مقالات
جدلية الحوار والحرب
ثمَّة جولة جديدة من الحوار لنزع فتيل الحرب. نعم، ممكن حدوث ذلك. لكن لا تبتسم. ثمَّة جولة جديدة من الحرب أيضاً. الآن لك أن تبتسم، فأنت في اليمن!
منذ أن عرفنا القراءة، مرّت بنا مفردة "الحرية" مرات عدَّة، قبل أن تقترن بمفردة أخرى: الرأي.
بعد ذلك -وبعد أن عرفنا كيف نقرأ- صرنا نستحلب عبارة "حرية الرأي" من ضرع النص إلى دلو الواقع، غير أننا عندما نحاول تذوُّقها نجد لها طعماً مختلفاً في كل مرَّة!
كان الطعم في الغالب إما حامضاً أو تُغلّله المرارة أو الملوحة، أما حلاوته اللذيذة فلم نتذوقها يوماً إلاَّ في أحلامنا التي كنا نعتقدها يوماً جزءاً حميماً من الواقع، فإذا بها تعاني انفصاماً حاداً مع الواقع.. أم تراه العكس صحيح؟
كان المهاتما غاندي يكتب - بأسماء مستعارة - مقالات تُخالِف آراءه وأُطروحاته، وينشرها، ليُعلِّم الناس أبجدية حرية الرأي وقواعد المعارضة الفكرية. ولم يكتشف أحد هذا السرّ إلاَّ بعد رحيله.
ويُنسَب إلى فرانسوا فولتير القول: قد أختلف معك في الرأي، لكنني مستعد للتضحية بحياتي دفاعاً عن حقك في إبداء رأيك. وقلت إن هذا القول يُنسب إليه، فالقائل الحقيقي كاتبة تُدعى ايفلين بياتريس هول، وقد حدث التباس بينهما في واقعة ليس هنا مجال سردها.
أما جورج برنارد شو فقد قال يوماً: إذا أردت معرفة ما في عقل شخصٍ ما، فاسمعه يُحاوِر من يختلف معه في الرأي.
وثقافة الاختلاف بضاعة غير متداولة في سوق العرب.
فالعربي -منذ القدم- لا يعرف الجدل أو الحوار في القضايا الخلافية. فهو يلجأ إلى السيف في حلّ هذا النوع من الأمور. وقد حلّت البندقية محل السيف في زمنٍ تالٍ. ثم حلت الدبابة محل الجميع.
غير أن الأدهى أن هذا المشهد ليس سائداً في أوساط العامة والدهماء فحسب، بل استشرى أيضاً في أوساط النُّخبة -أو ما يُفترَض أنهم نخبة- من أهل الفكر والسياسة على السواء.
ويومَ أن يتفق أهل الشأن في إقامة حالة حوار للبتِّ في أمرٍ ما ذي طبيعة خلافية بينهم، لا تُكتَب لهذه الحالة طول العمر، ناهيك عن النجاح والفلاَح.
وفي التاريخ نقرأ ونفهم ونوقن أن الحوار يعقب الخلاف الحاد الداعي أحياناً إلى اشتعال فتيل الحرب.. إلاَّ لدى العرب -واليمنيين بالذات- فإنهم يبدؤون بالحوار، لينتهي بهم المطاف إلى الخلاف، فالحرب!
ثم بعد ذلك يضطرون إلى تدشين حالة حوارية جديدة بعد أن تخمد نيران المعارك، غير أنها سرعان ما تستحيل إلى حالة خلافية أكثر حدَّة من سابقتها، وبالتالي خوض جولة أخرى من المعارك... وهكذا دواليك!
انظر إلى حروبنا اليمنية (في الشطرين قبل الوحدة، ثم في الدولة الواحدة) ستجد أنها اشتعلت بعد حوار أو جدل بُغية التفاهم والتناغم والاتفاق.. حتى إن الخصوم -في إحدى تلك الحروب- اتفقوا مبدئياً وأخلاقياً على عدم اللجوء إلى السلاح في حل الخلاف بينهم، بل اعتبروا من يطلق الرصاصة الأولى مداناً بالخيانة العظمى بالضرورة. وحين صحونا صباح يومئذٍ على حرب ضروس، لم نجد إجابة شافية عن السؤال الضروري: من الذي خان؟
والأمر ذاته -الحوار أولاً كمقدمة للحرب تالياً- حدث في حرب صيف 1994 بعد حوار أسفر عن وثيقة عهد واتفاق كانت يومها من أفضل مخرجات العقل السياسي اليمني، ثم انقلاب 2014 واستيلاده لحرب 2015 بعد حوار وطني شامل ووثيقة سلم وشراكة التهمتها النيران قبل أن يجف حبر التوقيع عليها من الأطراف كافة!
الحوار ضرورة لمنع الاحتراب. كل يهودي ونصراني ومسلم وبوذي وزرادشتي وملحد يؤمن بهذه القاعدة... إلاَّ "أبو يمن"!