مقالات
حكاية الزَّمَار سعيد الفاتش (2-2)
لشدّة ما كان الفقيه مقتنعاً بنجاح خطته وصوابها من الناحية الشرعية، هجم على الفاتش لينتزع منه مِزمَارَه، ولِيزيلَ المنكر بيدِه عملا بالحديث الشريف؛ لكن الزمَّار سعيد الفاتش -رغم مرضه- كان مازال قوياً، وكانت يداه مازالتا قادرتين على الضرب والبطش، ثم إنه كان منتبهاً ومتوقّعاً وجاهزاً للرد، وبمجرد أن اندفع الفقيه لينتزع المِزْمَار منه سَلّ مِزْمَارَه المعمول من خشب صلب، وضرب به الفقيه ضربةً في يده، التي امتدت لأخذ مِزمَارِه، لكن تلك الضربة لم تشفَ غليله من الفقيه، الذي ألحق به الكثير من الأذى. ولشدة ما كان موتوراً منه، ضربه ضربةً قويةً في رأسه جعلت الدَّم ينبجس غزيراً، ولحظتها صَرخ الفقيه صرخةً أفزعت وكيل الشريعة حمود السلتوم، والحاج علوان، حتى أنهما بدلا من أن يهجما على الزَمَّار -بحسب الخطة - لاذا بالفرار.
وأما زهر الفاتش، فبعد أن سمعت الفقيه يصرخ بكل صوته، وأبصرت الدم يغسل وجهه، توقفت عن البكاء، وراحت تواسيه، وتعتذر له عما فعله أبوها به، وكان الفقيه يتوجَّع، ويصيح، ويلعن الفاتش، ويهدده، ويتوعَّده بيوم القيامة وبعذاب القبر وعذاب جهنم.
وممّا زاد طين أوجاعه بلَّةً هو أنه عند خروجه تعثَّر في الدّرج بسبب الظلام، وتدحرج إلى الأسفل، وراح يلعن وكيل الشريعة والحاج علوان، اللذين خذلاه، وتركاه لوحده من دون عون، ومن دون ضوء.
بعد خروجهم، نظر سعيد الفاتش إلى ابنته نظرةً فيها الكثير من الغضب، لكن زهر الفاتش -بعد الموقف الذي حصل- شعرت كأنها كانت في غفلة عن أبيها، أو كأنها لم تكن تعرفه، وراحت تسأل نفسها من أين له هذه القوة، وهو المريض، حتى يصرع الفقيه سعيد، الذي يستمد قوته من الله؟!!
وكان أن داهمها شعور بالنَّدم وبالذَّنب، وراحت تلوم نفسها، وتعتذر لأبيها، وتطلب منه أن يسامحها؛ لكونها أفشت سِره.. بَيْدَ أن أباها رفض أن يسامحها، وظل يشيح بوجهه عنها طوال الأيام التي ظل فيها على قيد الحياة.
وفي فجر اليوم الذي فاضت فيها روحه، أجهشت تبكي، ثم ما لبثت أن تذكرت وصيَّته، وتذكرت أنه أوصاها بالفرح والضحك عند موته، بدلا من البكاء.
وحتى تكِّفر عن ذنبها، توقفت عن البكاء، وراحت تضحك من قلبها؛ اعتقادا منها بأن أباها سوف يسامحها إن هو سمعها تضحك وتتصرف بحسب وصيَّته، لكنها أحيانا كانت تضحك وتبكي معا، ثم ما لبثت أن توقفت عن الضحك والبكاء، وراحت تغسله بالماء المبخَّر وبالصابون المعطَّر.
وبعد أن انتهت من غسله، دهنته بسليط الجلجل، وألبسته ملابسه الجديدة تلك التي كان قد اشتراها من مدينة عدن، واحتفظ بها في صندوقه لعرس موته. وبعدئذٍ لفَّت رأسه بالمشدة السلطانية، وغرزت في طياتها "مشقُراً" من الريحان والكاذي.
وحين انتهت من تجهيزه، صعدت إلى سطح البيت، وراحت تصيح بكل صوتها بأن أباها عريس، وأن اليوم يوم عرسه:
- "أبي اليوم عروس.. أبي اليوم عروس".
وكانت النساء مستغربات من قولها إن أباها عروس، ورِحْن يسألن، ويتساءلن قائلات: "كيف تقول عن أبيها عروس، وهو مريض مرض الموت؟!!".
لكن تلاميذه من صبيان وأطفال القرية التقطوا الإشارة، وأقبلوا بالطبول والمزامير، وتجمعوا عند باب البيت، وأما الحمَّار سيف أنعم -بحكم كونه جاراً للزَّمَار- فكان أول من حضر مع حِماره، ولأول مرة في تاريخ "قرية العكابر" يصعد حمارٌ درج البيت إلى ديوان المقيل في الدور الثالث حيث الجثمان. وبمساعدة الفتى أحمد الميدمة، وغيره من الفتيان، رفعه الحمّار سيف أنعم إلى فوق الحِمار، وشدّه بالحبال، واستخدم الحيل نفسها التي علمه الفاتش بها قبل موته، حتى يثبت فوق الحِمَار، فلا يميل لا إلى اليمين ولا إلى اليسار.
كان غالبية الصبيان والأطفال، الذين حضروا وتجمَّعوا عند باب بيت معلمهم، لا يعرفون بالتفاصيل، وكان في ظنِّهم، وهم ينتظرون في الباب، أن معلمهم سوف يخرج من البيت محمولا فوق مِحَفَّة مثله مثل غيره من الموتى، لكنهم عندما أبصروه وهو يخرج من بيته راكبا فوق حِمَار سيف أنعم، ومن دون أن يكون هناك أحدٌ يمسك به انفجروا يضحكون، وحتى أولئك الذين كانوا حزينين وجاهزين للبكاء عليه ضحكوا من قلوبهم، ولم يكونوا يتوقعون أن الرجل الذي أضحكهم وهو حي سوف يضحكهم أكثر وهو ميت.
ومع أن الفاتش كان قد وعدهم، وقال لهم إنه حتى وهو ميت سوف يجعلهم يضحكون، إلا أنهم لم يصدقوه، إذ كيف بمقدوره وهو ميت أن يضحِّكهم، ثم أنهم تفاجأوا بملابسه الجديدة ذات الألوان المشرقة والمفرحة، وأكثر ما فاجأهم تلك المَشَدّة السُّلطانية التي أبصروها لأول مرّة.
ومن باب بيته راحوا يزفونه بالطبول والمزامير، وكان لدى الفاتش أكثر من خمسة عشر مِزمَارا؛ قام بتوزيعها قبل موته على تلاميذه، واحتفظ لنفسه بمزمَارِه الذهبي، وهو المِزمَار الذي أوصى أن يُدفن معه.
وفي طريقهم إلى المقبرة، راحوا يغنُّون، ويزمِلُون، ويزمِّرُون، ويشبِّبُون بشبَّابَاتهم، ويضحكون، ويمرحون، وكلما مشوا مسافة توقفوا يرقصون، وكان منظر الفاتش وهو فوق حِمَار سيف أنعم الضخم، وبالمشدَّة السُّلطانية يلوّح كأنّه سُلطان من السلاطين.
ويومها تفاجأت القرية، وبدت متفاجئة ومرتبكة، ولم تدرِ ما الذي يحدث، وعندما كانت الأمهات والجدات يسألن أولادهن وأحفادهن عن سر الهيصة والضجة وقرع الطبول يقولون لهن:
- "سعيد الفاتش أوصى نِحْنَا نزفُّه للمقبرة بالمرافع".
وكانت الأمهات والجدات يُصبن بالفزع، ويطلبن من أولادهن وأحفادهن أن يتوقفوا عن المشاركة في حفل زفاف الفاتش إلى المقبرة؛ لكنهم كانوا يرفضون، وكان الأطفال أكثر فرحاً، وأكثر حماساً من الكبار.
كان منظر الزمَّار سعيد الفاتش، وهو راكب فوق الحِمَار، يثير ضحكهم، ويثير في الوقت نفسه الهلع والرعب في نفوس أمهاتهم وجداتهم اللاتي لم يستوعبن، ولم يخطر في بالهن أن حادثاً كهذا سيحدث في قريتهن، وفي زمنهن، وسوف يشاهدنه بعيونهن.
ومع أنهن كُن يعرفن أن الفاتش مختلف عن غيره من رجال القرية، إلا أنهن لم يتوقعن أن يُوصي بتلك الوصية، وقلن إن زفاف رجل ميت للمقبرة بالطبول والمزامير ليس سوى "علامة من علامات قُرب قيام الساعة".
كانت القرية يومها قد انشطرت إلى شطرين:
- شطر مع الوصية، وشطر ضدها، لكن أولئك الذين وقفوا ضدها لم يكن بمقدورهم أن يوقفوا موكب الزفاف، وعندما كان الموكب يمر أمام بيوت القرية كان ثمة نساء وصبايا في الشرفات والسطوح يزغردن، ويضحكن، ويستقبلنه بالزغاريد وبالضحكات، وهناك نساء وعجائز يظهرن غاضبات، ويستقبلن الموكب بالسَّب والشتم واللعنات، وكان وكيل الشريعة والحاج علوان والفقيه سعيد وغيرهم من أنصار الفقيه يلقون باللوم على العاقل بجاش، الذي ترك الأمر للأطفال والصبيان، لكن أكثر ما كان يذهل نساء القرية عند مرور الموكب من أمام بيوتهن هو رؤيتهن للزَّمَار سعيد الفاتش وهو راكب فوق حِمَار سيف أنعم الضخم وكأنَّه سُلطان من السَّلاطين.
ومن سقوف بيوتهن، رحن يسألن فازِعة، ويقلن لها:
- "كيف قدر الفاتش يركب فوق الحِمَار -يا فازعة- وهو ميت؟!".
قالت لهن فازعة:
-"الفاتش -يا نسوان- ولي، وأولياء الله يدخلون الجنة راكبين".
وكان الفاتش محبوبا بين نساء القرية، لكنهن يوم موته تفاجأن بوصيَّته الغريبة، ولم يتوقَّعن منه، وهو الذي أفرح الكل، ولم يؤذِ أحداً في حياته، أن يؤذي الموتى يوم موته، ويزعج سكان المقبرة.
وكان كل أولئك الصبيان والأطفال، الذين زفوه إلى المقبرة، قد راحوا -بعد أن انتهوا من دفنه مع مِزمَارِه- يرقصون فوق وحول قبره، ويواصلون الرقص، ولم يعودوا إلى بيوتهم إلا بعد الظهر، وبعد أن قرصهم الجوع.
وفي عصر اليوم نفسه، خرجوا إلى الساحة يرقصون، ويغنُّون، ويواصلون احتفالهم بعرس معلمهم، وكانوا يقولون لكل من ينتقدهم:
- "الفاتش بالجنة يُزَمِّر بالمزمار، والملائكة يرقصون".
لكن الوضع تغيّر عند اقتراب الشمس من الغروب، وأما بعد أن غربت فقد داهم القرية خوف مريع، وحتى الصبيان والأطفال، الذين كانوا فرحين ومنتعشين ومحتفلين؛ لكونهم نفذوا وصيّة معلمهم على أفضل صورة وأكمل وجه، تبخَّر فرحهم بعد غروب الشمس، وانحدرت معنوياتهم إلى الحضيض.
وكعادة الفقيه سعيد، الذي يعرف كيف يوظّف خوف أهل القرية في تكريس سلطته، راح بعد صلاة المغرب يتكلَّم من سقيفة بيته، ويقول بأعلى صوته وبنبرة فيها الكثير من اليقين إن ملائكة سوف تنزل من السماء لتعذِّب سعيد الفاتش عذاب القبر، وإنهم -أي أهل القرية - سوف يسمعون صوت مِزمَارِه وهو يصيح من داخل قبره.
وبعد تلك النبوءة المريعة التي أطلقها الفقيه سعيد من سقيفة بيته؛ سرت قشعريرة رُعب في أجساد أهل القرية كبارهم وصغارهم، وأما العجائز فكُن أكثر رعباً، ومن سقوف بيوتهن رِحْن يسألن الفقيه عما إذا كان الملائكة سوف يعذِّبون المِزمَار!!
فكان رده بأن المِزمَار لن يُعذَّب؛ لأنه جماد، ولا ذنب له، وقال لهن إنه سيقوم وينطق ويصيح ويتكلم، ويشهد أمام الملائكة ضد الفاتش اللعين.
وليلتها، راح أنصار الفقيه سعيد يلعنون الزَّمَار سعيد الفاتش، ويلعنون أنصاره، وكل من شارك في حفل زفافه إلى المقبرة، وأما أهل القرية فلِشِدة ما كانوا خائفين ومصدِّقين نبوءة الفقيه سعيد فقد صعدوا بالفوانيس إلى سطوح بيوتهم، وبقوا إلى ما بعد منتصف الليل، يرهفون آذانهم بانتظار سماع صوت المِزمَار وهو يصيح من داخل القبر.