مقالات

حكاية الرّجل الميِّت (الفصل الثاني)

13/08/2024, 16:52:50

استيقظ الرَّجل الميِّت من نومه وقت غروب الشمس، ووجد زوجته غُصُون تجلس قبالته وهي حزينة وعابسة، وفي  حالة انقباض، وحتى يُدخل الفرح إلى قلبها مسكها من يدها، وراح يقتادها إلى غرفة المفرش؛ ليريها الكنز الذي أحضره لها.

وكان في ظنّه -حين فتح أول صندوق- أن زوجته -حين ترى كل تلك النقود والعُملات الورقية والمعدنية الفضية منها والذهبية- سوف تفرح، وتبتسم، وينفتح وجهها المغلق؛ لكنها راحت تنظر إلى محتويات صندوقه بلا مبالاة، وبدون اكتراث، ولم يصدر عنها ما يشي بالفرح أو الدهشة.

وحينما أبصرها الميِّت غير مكترثة بالمال، الذي جلبه لها، فتح الصندوق الآخر، وكان أكبر من الأول، ويحتوي على عقود من اللؤلؤ والمرجان، وعلى أجمل وأثمن ما هو موجود في دكان البحر، لكنه حين راح يختلس النظر إليها ليرى ردة فعلها، وجدها في حالة شرود تنظر إلى كنزه ببرود، وبدون حماس، ثم فتح الصندوق الثالث والأكبر، وكان مليئا بسبائك من الذهب، وظن الميّت أن الذهب، الذي يخطف لمعانه أبصار وقلوب وأرواح النساء والرجال على السواء، سوف يخطف بصر وقلب وروح زوجته غُصُون، وسوف يثيرها، ويحرِّك مشاعرها، وشهيَّتها، ويفتح وجهها المغلق، ويجعلها تفصح عن مشاعرها، وتنطق وتبتسم وتضحك، لكنه حين راح يختلس النظر إليها وجدها تنظر إلى سبائكه الذهبية بعينين محايدتين، وكأنها تنظر إلى قوالب من الطوب.

 ولشدة ما كان منفعلا وممتعضا وغاضبا، فتح حقيبة مهترئة تشبه الغرارة، وراح يدخل يده فيها، ويخرج محتوياتها، ويلقي بها في أرضية المفرش:
-فساتين، قمصان نوم، مناديل، مقارم، حمالات صدر، كلسونات، صنادل وجوارب، حلي وإكسسوارات، مساحيق وجه ودهانات ومواد تجميل، أمشاط ومرايا وعطورات، إلخ.

وفيما راح الرَّجل الميِّت يلقي بها بازدراء في أرضية المفرش، وكأنه يلقي بنفايات، راحت غُصُون تخطف ما استطاعت من كنزها المبعثر، وتجري باتجاه غرفة نومها، وكأنَّها غير مصدقة أن ذلك الكنز ملكها.

وهناك أمام المرآة، وقفت تخلع  ملابسها، وترتدي ملابس بنات مدن البحر، تجرِّب هذا الفستان ثم تخلعه، وترتدي فستانا آخر وتنظر ادإلى صورتها في المرآة.

وبعد أن ارتدت عددا من الفساتين وخلعتها، ارتدت فستانا أحمر أعجبها، وتناغم مع جسدها، وأثارها، وأبرز تكوُّر نهديها، ثم راحت تسرِّح شعرها،  وترسم وجهها؛ مستخدمة كل المواد والأقلام والألوان، التي أحضرها الرَّجل الميِّت.

وبعد أن وضعت اللمسات الأخيرة، رشت شيئاً من العِطر على عنقها، وفيما بين نهديها.

وحين انتهت، ونظرت إلى صورتها في المرآة، رأت نفسها أجمل مما كانت عليه في ليلة عرسها، وشعرت لحظتها بأن تلك الشهوة التي كبتتها  وحبستها وتحايلت عليها بالصبر والصلاة والدعاء لمدة عشر سنوات تتجمَّع بين ساقيها، وتكاد تحرقها.

ومن غرفة نومها، خرجت تجري باتجاه الديوان، ولديها يقين بأن زوجها سلطان الذي أحضر لها كل ما كانت تحلم به وتتمنَّاه، يستحيل أن يكون ميّتا.

وعند دخولها، ألقت بنفسها فوقه، وراحت تلصق به، وتتمرَّغ فوق صدره المملوح، وتحكي له، وهي تضحك، خبر موته غرقا في البحر.

وقالت له إنها لم تصدِّق الخبر، وإنما كانت تصدِّق قلبها الذي كان يقول لها إنه حي ولم يمت:
"كان قلبي -ياسلطان- يقول لي إنك حيّ، وإنك شترجع لي".

وفيما كانت غُصُون تكلِّمه  وتتمرَّغ فوق صدره المملوح، وتتحسسه بيدها؛ لتتأكد من وجوده بجانبها، كان الرجل الميِّت ينظر إلى المقبرة، وكأنَّ روحه هناك، وكانت هي تواصل الحكي، وتخبره بمعاناتها وصبرها، وانتظارها له طوال عشر سنوات، وكيف أنها كانت تشتاق له، وتتوقع عودته في كل ليلة، وفي كل عيد.

وبعد أن حكت له كل شيء حدث أثناء غيابه، حكت له ما يقوله أهل القرية بعد عودته من أنه عاد ميِّتا، وقالت له، وهي مستمرة في الضحك:
"كلهم بالقرية -الرجال والنسوان- يقولون إنك رجعت من البحر وانت ميِّت".

قال لها سلطان بكلمات ميِّتة لا حياة فيها:
"كلام أهل القرية صحيح -يا غصون- أنا ميِّت".

لكنها، وقد ظنته يمزح، قالت له وهي تواصل الضحك والتمرّغ فوق صدره المملوح:
"أنت رجعت -يا سلطان- لأنك تحبني؛ ولأنني أحبك".

قال لها سلطان الملح بصوتٍ باردٍ منطفئٍ وخالٍ من حرارة المشاعر:
"البحر -يا غصون- لا يعطي دون مقابل؛ ومقابل الكنز الذي أعطاه لي أخذ روحي".
 
قالت غصون -وقد سرت في جسدها قشعريرة رعب-:
"من صدق -يا سلطان- أنت ميِّت والا تفجِّعني؟!!".

قال لها، وملامح وجهه الميّت تشي بصدق كلامه:
"أنا ميِّت -ياغصون- روحي ميّتة؛ قلبي ميّت؛ أحاسيسي، مشاعري، عواطفي، كل شيء داخلي مات".  

قالت له، وقد تملَّكها الرُّعب:
"وحبَّك لي -يا سلطان- قل لي عادك تحبّني أو لا؟!!".

قال لها سلطان الملح إن الحب الذي كان يملأ قلبه مات هو الآخر.

وسألته غُصُون، بصوت مرتعش ومتهدِّج، وكأنَّها غير مصدِّقة أن يكون حُبّه لها قد مات:
"من صدق ما تحبنيش يا سلطان؟!!".

قال لها، وهو ينظر من نافذة الديوان إلى المقبرة:
"الصدق -يا غُصون- ما فيش في قلبي حُب، لا لِك، ولا لأهل القرية، ولا للقرية".

وبعد أن صارحها بموت حُبه لها، سألته غُصون، وهي موجوعة من كلام،  عن السبب في عودته، وعن الفائدة من رجوعه، وعمَّا جعله يرجع إليها وهو ميِّت:
"ولِمَوْ رجعت يا سلطان؟!
مُوْ هِيْ الفائدة من رجوعك وانت ميِّت؟".

قال لها سلطان الملح إنه عاد ليهبها الكنز:
"رجعت -يا غُصُون- من أجل أعطيكِ الكنز".

قالت له، وهي تكاد تنفجر من الألم:
"شُلْ كنزك، مو اعمل بالكنز حقك!! عشر سنين واني صابر ومنتظر لك، عشر سنين واني أذوب مثل الشمعة من شوقي لك، وترجع لي ميِّت، لمو رجعت؟! اللي يموت ما يرجعش، وانت رجعت بس تعذبني، وتحرق قلبي".
 
ومن شدة ما كانت متألمة من زوجها الميِّت، خرجت تجري باتجاه غرفة نومها، ونزعت فستانها، وتخلّصت من زينتها، ورات أنه لا فائدة من أن تتزين لرجل ميِّت.

ومثلما ينكسر الغصن بقوة الرِّيح، انكسرت غُصُون ليلتها بقوة كلمات زوجها، وانكسر فرحها، وانكسرت رغبتها، وانطفأت تلك الجمرة المتوهجة بين ساقيها، وبمجرد أن صعدت إلى سرير نومها  اجتاحتها رغبة عارمة في البكاء؛ بكت شبابها، وضياع عشر سنوات من عمرها، وبكت على أمها التي ماتت وهي تحلم بحفيد يُحْيي ما تبقى من أيامها.

وحتى لا يسمع الجيران صوتها وهي تبكي، خنقت صوت بكائها بالوسادة، وراحت تواصل البكاء، وشعرت غُصُون بعد أن بكت، وذرفت كل تلك الدموع بأنها مازالت تحبّه، وقادرة على أن تواصل العيش معه.

وفيما هي تحدِّث نفسها، وتقلِّب أكثر من فكرة في رأسها، دخل الرجل الميِّت، واقترح عليها أن يلعبا لعبة قبل ادأن تنام؛ لكنها رفضت، وقالت له:
"بي نوم -يا سلطان- خليني أنام، والعب وحدك".

قال لها إن اللعبة يلعبها اثنان، ولا يمكنه أن يلعبها لوحده.

وسألته غُصُون عن ماهية تلك اللعبة، وقالت له:
"مَو هي  اللعبة؟".

قال لها:
"لعبة يلعبها البحارة مع النساء بعد عودتهم من البحر".
 
وحين سألته غُصُون عن اسمها قال لها:
"اسمها: شنق اليهودي فوق العُودِي".

وكان أن توجّست خوفاً، وداخَلها شعور بأن سلطان عاد ليأخذها إلى العالم السُّفلي، وكانت قد سمعت من فَازِعَة أن الرِّجال الذين يموتون يعودون من موتهم لأخذ زوجاتهم؛ خوفا من أن يتزوجن بغيرهم.

وتذكرت كيف أن ناجي البتُول  مات، وعاد من الموت ليأخذ زوجته زَمْزَم، وقالت له:
"لا -يا سلطان- لا".

لكن الفضول غلبها، فوافقت أن تلعب معه، وفي ظنِّها أنهما سيلعبان لعبتهما في غرفة النوم، وفوق السرير، بيد أن الميِّت قال لها إنه لا يستطيع أن يصعد فوق السرير، وطلب منها أن تتبعه إلى الدِّيوان.

وفي الديوان، أخبرها بأن لعبة "شنق اليهودي فوق العودي" لا يمكن لعبها وهما بملابسهما، وطلب منها أن تتعرَّى.

وبعد أن تعرت فُزِعت حين أبصرت نافذة الدِّيوان المطلة على المقبرة مفتوحة، وقالت له:
"قفِّل الطاقة -يا سلطان- اني عُرطُوْط، وأهل المقبرة يبصروني".

كانت تلك أول مرة تتعرَّى في الديوان، والطاقة مفتوحة، وكانت قد سمعت من عجائز القرية أن المراة التي تتعرى أمام عيون أهل المقبرة يستحيل أن تَحبَل، وإن هي حَبِلت وأنجبت يموت المولود لحظة ولادته، لكن رجلها الميِّت رفض أن يغلق النافذة، وقال لها إنه لو أغلق النافذة لن يتمكن من ممارسة اللعبة معها.

وكان الميِّت من حين عودته يجلس قُرب النافذة، ويجد روحه في تلك الريح التي تهب من جهة المقبرة، وحتى تقنعه بإغلاق النافذة، قالت له:
"أني بردان -يا سلطان- قفِّل الطاقة".
 
لكن رجلها الميِّت، بدلا من أن يغلق النافذة مسك بها من رقبتها مثلما يمسك القبطان السفينة من دفّتها، ومثل القبطان وهو يقود سفينته، راح سلطان يقودها إلى شواطئ جزر مجهولة كانت غُصُون تجهلها، ولا تعرف شيئا عنها.

وحتى تلك المناطق البُوْر والميِّتة التي ماتت، وفقدت حساسيتها، خلال فترة غياب زوجها، راح الرجل الميِّت يلامسها، ويُحْيِيْهَا بعد ممات، وعندما بلغ مركز أنوثتها، ولامسه بطرف مِسْبَاره، شعرت غُصُون بلذةٍ تنقضُّ عليها كأنَّها الصاعقة، وتكادُ تُحرقها وتحيلها إلى رماد.

ولشدة ما كانت مستثارة، راحت تصرخ بكل ما لديها من صوت، وتطلب من زوجها الميِّت أن يُسرع في "شنق اليهودي":
"فيسع -يا سلطان- اشنق اليهودي".

لكن الرجل الميِّت كان قد تعلّم في مدرسة البحر بأن السرعة رذيلة، والبطء فضيلة، ثم أن "لعبة شنق اليهودي فوق العودي" لم تكن قد بدأت بعد حتى ينهيها، وظنت غصون أن رجلها سوف يعتليها، ويدخل فيها مثلما كان يفعل قبل ذهابه إلى البحر، غير أن رجلها الميِّت فاجأها، ولعب اللعبة بالمقلوب.

وبدلا من أن يعتليها كما كان يفعل قبل سفره، مسكها من خصرها بكلتا يديه، ورفعها عالياً، وعلّقها فوق عوده اليابس، وتركها هناك لمصيرها، ولم يعد يكترث لها، أو يهمُّهُ أمرها.

وكانت اللعبةُ جديدةً عليها، ومفاجئةً لها، وخارج توقّعاتها، وفيما كان جسدها يتأرجح فوق عوده اليابس تأرجح المشنوق، شعرت غصون بأن روحها على وشك أن تخرج، وراحت تتوسل إليه أن يرحمها، وتصرخ قائلة بكل ما لديها من صوت:
"سلطاااااااان قتلتني يا سلطان،
سلطااااااااااان ميّتني يا سلطان،
سلطاااااااااااااان إرحمني يا سلطان".
 
لكن الرجل الميِّت راح يواصل لعبته معها بشكلٍ آليٍّ، وبلا مشاعرَ وأحاسيسَ، ومن دون رحمةٍ مثلهُ مثل أي جلاد مع الفارق، وهو أن الجلاد يستمتع بتعذيب ضحيّته، ويستلذُّ، أما الرجل الميِّت (سلطان الملح) لم يشعر بأي متعةٍ، ولم يصدر عنه أي تأوّهٍ أو صوتٍ أو حتى كلمة تشي بأنه مستمتع بلعبته..

 ومثل أي ميِّت كان مستلقيا على ظهره، وكان كل شيء فيه قد مات: روحهُ، أحاسيسهُ، مشاعرهُ، وغصون تتأرجح فوق عوده اليابس، وتصيح بكل صوتها، وتتوسل إليه أن يرحمها، ويوقف لعبته.

ولشدة ما كانت تصرخ، تناهت صرخاتها إلى مسامع جارتها سِفَرجَلة، وصعدت هذه إلى سطح بيتها، وراحت تنادي جاراتها، وتوقظهن من نومهن.

وبعد أن صعدن مرعوبات إلى سطوح بيوتهن، رحنَ يسألنها عمَّا دفعها إلى مناداتهن، وإيقاظهن من نومهن، وقلن يسألنها:
"مَو في -يا سفرجلَةْ-، لمو قيمتي نحنا من النوم؟".

قالت لهن سِفَرجَلة، وكان بيتها ملاصِق بيت غُصُون:
"قتلها الميِّت -يا نسوان- قتلها، ميَّتها الميِّت -يا نسوان- ميِّتها".

لكن نساء القرية لم يتعاطفن معها، وقلن إن الخطأ ليس خطأ زوجها الميِّت، الذي عاد من الموت، وإنما هو خطأ غُصُون  التي ردت الخُطَّاب الذين تقدَّموا لها بعد أن وصلها خبر موت زوجها، ولو أنها تزوَّجت ما كان بمقدور ه أن يعود من الموت.

مقالات

الوجْه الآخر للمملَكة

التحوّل والبناء، الذي يجري في السعودية، مُثير للاهتمام، لكن بقدر إثارته للاهتمام يقدم صورًا شديدةَ التناقض في جوانب أخرى.

مقالات

الاستعراض اللغوي والمعرفي

الكثير من الكتابات تشدنا إليها وتدعونا إلى الغَوص في أعماقها، وأساليبها المتباينة والمتنوّعة، وقليل من الكُتاب الذين يستطيعون الإمساك بزمام الأمور، وشَد انتباه القارئ من أول لحظة بالفطرة والثقافة الموسوعيّة، والإبهار المعرفي عن طريق الإبهار اللغوي، واللغة المكثّفة المُوحِية، وتنوُّع أساليب العَرض، ومناقشة قضايا جوهرية تتّصل بالوجود الإنساني، وإشكالياته المُعاصرة.

مقالات

أبو الرُّوتي

مثلما كان البَوْل يسيل منّي لا إرادياً، كان المُخَاط هو الآخر يسيل من أنفي لا إراديا مع الفارق، وهو أن البَوْل يسيل في الليل أثناء النوم، فيما المُخَاط يسيلُ في النهار وأنا يقظ؛ لكنه كان يسيل بطريقةٍ مَرَضيَّةٍ لكأنّ أنفي جُرح ينزف، وكان الذين يَعبُرون من أمام بيتنا -حين يبصرون السائل الفيروزي يجري في سائلة أنفي- يصرخون بي: "اتْمخَّط ياب".

مقالات

فلسطين جرح الإنسانية النازف

لا يمكن في الأصل أن نفّوت عند الحديث عن القضية الفلسطينية حادثة وفاة السنوار الأخيرة التي توجت بعد مسيرة صمود ونضال طويلة أسطورية بالشهادة. وذلك لشيئين واحدٌ منهما حزن الناس العام في الوطن العربي، الذين بكوا عجزهم، وصمت زعمائهم الخاذل للشعب الفلسطيني وقادته الذين تركوا في الأرض الفسيحة مهوى لنيران العدو مواجهين مصيرًا هو أقذر ما يمكن للبشرية أن تصل إليه من الممارسة العدوانية القائمة على سفك الدماء وتدمير المنازل وقتل كل مظاهر الحياة، كل الحياة، شجرها وحجرها وناسها.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.