أن تستخدم طاقتك كإنسان من أجل معانٍ أكثر ديمومة وعمقاً، تجسِّد غنى التجربة الإنسانية وفرادتها.

نكتشف مع الوقت أنك مُمكن أن تتكيَّف وتجد منافذ للترقٍِي النفسي والذاتي حتى في أكثر المراحل بؤساً.

جوهر التجربة الإنسانية هو هذا؛ قُدرة المرء على التكيّف وإيجاد منافذ للنمو حتى في أحلك الظروف. ذلك وحده ما يجعل الإنسان قادراً على البقاء والتطوّر. ربَّما البُؤس، بُؤس الحياة العامة والخاصة، بحد ذاته، يحفِّز البحث عن طُرق للترقِّي النفسي والذّاتي، وكأنّ الألم يصبح دافعاً خفياً لإعادة اكتشاف الذّات وصقلها.

الحفاظ على التّوازن النّفسي وعدم السماح لليأس أو الغضب بأن يُكبِّلك هو نوع من البطولة اليومية في حالتنا.

التكيُّف ليس أن تكون "متصالحاً"؛ ربما التعبير الملائم هو أن تكون "ناجياً".

اقتصاد الطاقة النَّفسية مُهم. لن أكون أفضل لو بددت طاقتي في التذمُّر والتركيز في الهاوية العامة والشخصية وجها لوجه. طاقة المرء محدودة. اعمل ما بوسعك وامضي. لا تقف عند نقطة معيَّنة.

النَّجاة في هذا السياق لا تعني فقط البقاء على قيد الحياة، بل الحفاظ على كيانك النَّفسي والعقلي وسط بحر من العبث والمآسي.

"اقتصاد الطاقة النفسية” أهم مقياس تحتاج أن تنتبه له في زمن الانهيارات المديدة؛ لأن الانغماس في التذمُّر، أو مواجهة المصاعب وجهاً لوجه، دائماً لا يؤدي إلا إلى استنزافك دون جدوى.

حين تختار أن تفعل ما تستطيع، ثم تمضي دون أن تقف عند نقطة محددة، فإنك تخلق مساحة للتماسك الذاتي من الدَّاخل، متحرراً من الأعباء التي قد تُثقل النَّفس وتستنزف طاقتها.

هذا الموقف لا يعني التخلِّي عن الأمل أو الاستسلام، بل يعني اختيار معاركك بعناية، والتركيز على ما يمكن فعله دون الانجراف إلى دوّامة الاستنزاف والإنهاك العبثية.

-شذرة "نيتشوية" كخاتمة:

"يعتقدون أن الواقع قبيح

ولا يتخيَّلون أن معرفة الواقع القبيح نفسه جميلة.

وأن الذي يعرف كثيراً، في أغلب الأحيان لا يرى في نهاية المطاف قبيحاً.

فهل هناك إذن شيء "جميل في ذاته"؟

سعادة العارفين تزيد من جمال العالم، وتضيء كل الموجودات.

لا تقوم المعرفة فقط بتغليف الأشياء بجمالها، بل تدخله إلى أعماقها بشكل دائم.

لعلَّ الإنسانية تشهد على هذا في المستقبل.

وفي انتظار ذلك دعونا نتذكَّر تجربة قديمة:

اتفق رجلان شديدا الاختلاف، هما أرسطو وأفلاطون، على ما يشكِّل السعادة القصوى، ليس بالنسبة لهما وللناس فحسب، بل والسعادة القصوى بالنسبة لآلهة الغِبطة القصوى:

وجداه في المعرفة وفي نشاط عقل متمرّس على العثور والابتكار".

مقالات

المكارثية الجديدة: حين تصبح مناصرة فلسطين تهمة

في الخمسينات من القرن الماضي، عاش الأمريكيون في ظل حملة قمع سياسي شرسة عُرفت باسم "المكارثية"، حيث طاردت السلطات كل من اشتُبه في تعاطفه مع الشيوعية، وزُجّ بالكثيرين في السجون، أو فقدوا وظائفهم لمجرد آرائهم السياسية.

مقالات

تبرّعوا.. وراقبوا!

وسط دوامة الموت المجاني التي تطوِّق اليمنيين، يتقدّم السرطان كوحش لا يتوقّف عن التهام حياة عشرات الآلاف سنوياً، لا يفرِّق بين رجل وامرأة، شيخ مسن أو طفل.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.