مقالات
حكاية الرّجل الميِّت (الفصل الثالث)
عندما أخبروا القاضي شاهر بعودة سلطان المِلْحْ، لم يصدقهم، وقال لهم مقولته الشهيرة:
-"الموتى لا يرجعون من الموت".
وحين أكدوا له أنه عاد، قال لهم إن عودته دليل على أن خبر موته، الذي وصلهم، لم يكن صحيحا، واقترح عليهم أن يقوموا بزيارته للسلام عليه، وتهنئته بسلامة العودة.
قالوا له: "سلطان -يا قاضي- رجع وهو ميت".
وقال له وكيل الشريعة حمود السَّلتُوم -وقد لاحظ تصميمه على زيارة الرجل الميِّت-:
"ما تنساش -يا قاضي شاهر- أن بينك وبين سلطان ثأر!!".
قال القاضي شاهر - وقد لسعتهُ كلماته حدّ الوجع-:
"مُوْ قدك تخرّف -يا حمود- مُوْ من ثأر بيني وبين سلطان!!".
قال له وكيل الشريعة:
"لو أنت نسيت -يا قاضي- علينا نذكرك؛ كنت طمعان بزوجته غُصُون".
وبعد كلام وكيل الشريعة تردّد القاضي شاهر، وكان على وشك أن يُحجِم عن الذهاب إلى بيت الرجل الميِّت، لكنه شعر بأن التراجع بات صعباً، فكان أن حسم أمره، وذهب لزيارة الرجل الذي طالما حاول أن يقنع زوجته بأن تتركه، وعند وصوله راح يطرق الباب، ويواصل الطَّرق.
وبعد أن يئس، وهمَّ بالانصراف، أطلت غُصُون من نافذة الديوان، وقالت:
"منو يدق الباب؟".
وعندما أبصرها القاضي شاهر تطل من النافذة، وهي بكامل زينتها وأنوثتها، قال لها:
"أنا ياوغُصُون".
قالت غُصُون وكأنها لا تعرفه: "منو أنت؟".
قال لها، وهو مستفز من تجاهلها له: "أنا القاضي شاهر".
وحين سألته عمَّا جاء به، قال لها إنه جاء ليسلِّم على زوجها سلطان المِلْح، ويهنئه بسلامة العودة.
قالت له غُصُون بنبرَة محتدّة ومتعالية، وهي تغلق النافذة:
"سلطان ميِّت يا قاضي".
لحظتها سرت قشعريرة رُعب في جسَده، واستدار راجعا إلى الساحة، وبدا كالمخطوف بلا حس وبلا وعي وبلا حول وبلا قوة.
وحين كانوا يسألونه عمَّا حدث بعد أن ذهب إلى بيت الميِّت، لم يجب عن سؤالهم، وظل شاردا حتى ظنوا أن الميِّت ظهر له وكلَّمَه وهدَّده، لكن القاضي شاهر ما كان سيبدو بتلك الحالة لو أن الميِّت ظهر له وكلمه وهدده.
وأما ما جعله يظهر أمامهم في تلك الحالة المزرية هو أن غُصُوناً أطلَّت من النافذة، وهي بكامل زينتها وأنوثتها، وكان ظهورها الفاتن قد فتنه وسلب عقله.
وفي اليوم التالي، ذهب إلى خالتها قَبُول، وطلب منها أن تذهب إليها، وتتوسط له عندها، وتقنعها بالزواج منه، وتقول لها: "الحي أفضل من الميِّت".
وكانت غُصُون، التي ذوت وضمرت ونحلت وبدت شاحبة شحوب الموتى، قد أصبحت بعد عودة رجلها الميِّت (سلطان المِلْح) أكثر جمالا مما كانت عليه؛ عاد النبض إلى قلبها، والدم إلى عروقها، والابتسامة إلى شفتيها، والروح إلى جسدها.
وبعد أن كانت دوما عابسة، وملامحها حزينة وبائسة ، أضحت، في خلال أسابيع، خضراء مزهرة، ومتوردة الخدود، وفي وجهها فرح طفلة وجدت لعبتها الضائعة، لكنها أثناء خروجها لجلب الماء من النَّبع كانت تخفي فرحها، وتظهر حزنها، وتخرج بملابس بالية ومهترئة أقرب ما تكون إلى الأسمال، وكانت النساء قد رحن يسخرن منها، ومن ملابسها، وكيف أن زوجها الذي انتظرته، عشر سنوات، وأغضبت أمها من أجله لم يحضر لها ثوبا جديدا تلبسه.
أما بعد أن عرفن من جارتها سِفَرجَلة أن الميِّت يضربها كل ليلة، ويوسعها ضربا، فقد ازددن احتقارا لها، وصرن يتعففن من ذكر اسمها، وإذا ذكرنها يذكرنها بصفتها: "زوجة الميِّت".
لكن غُصُونا لم تكترث بمقاطعة نساء القرية لها، وكانت مكتفية برجلها الميِّت، ولاتغادر بيتها، وإذا غادرته تخرج وتعود على عجل، حتى إذا وصلت ووضعت جرَّة الماء في بيت الماء جرت تستلقي بقرب زوجها الميِّت، وتظل تتشمّمه، وتتمسّح به، وتدعك نهديها فوق صدره المالح ملوحة البحر، وتنتظر مجيء الليل لكيما يلعبا معا لعبة "شنق اليهودي فوق العودي".
وبعد أن كانت الأيام والليالي تمر عليها بطيئة، ثقيلة، رتيبة ومُملة، بما في ذلك أيام وليالي العيد غدت كل أيامها ولياليها أعيادا، ولم يحدث أبدا أن شعرت بالملل أو بالرتابة، أو ساورها شعور بالضجر؛ والسبب أن رجلها الميِّت -بعد أن شبع من رؤية العالم والناس- صار ملكها، وصار من حسن حظها أنه عاد إليها، والعالم كله في جعبته.
وبعد أن كانت تكره الليل صار أحب إليها من النهار، وما بين شنقٍ وآخر كان الميِّت يحكي لها حكايات عن البحر، وعن مدن البحر ونساء البحر وعجائب البحر، وهي تصغي وتنصت إلى حديثه، وتستمتع بحكاياته، وتشعر وهو يحكي بقشعريرة لذيذة شبيهة بتلك القشعريرة التي تجتاح جسدها أثناء الجماع.
ومن شدة ما كانت تستمتع بحكاياته، كانت تقول له:
"خبرك -يا سلطان- حالي يخلِّيني أقَشْبِبْ".
كانت تنسحر بحكاياته عن البحر، وتُستَثارُ، وتشعر وهو يحدِّثها عن العالم الواسع بشهوتها تتوقد، وبأنوثتها تتمدد، ويخالجها إحساس بأنها أكثر أنوثة وأكثر سعادة من كل النساء في القرية.
ولم يكن ثمة ما ينغِّص عليها سعادتها سوى نساء مدن البحر. إذ كلما تخيّلت ما كان يفعلهُ سلطان معهنّ يتملّكها شعورٌ بالغيرة منهن، لكنها كانت تعرف كيف توظف تلك الغيرة لصالحها، وكيف تستخدمها وقودا للوصول إلى ذرى نشوتها.
وذات ليلة، كانت صرخاتها من فرط نشوتها قد تخطت حدودها، ووصلت إلى أقصى مدًى لها، حتى إن خالتها قبول حين سمعتها تقول:
-"سلطااااااااااان قتلتني يا سلطان.. سلطاااااااااااان ميّتني يا سلطان.. سلطااااااان ارحمني يا سلطان".
تألمت وبكت، وشعرت بالخوف عليها من الرجل الميَّت، وعزمت على أن تنقذها من زوجها الميِّت سلطان المِلْح.