مقالات
حكاية الطفل مفتاح (2-2)
بعد عودة أمه زبيبة من النبع، وبعد أن أخبرتها نساء القرية بأن ابنها مفتاح ذهب إلى "المِحْدَادَة"، وقت المغرب، جُنّ جُنونها، وازدادت جنوناً بعد أن عرفت أنه ذهب من دون فانوس، ومن دون أن يحشو أذنيه بالعُطْب.
وليلتها رابطت في سقف بيتها، وظلت هناك بين الريح والبرد تنتظر عودة ابنها مفتاح، ومرت الساعة بعد الأخرى ومفتاح لم يعد، ولشدة قلقها وخوفها عليه لم تتعشَّ، ولم تصلِّ صلاتها. وفي منتصف الليل، وقد فقدت الأمل في عودته، راحت تبكيه وتقول إن مغنيات "هيجة المدَّارِين" قد سحرنهُ، وجذبنهُ إليهن بجمال أصواتهن، وأوقعنه في حبائلهن، وراحت -وهي في ذروة حزنها على ابنها- تواصل البكاء، وتقول مخاطبة زوجها هزاع البتول بصوتٍ موجع:
- "مفتاح ضاع.. ضيَّعت ابني يا هزاع.. ارسلته مغرب لا عند ناجي الحداد، وانت داري إنه شجزع هيجة المدّارِين.. قل لي كيف سخيت ترسله، وهو ابنك مش هو زنوة ولا زنيتو به!!".
وشعرت زبيبة بمدى حب ابنها لها، وكيف انه لخوفه من أن يطلقها أبوه خاطر وغامر وذهب إلى المِحدَادَة وقت المغرب، رغم معرفته بأن الجِنّيات المغنيات في هيجة المدَارِين سوف يوقعنه في حبائلهن، ويأسرنه بحبال أصواتهن الحريرية، وكان أن فاقم ذلك من حزنها، ومن غضبها على زوجها هزاع البتول، وواصلت قائلة:
- "طلقني مو اجلس اعمل معك بعد ما ضاع مفتاح ابني!!".
قال لها زوجها هزاع في محاولة منه لتهدئتها:
- "لا تصدقي كلام أمك جُلُوْبْ ما في لا جن ولا جِنّيات، أمك أفسدت عقلك، وعقل مفتاح ابني بحقها الخرافات".
لكن زبيبة راحت تذكِّر زوجها الذي لا يصدِّق بالجن، ولا يؤمن بوجودهم بالصخرة العظيمة، التي وضعها الجن أمام بيته، وقالت له إن إنكاره وجود الجن جعل الجن يأتون بتلك الصخرة العظيمة، ويضعونها أمام بيته، وأنه بدلا من أن يرضيهم ويذبح لهم، ويعشِّيهم ليزيحوا صخرتهم من أمام بيته راح يكابر، ويتحداهم، ويواصل استفزازهم، ويرسل ابنه ليأتيه بالمطرقة، كيما يحطم صخرتهم:
- "بدل ما تراضي بهم، وتذبح لهم، وتعشِّيهم، أرسلت مفتاح يندي لك المطرقة تكسِّر دُقْمَهُم".
قال لها هزاع، وهو منزعج من كلامها:
- "جزعت كل الهِيَج -يا زبيبة- من عادنا زغير، وازغر من مفتاح ابني، ولا لقيت جني، ولا سمعت جنية تغني، ذلحين وأنا بآخر عمري تشتينا أصدقك أن الدُّقم طرحوه الجن قدام بيتي، وأن الجنيات المغنيات خطفين مفتاح ابني!!".
لكن زبيبة كانت قد فقدت الأمل بعودة ابنها مفتاح، وظلت في سقف بيتها بين البرد، ورفضت تنزل غرفة نومها. ولخوفه عليها من برد الهزيع الأخير من الليل أحضر لها بطانية، وعاد إلى غرفة نومه.. ولشدة شعوره بالذنب ظل يتقلّب، ويتعذّب فوق الفراش، ويفكر بابنه مفتاح. وشعر لحظتها بحبٍ عارمٍ نحوه، وقطع عهدا على نفسه بأنه مرة أخرى لن يقطع لعبه، ولن يطلب منه شيئاً وهو يلعب مع أترابه، وإنما سيتركه يلعب ويشبع حاجته إلى اللعب. وتذكر هزاع البتول كيف أنه، وهو طفل بعمر ابنه مفتاح، كان يضيق ويتضايق من أبيه حين يناديه لأمرٍ ما وهو منغمس باللعب، لكنه في قرارة نفسه شعر بأنه أخطأ حين أرسله وقت المغرب بدون ضوء.
ومن شدة حزنه وخوفه من أن يكون قد حدث له مكروه طفرت الدّموع من عينيه، واغتسل وجهه بدموعه، وما لبث أن شعر بالنعاس ونام نوما عميقا، وأما زوجته زبيبة فلم تذق طعم النوم، وما كان بمقدورها أن تنام.
وفي الصباح الباكر، انطلقت باتجاه المِحْدَادَة، وعند وصولها بيت ناجي الحداد تفاجأ الرجل بمجيئها باكرا، واستغرب، وقبل أن يسألها عن حاجتها سألته عن مفتاح ابنها، وقالت له:
- "أين هو مفتاح ابني ياناجي؟!".
لكن ناجي الحداد رد على سؤالها بسؤال آخر، وقال لها:
- "أيحين أجا مفتاح لا عندي؟".
قالت له، وهي تكاد تسقط من هول الصدمة:
-"أبوه أرسله أمس المغرب لا عندك تندي له المطرقة".
قال ناجي الحداد، وهو لا يكاد يصدق ما يسمعه:
- "يرسل ابن جاهل لا عندي وقت المغرب!! مو هو مجنون!! انا نفسي عمري ما جزعت، هيجة المَدّارين بعد المغرب..
لكن هزاع -ربنا يهديه- من حين عرفته، وهو منكر الجن.. الله ذكرهم بالقرأن، وهو ولا راضي يصدِّق".
كان يتكلم معتقدا بأن زبيبة تسمعه، لكن زبيبة كانت لحظتها تسمع الجِنّيات المغنيات في هيجة المَدّارين وهن يصدحن بالغناء، وتتخيل ابنها مفتاح وهو يصغي لهن، وينسحر بجمال أصواتهن ويمضي خلفهن.
ومن المِحدادة، عادت زبيبة وهي في ذروة الألم، وكان صوتها -وهي تبكي وتُعْوِلُ وتُوَلْوِل- قد سبقها، ووصل إلى كل بيت، وبعد عودتها قام هزاع البتُول من نومه على صوت بكائها، ومضى إلى هيجة المَدّارين؛ لاعتقاده بأن ابنه سقط فيها بسبب الظلام.. لكنه بعد أن نزل إلى قاع الهاوية، ولم يجده، تأكد لجميع أهل القرية أنه لم يسقط في هيجة المَدّارين بسبب الظلام، وإنما انسحر بجمال أصوات الجِنٍيات المغنيات، واقتفى أثر أصواتهن ولحق بهن، والتحق بعالمهن.
وبعد غروب شمس اليوم، ذهبت أمه زبيبة إلى "هيجة المَدّارين"، وعند وصولها وقفت على شفير الهاوية وصاحت بكل صوتها تناديه:
- "مفتااااااااااح".
وسمعت صوته يجاوبها، ويقول لها:
- "أماااااااااااااه".
وراحت زبيبة تجهش بالبكاء وتعيد النداء:
- "مفتاااااااااااح".
وسمعته للمرة الثانية يجاوبها، ثم للمرة الثالثة.. وفي مغرب اليوم التالي، ذهبت ثانية بصحبة عدد من نساء القرية، وعند وصولهن، اقتربت زبيبة من حافة الهاوية، وطلبت من النساء اللاتي جئن معها أن يقتربن من الحافة؛ ليسمعن صوته:
- "مفتاااااااااااااح".
وجاء رده سريعا، لكأنه كان ينتظرها: "أماااااااااااااه".
وحين تناهى إلى مسامعهن صوته، تأثرن وأجهشن بالبكاء، وبعد عودتهن رحن يخبرن بقية نساء القرية بأن الطفل مفتاح حي، وأنهن سمعن صوته، وهو يرد على أمه زبيبة.
وفي اليوم الثالث، خرج مع زبيبة عدد أكبر من النساء، وخرج الأطفال مع أمهاتهم، وخرج أتراب مفتاح، وأكدوا أن الصوت الذي تناهى إلى مسامعهم كان صوته.
وفي مغرب اليوم الرابع، خرج معها الفقيه سعيد، والحاج علوان، ووكيل الشريعة حمود السَّلْتُوم، وغيرهم من أنصار الفقيه، وشهدوا بأنهم سمعوا صوت الطفل مفتاح وهو يجاوب أمه زبيبة، وعادوا من "هيجة المَدّارِين"، وهم على يقين بأن مفتاح حي، وأن باستطاعة هزاع البتول أن يسترجعه فيما لو أصلح علاقته بالجن، وآمن بهم، واعترف بوجودهم، وذبح لهم، وعشَّاهم، وعقد صلحا معهم.
وفي صباح اليوم التالي، ذهب إليه الفقيه سعيد مع أنصاره، وأكد له الخبر، وطلب منه أن يُرضي الجن، ويذبح لهم، ويعشِّيهم؛ حتى يعيدوا له ابنه، ويسحبوا صخرتهم من أمام بيته..
لكن هزاع البتول سخر من كلام الفقيه سعيد، وبدلا من أن يعمل بنصيحته، ويرضي الجن، ويتصالح معهم، ويعشّيهم، ويعترف بوجودهم، راح يتحدّاهم، ويدك صخرتهم بالمطرقة.
وعندما عرف أهل القرية بأن هزاع البتول ينوي تحطيم صخرة الجن، خالجهم شعور بالرعب، ومن سقيفة بيته راح الفقيه سعيد يطلب من أهل القرية أن يمسكوا به، وينتزعوا المطرقة منه، ويصرخ قائلا بكل صوته:
- "هزاع تجنن".
وقال موجها كلامه له:
- "يا هزاع، هذا دُقْم الجن، ولو جا ألف هزاع، وكل واحد منهم معه مطرقة، مثل مطرقة ناجي الحداد، ما يقدرو ا يكسروه".
وكانت زبيبة زوجته تبكي وتتوسل إليه أن يتوقف عن تحطيم صخرة الجن، وتقول له:
- "يا هزاع، أني فدا لك خلي دُقْم الجن للجن.. سألتك بابننا مفتاح لا تزيد تضيِّعني وتضيِّع نفسك".
وعندما أبصر هزاع دموعها، توقف ووضع المطرقة جانبا، وظن أهل القرية أنه خاف من أن يلحق به الجن الأذى.
كانت القرية حينها قد انقسمت إلى ثلاث فِرق:
-فرقة غالبيتها من النساء والعجائز تقول إن الجنيات المغنيات خطفنه بجمال أصواتهن.
-وفرقة غالبيتها من الرجال، وعلى رأسها الفقيه سعيد، تقول إن الجن هم الذين خطفوه لينتقموا من أبيه هزاع البتول، الذي لا يؤمن بوجودهم، ولا يصدق كلام الله، الذي خلق الجن والإنس.
-وفرقة ثالثة، على رأسها فَازِعة عَالِم، وكانت فَازِعة تقول للأم زبيبة:
- "مفتاح مات -يا زبيبة- وربنا يرحمه".
لكن زبيبة زعلت منها، وقالت لها إن الفقيه سعيد والحاج علوان ووكيل الشريعة حمود السلتوم ذهبوا معها إلى "هيجة المَدّارين"، وسمعوا صوته وهو يجاوبها، وطلبت منها أن تأتي معها لتتأكد بنفسها ، غير أن فَازِعة كانت مثل هزاع البتول لا تؤمن بوجود الجن، ولا تصدق كل ما يُحكى عنهم، وعن الجنيات المغنيات، وكذا لم تصدق بأن الجن هم من نقل الصخرة إلى أمام بيت هزاع البتول..
ثم وقد انقسمت القرية، واحتدم الجدل، قالت شُموع زوجة "المُخَرْدَع الكبير" إن المُسَفِّلة غُيُوم عَالِم هي التي بمقدورها أن تقول الكلمة الفصل، وذلك بنزولها إلى العالم السفلي.
وصادف أن المُسَفِّلة غُيوم وجدت الطفل مفتاح بين الموتى، وأخبرته بأن أمه تبكي عليه؛ اعتقادا منها بأن جِنّيات "هيجة المَدّارِين" المغنيات سحرنه بأصواتهن؛ لكن الطفل مفتاح ضحك من كلامها، وقال لها:
- "أبي -يا غيوم- أكبر جني، كان يقول لي مافيش جن، ولا في جنّيات، وأنا ما كنتوش أصدّقه، أصدّق جدتي جُلُوب".
وحين سألته عن سبب موته، قال لها:
-"غُدْرَة -يا غيوم- ما كنتوش أوْهِنْ قدامي، ولو كُنْتُو شلَّيتُو معي فانوس، كنتو شرجع للبيت، ومعي المطرقة".
قالت له المُسَفّلة غُيوم إن أباه نزل إلى اسفل هيجة المَدّارِين ولم يجده:
- "أبوك -يا مفتاح- نزل لأسُفَلْ هيجة المَدّارين يدوِّر لك، وما لقَوْكْشْ".
وأخبرها مفتاح بأنه لم يسقط في هيجة المَدّارين، وإنما سقط في الهاوية، التي خلف بيت ناجي الحداد.
واستغربت غُيوم من كلامه، وقالت له:
- "موجزَّعك الضَّاحة، وهي ورا البيت؟!".
قال لها مفتاح إنه بعد وصوله قرية الحَدَادين، وبسب الظلام، أخطأ في التقدير، وبدلا من أن يأتي من أمام البيت أتى من الخلف، ولم يدرِ بنفسه إلاّ وقد سقط في الهاوية.
وبعد عودتها من العالم السفلي، تحدثت المُسَفِّلة غيوم بكل ما دار بينها وبين الطفل مفتاح، وحين أكدت خبر موته، زعل منها الفقيه سعيد وأنصاره، وزعلت زبيبة أم مفتاح، وكانت زبيبة تعيش على أمل أن ابنها حي، وقد يرجع إليها فيما لو أن زوجها هزاع عمل بنصيحة الفقيه سعيد، وآمن بوجود الجن، وذبح لهم، وعشَّاهم، وتصالح معهم.
وفي اليوم نفسه، الذي عادت فيه المُسَفِّلة غُيوم عَالِم من العَالَم السفلي، ذهبت زبيبة وقت المغرب إلى هيجة المَدّارين، ووقفت على حافة الهاوية، وراحت كعادتها تنادي ابنها:
- "مفتااااااح، يا مفتااااااااااح".
لكن مفتاح لم يرد يومها على أمه، ولم يُسمِعها صوته..
وفي اليوم التالي، ذهب هزاع البتول إلى المِحدَادة، وهبط إلى قاع الضاحة الواقعة خلف قرية الحَدَادين، وعاد منها بجثمان ابنه مفتاح، وبعد عودته انفجرت زبيبة تبكيه بصوت موجع، لكن موته أخرجها من وهمها، وأعاد إليها توازنها.
ثم وقد تم دفنه، راح هزاع البتول يهوي بمطرقته على الصخرة الكابوس، وسط صياح وصخب أهل القرية، الذين راحوا يحاولون منعه؛ لاعتقادهم بأن الجن فيما لو حطّم صخرتهم لن ينتقموا منه هذه المرَّة، وإنما سينتقمون من أهل القرية، الذين وقفوا ساكتين، لكن هزاع البتول حين اقتربوا منه بهدف انتزاع المطرقة منه ومنعه من تحطيم الصخرة، قال لهم مهدداً، وهو يلوِّح بالمطرقة:
- "والله لو واحد يقرب منكم لا أكسر رأسه بالمطرقة".
قال لهم ذلك، وراح يهوي بالمطرقة على الصخرة بكل قوته، وكان يحطمها كما لو أنه يحطم خرافةً وليس صخرةً.. وبعد مرور سبعة أيام، أفاقت القرية ذات صباح على أصوات الأطفال، وهم يصرخون قائلين، بكل ما لديهم من صوت:
-"هزا ع البتول كسَّر دُقْمْ الجن .. هزاع أكبر جني".
* الدُّقْم: الصخرة العظيمة.. والجمع: دِقَامَة