مقالات
توكل كرمان في طريقها إلى أوسلو
فجّر نبأ فوز الناشطة اليمنية، توكل كرمان، بجائزة نوبل للسلام، فرحًا عجيبًا في نفوس اليمنيين. موجة من الفرح والتفاؤل عمت أرجاء البلاد بأسرها، رجالها ونساءها.
لم يألف اليمانيون تحقيق إنجازات كبرى، منذ قرون، فجعبة اليمن خاوية من أي منجزات خلاقة تضعها في واجهة شعوب العالم.
لم يفز أي عالم أو أديب يمني بجائزة دولية مرموقة، وحتى في مجال الرياضة لم تحرز اليمن أية ميدالية ذهبية أو دونها في الأولمبياد، الذي يقام دوريًا كل أربع سنوات، منذ بدايات القرن الماضي، وتمتلئ سلال الشعوب الأخرى بميدالياته.
حدث كهذا يعني أن امرأة يمنية اسمها توكل كرمان استطاعت أن ترفع اسم بلدها عاليًا ومقترنًا بالمجد والفخار في شتى أصقاع الأرض، فإذا اسم وطنها اليمن يشيع على ألسنة المليارات من البشر، وتذكره المئات من وكالات الأنباء والإذاعات، ويظهر في الصفحة الأولى من آلاف الصحف والمجلات، ويوثق في بطون الكتب، وينتشر في عدد لا يحصى من المواقع الإلكترونية.
ربما قال قائل، يغلي الحسد في صدره، إن "جائزة نوبل للسلام أكبر منها"، ولكن هذا القول غير صحيح ومردود على صاحبه، فتوكل كرمان ليست فقط أحد قيادات الثورة البارزين، ولكنها أيضًا تفضل على الآخرين بميزات تجعلها جديرة بالجائزة دونهم، فهي التي قادت الثورة في أيامها الأولى -الأشد خطورة وهولًا- حين أحجم الكثيرون، ولم يكن يتواجد في ساحة التغيير سوى عدد محدود جدًا من المتظاهرين لا يتجاوز عددهم المئات. كما أنها لم تكن من "المنضمين" إلى الثورة، بل هي قائدتها منذ انفجار شرارتها الأولى، والقيادات التي ظهرت فيما بعد إنما أتت مهرولة خلفها وسائرة على خطاها، وقد بهرها نجاح امرأة لا حول لها ولا قوة في إشعال جذوة الثورة، وإثارة الاضطراب في أعمدة نظام الحكم التي كانت تبدو راسخة كرسوخ الجبال. لن ينسى التاريخ أبدًا دور هذه المرأة العظيمة في قيادة شعبها نحو مستقبل أفضل.
تتلألأ سماء اليمن بالكثير من القيادات التي تعمل لأجل نجاح الثورة ليل نهار، ولكن توكل كرمان لديها ميزة تنفرد بها عنهم جميعًا، ألا وهي القيادة الميدانية للثورة. فهي جزء من الساحات والساحات جزء منها، متواجدة فيها لتقود التغيير بنفسها، لا عبر الهواتف الجوالة، تمشي تحت وهج الشمس وهبوب الغبار غير عابئة بالخطر الذي يترصدها، تمشي في مقدمة الصفوف لتثير الهمة في النفوس، ومن حضورها يستمد من حولها عزيمة جبارة لإسقاط النظام، فإذا بروحها المطمئنة بانتصار الثورة تنقل العدوى إلى الأرواح الأخرى فيتلاشى خوفهم، ويشعرون بالأمل ونور الحياة الأجمل يشرق بين عيونهم.
بسبب نظام الحكم وسياساته الفاشلة، التي جعلت اليمن بلدًا همه الأول والوحيد استجداء القروض والمساعدات، نمت في الذات اليمنية "عقدة الدونية"، فأصبح يرى نفسه أقل شأنًا من أمثاله من الشعوب الأخرى، وغير جدير بالنجاح والتميّز، ونيل الجوائز والألقاب والأوسمة، وسوى ذلك من ضروب التكريم اللائق بالإنسان صاحب النشاط المثمر في الحياة.
وبسبب سياسة الإفقار وإذلال الناس في لقمة عيشهم تضاءل شعور اليمني بكرامته إلى الحضيض. ولكن فوز توكل كرمان بجائزة نوبل للسلام سوف يعمل على شفاء الشخصية اليمنية من هذه العقدة، والسمو فوق الوضع البائس الذي أراد النظام الحاكم حجز الكفاءات اليمنية فيه.
لا أعرف من هو العبقري الخبيث الذي اقترح على نظام الحكم في اليمن تصميم قفص حديدي تحبس بداخله كل الإمكانيات البشرية اليمنية لمنعها من النمو والتطور واجتراح معجزة الإبداع والابتكار، ولكن قلب وعقل هذا العبقري الخبيث مات حين انتزعت شابة شجاعة المفتاح في غفلة منه، وفتحت بوابة القفص على مصراعها. الآن تقول توكل كرمان للملايين من اليمنيين: "اخرجوا لقد صرتم أحرارًا".
يتداول اليمنيون بكثرة أن دولة قطر قد ساهمت في فوز اليمنية توكل كرمان بجائزة نوبل للسلام، وذلك عبر الدعم الإعلامي المؤثر لقنوات الجزيرة، باللغتين العربية والإنجليزية. والبعض يردد هذه الأقوال بصورة مغرضة، وكأن مجرد الهمس باسم قناة الجزيرة يعد كافيًا للتقليل من استحقاق توكل كرمان لنيل الجائزة! ولكن ما هو مؤكد أن دولة قطر قد قامت بدور مشرف في مساندة الثورة اليمنية، وقدمت توكل كرمان أحد أبرز وجوه الثورة إلى العالم، وساهمت في التعريف بها لدى الرأي العام الدولي. وهذا أمر تستحق أن تشكر عليه دولة قطر وشعبها لدورهم الحيوي في نيل بنت اليمن توكل كرمان جائزة نوبل للسلام.
في الحادي عشر من ديسمبر، سوف تسافر توكل كرمان إلى أوسلو لتتسلم جائزة نوبل للسلام (2011) من معهد نوبل النرويجي، وسيكون بصحبتها الفائزتان من ليبيريا (إلين جونسون سيرليف) و(ليما غوبوي)، وعلى ما يبدو فإن هذه الجائزة الرفيعة ستساعدها على اجتياز الكثير من العقبات في طريقها نحو تقلد منصب رئيس الجمهورية، ولليمنيين تجربة مع حكم النساء، وهي تجربة ناجحة جدًا، فقد تميزت عصور حكمهن بالازدهار والرخاء ونمو قوة الدولة. ومنهن على سبيل المثال الملكة بلقيس، التي حكمت اليمن في الألف الأول قبل الميلاد، والملكة أروى بنت أحمد الصليحي التي حكمت اليمن بعد الإسلام.
وبالنسبة لتوكل كرمان فإنها ستحتاج إلى أمدٍ من الزمان لإنجاز هذا الطموح المشروع، كما أن عليها اكتساب خبرات "القائد الحكيم" لكي توقّع مع التاريخ معاهدة بناء اليمن وازدهاره.
ملاحظة: أُرسلت هذه المقالة إلى صحيفة عربية في أكتوبر 2011، ولكنها لم تنشر.