مقالات
تغيرت "الهيئة" ولم تتغير السعودية!!
استنجدت السعودية برامز جلال، والطابع الدعائي لبرنامجه الرمضاني، الذي كان حكراً على الإمارات، لتروّج لما تعتبره وجهها الجديد (هيئة الترفيه)، إذ يظهر متحدثا من الرياض، ويصوّر حلقاته في مدينة الملاهي الترفيهيه بالعاصمة السعودية. وفِي مقدّمة البرنامج ونهايته يعتلي تركي ولد الشيخ منصة رعاية البرنامج الأكثر تفاهة، والأكثر شعبية في رمضان.
شعبية هذا البرنامج ليست دليلا على تدنّي الذوق العام، ويمكن فهمها ب"الحاجة إلى مشاهدة التفاهة" أحيانا من قِبل الجمهور، وهو وقت مستقطع، يقول لنا إن معظم الناس لا يبحثون عن المعنى العميق طوال 24 ساعة في حياتهم اليومية
يقول فرناندو بيسوا: "لا أندهش من البلادة التي يحيا بها معظم الناس حياتهم، بل من الذكاء الموجود في هذه البلادة".
ولعلّ شيوع برنامج رامز جلال يُفهم من هذا التجاور بين العيش ببلادة، ومتابعة بعض التفاهة، في ليالي عسر الهضم الرمضانية، في ظل واقع لا يسُر، يعُم بلاد العرب من مشرقها إلى مغربها.
فهم شعبية "برنامج تافه" من زاوية فلسفية تحاول تفسيرها خارج أحكام الإدانة لعموم الناس وأذواقهم، لا يحيل إلى تبرير التفاهة، ناهيك عن الاستعانة بها، كما أن ذلك لا ينفي استخدامها من قِبل آلة استهلاكية سائدة في الفضائيات الخليجية، إنتاج التفاهة واحد من سماتها، ومن أهم وظائفها.
استعانة "هيئة الترفية" السعودية بشعبية التفاهة الرمضانية التي يقدّمها رامز جلال هي أفضل تعبير عن سمة "التحول السعودي" الذي تدعيه الرياض، وتريد تسويقه للعالم العربي، باعتباره تحولا حقيقيا نحو الحداثة والمدنية والقِيم العصريّة!
لا موهبة قادرة على تسويق إدعاءات التغيير السعودية، ما الحال برامر جلال وبرنامجه!
لا تحول في السعودية.
هذا الاستبدال ل"هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " ب"هيئة الترفيه" هو تعبير عن الحاجة إلى إستخدام عنوان جديد للإيحاء بالتحول، فيما البنية التحتية للثقافة والسياسة والمناهج وتركيبة الحُكم كلها باقية على حالها.
كانت هيئة الرقابة التسلطية على المجتمع تمارس عسفها لقمع الناس باسم الدين، وتعبّر -في الوقت نفسه- عن نهج الدولة السعودية، نهج عمّمته في مناهجها التعليمية وجوامعها وفضائها العام، وصدرته لمدن العرب وأريافهم عبر رصد الميزانيات لدعم الجماعات المتطرّفة وآلاف الدعاة العرب الذين درسوا فيها، وعبر سيل من الكتيِّبات السلفية، والأشرطة والقنوات والجماعات، التي تجمّعت كلها لتصنع إعاقة تاريخية للعرب في تاريخهم المعاصر.
كانت "الوهابية" برنامجا للفكر المتطرّف الواسع النطاق، بُنيت الدولة السعودية عليه، ونشرته في المنطقة العربية لمواجهة التيارين اليساري والقومي بداية من منتصف القرن الماضي.
لم تكن محصورة كحاجز في مواجهة "الترفيه"، وإنما توجه ديني وسياسي وفكري معيّن في مواجهة توجه فكري وسياسي واجتماعي محدد.
في جزئية من تمظهراتها كانت فعلا معادية للمرأة والفن والحريات العامة، وترى في كل تفصيلة عابرة تهديداً للدّين والدولة السعودية والإسلام.
هذا الملمح يجعل من التحوّل منها إلى نقيضها مهمّة تاريخية مشروطة بتحولات سياسية وفكرية واجتماعية، لا مجرد حملة إعلانية دعائية للترفيه.
ما الذي حدث؟ هل تغيّرت السعودية بالفعل، أم أنها مجرد حملة إعلانية طويلة تروّج لولي العهد الشاب في الخارج قبل الداخل، من منصة عناوين جديدة خارج دائرة العناوين المستهلكة لثقافة دينية متطرّفة، وصلت إلى طريق مسدود بعد أن تحولت إلى أزمة للعالم كله بعد أحداث 11 سبتمبر 2001؟
لقد بدلت السعودية المفتاح فقط، بينما بقي المخزن القديم كما هو دون أن يُمس. بدلت العنوان، وأبقت على البنية المتقادمة كما هي في المدارس والجامعات ومؤسسة الجامع، وركام الكُتب السلفية الوهابية وثقافتها.
هو تغيير تكتيكي لا يتعدّى الحملات الإعلانية، لإيهام العالم أن السعودية بدأت أولى خطواتها للخروج من الصندوق المغلق للوهابية والسلفية الجهادية، التي انفجرت في ذروة صعودها كقنبلة في وجه أمريكا، أمريكا نفسها التي رأت فيها في سبعينات القرن العشرين أداة مُثلى للاستخدام؛ "بحيرة دين" تكمّل "بحيرة النفط"، وكلاهما استخدمتا في مواجهة الشيوعية والمعسكر الاشتراكي والتيارات اليسارية والقومية.
لقد كانت ثورات "الربيع العربي" حدثا مفصليا آخر، بعد عقد من أحداث 11 سبتمبر، وزلزالا لا يقل عنها. هذه الثورات في مضمونها كانت انتفاضة العرب الكُبرى ضد النظام الرسمي العرب، وضد البنية التحتية للثقافة التي راكمها ودعمها واستخدمها عبر عقود، والجماعات السلفية والإرهابية المتطرفة جزء من هذه الثقافة نفسها.
رأت السعودية في "الربيع العربي" خطرا عليها، لذلك واجهت هذه الثورات كأن ميادينها وساحاتها كانت في الرياض والمدن السعودية، لا في القاهرة وصنعاء ودمشق وطرابلس والمدن التونسية.
لقد صنّفت السعودية جماعة "الإخوان المسلمين" كعدو جديد بدل الشيوعيين، ليس لتطرّفهم وإنما لدواعٍ سياسية، لأنهم شاركوا شعوبهم ثوراتها، ولأنهم قرروا ممارسة السياسة في حقل نسبي لا يتيح لأحد التحدّث باسم الدّين.
كانت مشاركة جماعة "الإخوان"، والأحزاب الخارجة من عباءتها -في ثورات شعبية تهدف إلى إسقاط الأنظمة- هي محطة الفراق النهائي مع السعودية.
ثورات "الربيع العربي" كانت فرصة تاريخية للخروج من دائرة الاستبداد، ومن دائرة التطرّف الدّيني في الوقت نفسه، عبر تحولات ديمقراطية تفتح الباب لتحديث المجتمعات العربية، وحلّ مشكلة السلطة المزمنة، وإجراء الإصلاح الدّيني الذي تأخّر كثيرا.
التحولات، التي بشرت بها ثورات "الربيع العربي"، كانت الطريق الأقصر لمحاصرة التطرف، وإصلاح مناهج التعليم، وبناء دولة القانون، وخلق بيئة مدنية حديثة ملائمة لنشر العلم، وازدهار الفنون والمسرح، ومشاركة المجتمع برجاله ونسائه في بناء بلدانهم كمواطنين أحرار، يقفون على مستوى واحد من حقوق المواطنة والمساواة.
كان نجاح ثورات "الربيع العربي" سيفرض على ممالك الخليج، وفِي مقدّمتها السعودية، إجراء إصلاحات حقيقية سياسية ودينية.
أتيحت للسعودية فرصتان للتحول والتغيير وإجراء اصلاحات شاملة، الأولى بفعل أحداث 11 سبتمبر الإرهابية، والثانية بزلزال ثورات "الربيع العربي".
لم تتغير السعودية بعد خضة "11 سبتمبر"، التي وضعتها تحت المجهر العالمي.
ولم تتغير بعد ثورات "الربيع العربي"، التي كانت إنذاراً لها بضرورة إنجاز إصلاحات داخلية جذرية.
في الخضّة الأولى، اكتفت بمشاركة أمريكا في استخدام عنوان "الإرهاب" أمنياً، لتنجو من أي استحقاقات للتغيير والإصلاحات السياسية وتغيير المناهج وبعد ثورات "الربيع العربي" اكتفت بفتح باب قيادة السيارة أمام المرأة السعودية، ورفع الحظر عن أغاني أم كلثوم في إذاعتها، وإنشاء "هيئة ترفيه"، وصلت إلى ذروة إنجازاتها برعاية برنامج "رامز جلال!". هذا كل شيء.
البنية القديمة باقية على حالها، وأضيف لأدواتها استخدام سطحي للترفيه، ورفع قيدين أو ثلاثة من جبل ضخم من القيود باقٍ كما هو، ويتوهمون أنهم بذلك قد تجاوزوا استحقاقات التغيير والإصلاحات الداخلية الشاملة في الدولة والسياسة والدّين والمجتمع!