مقالات
اليمن: التنوّع في إطار واحد (1)
إن ثنائية الشمال والجنوب في اليمن هو مصطلح تم سكّه، خلال العقود الأولى من القرن العشرين، إبان اقتسام الإمبراطورية العثمانية، والبريطانية لليمن.
ومنذ تلك اللحظة، التي سعى الاستعمار البريطاني فيها للترويج لمصطلح الجنوب، ثم الجنوب العربي "أصبح اليمن - لأول مرّة - يمنيين رسميين يحمل أحدهما اسم الجنوب ويحمل الآخر اسم الشمال" [زيد الوزير "نحو وحدة يمنية اتحادية لا مركزية" 71].
وقد كانت هذه هي المرّة الأولى في تاريخ اليمن، التي يتم تقسيمه إلى يمنيين، وكان ذلك نتيجة لفرض إدارة أجنبية على إرادة اليمنيين، واقتسامهما لليمن.
فاليمن -كما تشير مؤلفات مؤرخيها- كانت تنقسم إلى المخلاف الأعلى والمخلاف الأسفل، أو توصف البلاد بمغارب اليمن وبلاد المشرق، "ومن الثابت جغرافيا أن الأراضي المحتلة لا تقع جنوب اليمن المستقل" - أو ما كان يعرف باليمن التركي، "وإنما يقع معظمه على "الشرق" منه ثم ترتفع حتى تصبح شمال ما يتعارف عليه – خطأ – بالشمال" ["المصدر السابق"، ص72].
وطوال التاريخ اليمني عرفت اليمن بتوزّعها إلى مخاليف إدارية، أحيانا كانت تتسع، وتتعدد، وأحيانا تتقلص، وذلك بحسب التنظيمات الإدارية التي كانت تجريها أي حكومة مركزية مسيطرة على اليمن.
وقد ظلت المناطق والمدن بين حين وآخر، تنتقل تبعيتها من هذا السلطان إلى ذاك، دون أن يشعر أبناء هذه المدن بالتمايز مع من انضموا إليهم تحت سلطة واحدة.
نعم، لقد تجزأت اليمن، لكن ذلك من ناحية السلطة، وتفككت وتناثرت في أوقات عديدة، ومع كل ذلك لم يفقد اليمنيون شعورهم بيمنيّتهم.
وفي كل مرحلة من مراحل التشظّي، التي دخلتها البلد بسبب النزعات السلطوية لبعض القوى للوصول إلى الحكم والاستفراد بمنطقة مهما ضاقت مساحتها، فإن الحركة الداخلية للمجتمع ظلت ملحّة في السير نحو الوحدة، وما من قوة بزغت وغدا لها وزن في الساحة الوطنية إلا وسعت إلى إخضاع بقية المناطق، وإدخالها تحت حكمها.
كما كان الانقسام في اليمن من أهم العوامل الحاسمة للبحث عن صيغة للتكامل، وذلك أن كل منطقة في اليمن تظل محتاجة لما ينقصها، ولا تجده إلا في المناطق الأخرى، وهذا يبدو ظاهرا للعيان منذ عصور ما قبل التاريخ حتى قيام الممالك اليمنية، مع بداية الألف الأول قبل الميلاد، حيث اندفع السكان لتطوير علاقات التبادل التجاري فيما بينهم، وقد أثرت التجارة على الأوضاع الاجتماعية، ويتجلّى ذلك "في ظهور نوع من الاندماج الاجتماعي بين سكان الممالك، وتعايش قائم على المصالح" [هشام عبدالعزيز ناشر التجارة وأثرها في تطور الممالك اليمنية]، كما كانت سببا مهما لسيادة السلام بين أبناء المناطق المختلفة، وعدم استغناء أي منطقة عما حولها الأمر، الذي قاد إلى التكامل، وتؤكد الأوضاع القائمة في البلد استحالة أن شعور أي منطقة بالأمن، أو أن تحصّن نفسها، وتحول عن التأثر بما يجري في المنطقة المجاورة لها، وذلك بسبب التداخل الجغرافي والتشابك بين مدن اليمن المختلفة.
تشير الحقائق التاريخية وعلم الآثار منذ عصور ما قبل التاريخ، للأصول الواحدة للمجتمع اليمني وثقافته، وعلى وجود شخصية يمنية واحدة، هي التي أنتجت الثقافة، وشيّدت الحضارة، في اليمن منذ آلاف السنين، وما زالت تعبَّر عن نفسها حتى اليوم بأشكال مختلفة، عبر البناء المعماري، والفن الشعبي، والأدب والشعر، والزي، والعادات والتقاليد، وفي استمرارية أسماء الأماكن وتشابه مسمياتها، وتشابك التاريخ والأحداث.
ونستطيع، من خلال اللقى الأثرية والبقايا المادية منذ عصور ما قبل التاريخ، أن نجد ما يؤيّد صحة ذلك، فالمكتشفات الآثارية في مناطق البلاد المختلفة تشير إلى أنها صادرة من جماعة محلية واحدة، وأنها ناتجة عن ثقافة مشتركة، سواء كانوا أفرادا أو جماعات.
وتؤكّد النقوش المختلفة، والمعمار، والفن اليمني القديم، على أنها نابعة، وتابعة من أصل ثقافي واحد، نتج عن تطوّر محلي في هذه البقعة الطاهرة المعروفة قديماً لدى العالم بالعربية السعيدة، وكانت تضم ممالك سبأ وقتبان وحضرموت ومعين، والتي كانت تتوحد ضمن دولة واحدة هي سبأ، وأحيانا متى ضعفت السلطة المركزية في سبأ، أدارت بقية التكتلات شؤونها بنوع من الاستقلالية، وقد كان يطلق الحكام على أنفسهم ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنة وأعرابهم في الطود وتهامة، وقد عرفت، منذ مطلع القرن السادس الميلادي باليمن، "إشارة إلى منطقة محددة داخل الجزيرة العربية، أي بمعنى الهوية السياسية - الثقافية لجنوب الجزيرة العربية، بلاد اليمن"، كما يؤكد الدكتور يوسف محمد عبدالله.
وهذا الكيان السياسي، كان يعبّر عن كيان معنوي واحد ومحدد، مهما تعددت بداخله الثقافات الفرعية، إلا أنها كانت من ناحية الشكل لا الجوهر، حيث يؤكد دتلف نيلسون بقوله: "والواقع أن النقوش اليمنية المختلفة التي وصلتنا بالرغم من وجود بعض الفوارق الزمنية والمكانية تتبع جميعها دائرة ثقافية واحدة وتجمع بينها لغة واحدة، وخط واحد، وعناصر ثقافية واحدة سواء من ناحية الفن أو المعمار أو الدين" [دتلف نيلسون وآخرون "التاريخ العربي القديم"، ص52]