مقالات
حكاية الرجل الصفر
بعد أن التحق ب"فريق المشي المشي وتسلق الجبال" يقنا..، قال لي في ثالث رحلة:
- "كيمو.. من حين التحقت بالفريق، وخرجتُ أمشي معكم.. مدري ما حدث لي!!
قلت: ما هو الذي حدث لك؟
قال: الأفكار التي كنتُ أعتنقها؛ وأؤمن بها، وأتحمَّس لها، وأدافعُ عنها، وأكرهُ وأُخاصمُ من ينتقدها، أو يُشَككْ فيها، بَدَأْتْ تهتز، وبَدَأتُ أشك بمصداقيتها، وبصلاحيتها.. ولم يعد لها ذلك البريق.
قلت له: شيء طبيعي أن يحدث هذا؛ لأنك وأنت تمشي تكون في حالة حركة، وفي حالة تدفق وجريان مثلك مثل النهر، وكل تلك الأفكار والقناعات والثوابت، التي في عقلك تتحرك أثناء المشي، وتتجاوب مع حركة قدميك، وتهتز، وتتخلخل، ثم لا تلبث أن تتساقط مثلها مثل أوراق الخريف.
قال وقد بدا عليه الاستغراب: لي خمسين سنة مؤمن بها، ومتحمس لها، وأدافع عنها، وأتخانق أنا والناس بسببها، وتقول لي إنها تتساقط كأوراق الخريف!!
كيف هذا، وما هو السبب؟!
قلت: وأنت جالس تكون راكداً، وفي حالة ركود، ولن تستطيع وأنت في تلك الحالة من الركود والجمود أن تتثبَّت من صحة تلك الأفكار والقناعات الراكدة في عقلك الراكد، وكذا لن يكون بمقدورك أن تعرف عما إذا كانت صلاحيتها قد انتهت أم لا.. فضلا عن أنه لا يمكنك، وقد تعفنت، وفاحت منها رائحة كريهة أن تشم رائحتها طالما أنت جالس في بقعتك، ووسط جماعتك ولا تتحرك.
ثم راح يسألني عما إذا كانت الأفكار والقناعات والمعتقدات تبلى وتفسد وتتعفن!!
قلت: الأفكار مثلها مثل الأحذية تبلى وتُستهلك، ومثل الأغذية تفسد وتتعفن.. لكننا نغير أحذيتنا حين تبلى بأحذية جديدة، ونرمي بالأغذية التي تلفت وفسدت وتعفنت، فيما الأفكار والقناعات الفكرية نحتفظ بها ونحافظ عليها، رغم فسادها وعفونتها، وانتهاء صلاحيتها.
وبعد مرور ستة أشهر على التحاقه بالفريق قال لي:
كيمو: أنا خائف.
وحين سألته عن سبب خوفه؟ قال لي: فقدتُ اليقين.
قلت له: اليقينُ حجاب، وهؤلاء الذين لديهم اليقين ويمتلكون الحقيقة هم أكثر العميان عمىً، وأكثرهم خطراً.
لكنه كان خائفاً ليس فقط من اهتزاز الثوابت والقناعات الراسخة في عقله، وإنما كان خائفا كذلك من المسالك التي نمر بها في رحلاتنا، وكان كثير الأسئلة.. ودائماً يسأل: أين سَارِحينْ؟ أين عَتِسْرَحُوا؟!
أين جَازِعينٔ؟ أين عَتِجٔزَعُوا؟ كيف لَوْمَا؟ وما عَنَفْعَلْ لو نمنا بالوادي، وهجم علينا وحش، واحنا بغير سلاح؟!
ومرةً وقد أكثر من الأسئلة وزاد الماء على الطَّحين، قلت له: عندما تخرج معنا ثاني مرة، عليك أن تترك عقلك في الثلاجة، وتخرج بدونه.
قال، وقد استفزه كلامي:
-"كيف هذا الخبر حقك، يا كيمو!! من صدق تتكلم والا تمزح؟!!
قلت: صدق أكلمك، والمثل يقول: "جِنَان يخارجك ولا عقل يحنِبَك".
قال: بالله عليك يا كيمو.. تصدق هذا الكلام وأنت متخرج من جامعة؟!!
قلت: العقل فخ وهو شَرَك، وجميعنا انخدعنا به، واعتقدنا بأنه عضو التفكير، وأنه يكفي أن نجلس في بيوتنا، ومكاتبنا، طالما أن في رؤوسنا عقولاً تفكر، لكن الحقيقة هو أن الخلل في حياتنا سببه أننا نفكر بعقولنا.
قال محتجًا: لكن يا كيمو العقل هو عضو التفكير، ولو ما فكرنا بعقولنا بأيش عاد بانفكر؟!
قلت: العقل جبان، ولديه مخاوف، ومحاذير، وخطوط حمراء، وثوابت، ولو فكرت بعقلك لن تخرج من فخاخه، وأشراكه، وستبقى إلى آخر عمرك في تفس الحفرة، أما لو أنت آمنت بالقدمين، وتعلمت كيف تفكر بقدميك، فلسوف تخرج من كل الحفر؛ بما في ذلك من حفرتك المقدسة.
قال بنبرة محتدَّة: قد ذا ياكيمو خرجتُ من حفرتي، وبطّلت السياسة؛ وماعادناش حزبي، ولا سياسي.. ولا مناضل،
وخر جت معكم امشي، وفي ذهني أن المشي رياضة، وأننا رياضي، مُشْ أنا داري أن المشي عندكم عقيدة.
قلت: المشي كرياضة بمقدورك أن تذهب إلى أي نادٍ وتمارس رياضة المشي.. ولست بحاجة إلى أن تخرج للطبيعة، وتطلع جبال، وتنزل وديان، وتمر بالضِّياح، والهُوَى السحيقة، وتلامس الخطر في الذهاب وفي الإياب.
وكان صاحبنا المشاء لديه تضخُّم في الذات، وبسبب تضخُّم ذاته عمل نفسه أميرًا علينا، وفي كل رحلاتنا كان ما ينفك يأمر ويصدر الأوامر ويصيح معترضا:
-"لا تجزعوا من هذا الطريق، هذا الطريق زُوْبَة، ابصروا طريقا غيره"
وكنا نمضي في الطريق "الزُّوْبَة"، ونقول له لكيما يلحق بنا:
- "لا تفكر بعقلك فكر بارجلك".
وكان يتغلب على خوفه ويمضي بعدنا..
وشيئًا فشيئاً تعلم كيف يفكر بقدمية، لكنه وقد تغلب على مخاوفه لم يستطع أن يتغلب على نفسه، وعلى شعوره بذاته، وعلى ذاته المتضخمة.
وكان مازال يتذمر ويصدر أحكاما، ويوزع التهم، وذات مرة قال لنا:
-"إنّا ذلحين .. ما هي الفائدة من هذا كله.. ولِلْمَهْ التعب والفَجَايع"؟
قلنا له: بقدر ما تفكر بقدميك..، وبقدر ما تمشي بمحاذاة الطبيعة، وترى صورتك منعكسة في مرآتها الشاشعة، تغدو إنسانًا شاسعًا، متعدد الأبعاد، محباً، ومتسامحًا، متفهِّماً، ومتواضعًا.. وأهم من هذا كله تنضج، وتصبح شخصا ناضجًا.
وعندها استُفِز وغضب، وصاح قائلا وبكل صوته:
-"أنا محب ومتسامح، ومتفهم ومتواضع، وناضج من قبل أن أعرفكم والتحق بفريقكم".
وحين قلنا له إن كلامه هذا دليل على أنه لم ينضج، زعل أكثر، وراح يذكِّرنا بأنه تربى في الحزب، ونضج وصار قيادياً ومناضلاً يُشارُ إليه بالبنان.
كان يعتبر نفسه رقمًا كبيراً، وشخصًا كثيراً، وأكثر من أعضاء الفريق، لكننا كنا نذكره بعقيدة المشائين، ونقول له إنه ليس ثمة في عقيدة المشي رقم كبير، أو رقم صغير، وأن هدفنا من المشي هو أن نرقى إلى مستوى الصفر، ونتحول بكيمياء المشي من أرقام إلى أصفار.
عندئذ صرخ قائلاً وبغضب:
-" إنَّا ما هي هذي العقيدة حقكم؟! بالله عليكم نمشي كل هذا المشي، ونتعب كل هذا التعب على سِبْ ترجعونا للصفر ؟!
وبدا يومها متوتراً، وزعلاناً، وكنا نحن نضحك ونقول له:
-"أنت لم تنضج بعد، وشايف نفسك فوق الجميع.. ومادام التحقت بفريقنا عليك أن ترتقي إلى مستوى الصفر، وتصبح رجلا صفرا، وتتوقف عن التذمر وعن إصدار الأحكام.
ولأنه كان متورِّمًا ومزدحمًا بذاته..، ويعاني من تضخم الذات، ويعتبر نفسه رقمًا كبيراً وشخصًا كثيراً، وينظر للصفر بازدراء واحتقار، أطلقنا عليه: الرجل الصفر.
وكنا نناديه ونقول له: أين أنت ايها الرجل الصفر؟! تعال أيها الرجل الصفر.. وكان هو يغضب ويزعل، ويقول إنه منذ التحاقه بالمدرسة كان يحتقر الصفر.. ويحتقر التلاميذ الذين يحصلون في الامتحانات على درجة صفر.. وكان يقاطعهم، ويرفض أن يسايرهم، أو يكلمهم، وراح يهدد ويقول إنه سوف يغادر الفريق، ولن يخرج معنا إن نحن واصلنا تصفيره، لكننا قلنا له إن الصفر ملك.. كل الأرقام تحتاج إليه وهو غنيٌ عنها، ووحده الصفر كان، ولم يزل مكتفيا بذاته، ومكتملا بنفسه وشكله الدائري المستدير أكمل الأشكال.
وذات رحلة رأيته يصلي..، وبعد أن انتهى من الصلاة اقترب مني وقال لي:
-"الله حاضر هنا يا كيمو.. شعرتُ بحضوره، وصليتُ وأنا مش من عادتي أصلي".
قلت له: الآن بدأت تقترب من الصفر.
قال متسائلا كيف؟!!
قلت "الله حاضر في الطبيعة بكل جماله وجلاله، وهو سبحانه لا يحضر في معبد ليس من صنعه وإبداعه".
قال: وماذا عن حضوره في المساجد والكنائس والمعابد؟!!
قلت: هناك يحضر الكهنة فقط. ولو أن الناس يخرجون للطبيعة لكفروا بكل الكهنة.
بعد مرور خمس سنوات على التحاقه ب"فريق المشي وتسلق الجبال"، تخرج الرجل الصفر من كلية الطبيعة بدرجة صفر.. وبعد تخرجه صار يضحك من نفسه، ومن غروره، وتضخم ذاته، ومن كل عاهاته، وأصبح في أجمل حالاته.
وبعد أن كان يزعل منا، ويعتقد بأننا نصغِّره ونصفِّره، ونستخف به حين نسميه: الرجل الصفر،
صار يفرح ويشعر بالزهو للتحول الذي حدث له
وفي آخر رحلة لنا سألته وقلت له:
-"قل لي أيها الرجل الصفر؛ ما هو الدرس الذي تعلمته في مدرسة الطبيعة؟!
قال: الاستغناء.
*
أنا الصفرُ
لا شيءَ أكسبُ
لا شيءَ أخسرُ
لي كلُّ شيءٍ
ولا شيءَ لي.