مقالات
"إلياس خوري" المفكر العابر للحدود
في زمن قياسي، تفقد الأمة العربية، واليمنية خاصة، عددًا كبيرًا من رموزها الأدبية والفكرية ذات التاريخ في النضال.
في الخامس عشر من سبتمبر، فقدت الأمة العربية واللبنانية والفلسطينية، والإنسانية خاصة، علمًا كبيرًا من أعلامها الفكرية والأدبية؛ إنه إلياس خوري؛ رائد من رواد الحداثة فكرًا وأدبًا ومسلكًا. حضوره -كروائي في الحياة الأدبية والفكرية والعربية والعالمية- ساطع، وقد أبدع اثنتي عشرة رواية؛ تُرجمَ العديد منها إلى عد ة لغات.
اعتُبِرتْ روايته «باب الشمس» ضمن أهم مئة رواية عالمية؛ وهي عن قضية فلسطين، وقد تحولت إلى فيلم، إلى جانب «أولاد الغيتو» عن النازحين الفلسطينيين.
إلياس الروائي الموهوب، والمفكر العضوي المتعدد، والناقد الحداثي، والأكاديمي، والصحفي القدير، هو أيضًا مناضل في حركة التحرر الوطني الفلسطيني.
ارتباطه بالقضية الفلسطينية عميق؛ فهو ابن النكبة، ومن مواليد 1948. تفتق وعيه في لبنان «الأشرفية» على توافد اللاجئين الفلسطينيين على لبنان؛ وهو ما عبّر عنه في أعماله الروائية، وتجلى في دفاعه المجيد في دراساته وكتاباته الأدبية ومقالات الرأي، والانتماء السياسي.
رأس تحرير مجلة «الدراسات الفلسطينية»، وأدار مجلة «الكرمل»، ويعد من أهم نقاد الحداثة إلى جانب صبحي حديدي.
كان من أعمدة الصحافة العربية، ومن كُتَّاب الرأي في «القدس العربي»، و«شؤون فلسطينية»، وفي العديد من الصحف. تربطه علاقات متينة بالقضية الفلسطينية، وبالشاعر العربي الكبير محمود درويش؛ فقد عملا معًا في مركز «دراسات فلسطينية».
أتذكر في لقاء اليسار الأوروبي والأحزاب الشيوعية مع القادة الفلسطينيين في روما عام 1981؛ وهو اللقاء الذي اغتيل فيه ماجد أبو شرار؛ أحد وأبرز قادة اليسار الفلسطيني، وهو من رتَّبَ لهذا اللقاء، وكان أبو عمار حاضرًا والأب كابوتشي؛ راعي «كنيسة القيامة»؛ فقد طرحت على يحيى يخلف، الأمين العام للاتحاد الفلسطيني، عمل مقابلة مع محمود درويش، فنصح بالتخاطب مع إلياس خوري، أو غانم زريقات، أمين سر الاتحاد الفلسطيني، وطلب إلي النوم في غرفته؛ لينام في غرفتي محمود درويش؛ لأنه مستهدف، واستيقظنا الصباح على اغتيال المخابرات الإسرائيلية لماجد أبو شرار.
لقد أسهم اغتيال ماجد أبو شرار -كرمز لليسار الفلسطيني- في إفساح السبيل أمام مدريد وأوسلو. كان إلياس نجمًا ساطعًا في الصحافة اللبنانية؛ فقد كان رئيس الملحق الثقافي لصحيفة «السفير»، كما أسهم في الكتابة في العديد من الصحف والمجلات اللبنانية والعربية والعالمية، وكان عضوًا في تحرير مجلة «مواقف»، التي أصدرها أدونيس، ومحرر السسلة «ذكريات الشعب».
إلياس أكاديمي دَرَّسَ -كأستاذ زائر- في العديد من الجامعات العربية والأوروبية والأمريكية والبريطانية، ودرس الأدب الحديث والمقارن في جامعة نيويورك؛ فهو إلى جانب ثقافته الواسعة يُتقن اللغات: العربية، والإنجليزية، والفرنسية؛ وهو في رأس نُقَّاد الحداثة العربية، ودعاة التحرر والديمقراطية.
انتمى باكرًا لحركة التحرر الوطني الفلسطيني (فتح)، والتحق بمناضليها في الأردن بعد تخرجه من الثانوية العامة. حاصل على الدكتوراه في التاريخ الاجتماعي من جامعة باريس.
هذا المفكر العميق الحداثة، والمناضل الصامت متعدد المواهب والقدرات؛ فهو كاتب للقصة القصيرة، والعديد من المسرحيات والسيناريوهات، والسارد الروائي العالمي، والناقد الكبير، والأستاذ الأكاديمي في مستوى علمي رفيع، ودارس للحداثة وعلوم العصر بمهارةٍ وإتقان.
ذلكم الإنسان شديد التواضع والزهد عن الكلام يدهشك بسعة اطلاعه، ونفاذ رؤيته، وخبرته بالحياة والناس، وهو شديد السخرية والهزء من المتعاظمين والزائفين؛ عاشق للحياة، ومعادٍ للطغيان.
إلياس خوري من قلائل من الأدباء والصحفيين والأكاديميين الذين ثبّتوا أقدامهم في قلب الحياة والعالم والعصر. درس في العديد من أرقى جامعات العالم، وترجمت رواياته إلى الإنجليزية والفرنسية والهولندية والبرتغالية والإسبانية والنرويجية والسويدية والعبرية.
حضور فلسطين والمرأة ودرويش وعبد الرحمن منيف والنازحين في أعماله الروائية قوي. قرأ الأعمال الروائية الكلاسيكية عند المويلحي وفارس الشدياق وزيدان، وارتبط باستيعاب الألوان الأكثر حداثة في سرديات العصر؛ ليقدم زادًا سرديًا مغايرًا ومختلفًا لما ساد في المنطقة.
تحتل الرؤية المنامية مساحة واسعة في سرده؛ والرؤية السردية فن عظيم في كل الإبداعات العالمية والملاحم الكبيرة والرسالات السماوية والرحلات الأخروية، كما أن للبُعد الصوفي والانتماء القومي أثر عميق في كل إبداعاته وأبحاثه ومقالاته؛ لقد أبدع في الرواية كما أبدع في النقد.
كمفكر كان إحساسه بما يجري في غزة فاجع قبيل رحيله؛ فهو يقول: "غزة وفلسطين تضربان بشكل وحشي منذ ما يقرب من عام؛ وهما صامدتان لا يتزحزحان. إنهما النموذج الذي أتعلم منه حب الحياة".
كان إلياس خوري طول حياته شديد الارتباط بالقضية الفلسطينية وبوطنه لبنان، وبكفاح أمته العربية ودفاعها عن سيادتها وتحررها ضد الطغيان والفساد. كان من أشجع المدافعين عن الربيع العربي، وقضايا الحداثة والتطور، ومن أشد المطالبين بالحرية والديمقراطية والعدالة.
انتقد بشدة موقف المثقفين والأدباء العرب من حضور الإسلاميين في ثورة الربيع العربي، وموقف اليسار العربي، واعتبر ذلك جنونًا وخطأً كبيرًا ستدفع الأمة ثمنه.
كعضو في «مركز الدراسات الفلسطينية» كان يهتم ويتابع الوضع الإسرائيلي؛ ففي افتتاحية مجلة «الدراسات الفلسطينية» التي كان يرأس تحريرها، وتحديدًا في عدد 118، ربيع 2019- يدرس الانتخابات الإسرائيلية؛ منتقدًا العقم السياسي الفلسطيني.
يشيد بدور الجزائر في دعم الكفاح الفلسطيني؛ مؤكدًا على الفارق بين وضع التجربتين: وطن محتل، وجزائر منتفضة تعيش على حافة الاحتمالات التي بلورتها الثورة المضادة في مواجهة الربيع العربي، ووعوده المغدورة. يربط الارتماء العربي في الخط الإسرائيلي بغياب الديمقراطية، ويشير إلى حزب العمل المؤسس للدولة اليهودية، وصعود اليمين القومي والديني للسيطرة على الحياة السياسية.
ويرى أنَّ إسرائيل تعيش بين نظامين سياسيين: نظام لليهود يوفر لهم حرية التعبير والممارسة، ويحمي الاستيطان الوحشي، ونظام للفلسطينيين يتفرع إلى نظامين: نظام التهميش داخل الخط الأخضر، ونظام القمع والحصار والحشر داخل «غيتوهات» في القدس والضفة وغزة.
«نظام الأبارتايد» نظام استبدادي مُقنَّع بالديمقراطية؛ لذلك لا ينتظر الفلسطينيون أن تُشكِّل الانتخابات نقطة تحول في البنية الكولونيالية التي تحتل بلدهم وتضطهدهم.
ويرى -بنور المعرفة والعلم- أن الصراع يدور بين يمينيين بعنوان واحد اسمه نتنياهو، ويطرح سؤال المستقبل: هل يستطيع نتنياهو الحفاظ على موقعه في رئاسة الحكومة الإسرائيلية، أم أنَّ نجم قائد التحالف اليميني في إسرائيل آفل، وسينتهي به المطاف في السجن بتهمة الفساد؟ ويقرأ في الانتخابات الإسرائيلية للعام 2019 كأنها جزء من زمن ما بعد الحداثة، الذي تتشخص فيه الأزمات الاقتصادية والسياسية، وتغيب عنه البدائل، ويتوقع فشل تحالف أزرق أبيض، سواء أفاز أم لم يفز.
ويرى أن اليمين يجتاح السياسة العالمية، ويجد في الواقع العربي، الذي انهارت ضوابطه كلها، الظرف الملائم من أجل تأكيد المشروع الإسرائيلي الأصلي بضرورة محو الوجود الفلسطيني، ويعرب عن الأسى بتشظي القائمة المشتركة الفلسطينية.
الأديب المتعدد المواهب والقدرات والمفكر الحداثي يقرأ كف المستقبل، ويحصد الجوائز: «جائزة فلسطين الكبرى»، و«جائزة جوقة الشرف الإسبانية»، و«جائزة الثقافة الإسبانية»، و«جائزة اليونسكو».
الفقيد الكبير السارد والناقد والصحفي المدافع عن الحريات والحقوق والأكاديمي والمفكر الحداثي حاضر أبدًا لا يغيب.