مقالات

حكاية تُمُوْرْ عبد اللطيف مع سيف الطحَّان

02/07/2024, 16:15:42

قبل عيد الأضحى بيوم، أو ربما بيومين، وفيما كانت تُمُور عبد اللطيف تغطُّ في النوم، استيقظت من نومها، منتصف الليل، على صوت طرقاتٍ على الباب، ومن  غرفة نومها خرجت إلى الديوان، وفتحت  النافذة، وأطلت برأسها، وراحت تسال:
"مِنُو يدق الباب؟".

-"أنا يا تُمُور"، رد الشخص الذي يطرق الباب.

قالت تُمُور: "مِنُو أنت؟".

قال لها: "أنا زوجك سيف الدحَّان".

وعندما سمعته يقول لها إنه زوجها سيف الدحَّان كادت  تذوب من شدة فرحها بعودة زوجها، الذي غاب عنها قرابة عشرين عاما، ولشدة ما كانت فرحة بعودته ارتبكت، ولم تدرِ ماذا تفعل!! ولا كيف تتصرف!!

لكنها وقد راح يواصل الطَّرق، ويناديها باسمها، أشعلت الفانوس، وهبطت الدرج.
وبعد أن فتحت الباب، راحت على ضوء فانوسها تفحص الرجل الذي يقول إنه زوجها.. وبعد أن تفحَّصته جيدا تبين لها أنه ليس زوجها، وعندئذٍ انطفأ فانوس الفرح في عينيها، وقالت له، وهي تدلف إلى الداخل:
"صورتك ثاني مش هو أنت سيف الدحّان زوجي".

قالت له ذلك، وعادت إلى غرفة نومها، وهي منكسرة وحزينة، وبعد أن صعدت إلى سريرها احتضنت وسادتها، وأجهشت تبكي بحرقةٍ وألمٍ شديدين، لكن الرجل الذي يدَّعي بأنه زوجها راح يواصل طرق الباب، ويقسم بأنه سيف الدحَّان زوجها، وحين تناهى إلى مسامع جازم الدحَّان أصوات الطرقات، أخرج رأسه من شباك غرفة نومه، وراح يسأل تُمُور عمن يكون هذا المزعج الذي يقرع باب بيتها، وتسبب في إيقاظه من نومه:
"مِنُو هذا الذي يدق باب بيتك يا تمور؟!".

قال الرجل: "أنا".

قال له جازم الدحّان: "مِنُو أنت؟!".

قال الرجل: "أول قل لي:  مِنُو أنت؟!".

قال جازم الدحَّان: "أنا جازم الدحَّان".
وصاح الرجل قائلا:
"جازم الدحان ابن عمي.. أنافدا لك يا جازم".

قال جازم الدحّان: "وأنت مِنُو؟".

قال الرجل: "أنا سيف الدحان ابن عمك، وزوج تمور".
وأخبره بأنه طرق باب بيته، لكن تمور زوجته لطول غيابه لم تعرفه، ولم تصدق أنه سيف الدحَّان، ورفضت أن تسمح له بالدخول.

وفرح جازم بعودة ابن عمه سيف الدحان، وخرج يجري من بيته، ومعه الفانوس، وبه غضب من تمور عبد اللطيف، التي لم تحترم زوجها، ولم تفتح له الباب، وظن جازم الدحان أنها فعلت ذلك لكونها غاضبة من زوجها، الذي غاب عنها قُرابة عشرين عاما، ثم وقد سلّم عليه، وعانقه، ورحَّب بعودته، راح -لشدة غضبه- يدق الباب بقوة، ويصيح مناديا تمور بكل صوته:
"تُمُوووور، يا تُمُوووووور، افتحي الباب لزوجك".

وعندما سمعت تُمُور جازم الدحَّان يناديها، توقفت عن البكاء، ومسحت دموعها، وخرجت إلى الديوان، وسألته، وهي تطل برأسها من النافذة، عما يريده منها، وقالت له:
"مو تِشِهْ يا جازم؟!".

قال لها جازم الدحَّان بنبرة محتدَّة:
"افتحي الباب لزوجك.. ليش ما تفتحي له؟!".

قالت له تمور: "مش هو زوجي يا جازم".
 
قال لها جازم، وهو أكثر غضبا:
"قلت لك افتحي الباب لزوجك، واسمعي الكلام، لو أنتي زعلان منه خلَّو يدخل أول، وبعدما يدخل ازعلي، واعملي اللي برأسك".

قالت له تمور:
"كيف اخلُّوْهْ يدخل يرقد عندي -يا جازم- ومِشْ هُوْ زوجي!!".

قال لها جازم:
"مو درَّيْكْ إنه مش هُوْ زوجك؟!".
 
وأخبرته تمور بأنها خرجت، وتبيّن لها على ضوء الفانوس بأنه ليس زوجها.

وبعد كلام تمور، راح جازم يرفع فانوسه إلى مستوى كتفه ليرى وجه الرجل الذي يقول إنه ابن عمه سيف الدحّان، وزوج تمور، وبعد أن تفحَّصه جيدا بدا محتارا، وقال بينه وبين نفسه:
"والله ما نا داري هُوْ والا مِشْ هُوْ!!".

وقال للرجل الذي يدّعي انه ابن عمه سيف الدحان:
"يا بن عمي يا سيف، أنا مُوْ دَرَّانا إنك سيف الدحان زوج تمور عبد اللطيف، لكن ادخل ارقد عندي الليلة، وبكرة الصُّبْح نشوف أنت هُوْ والاّ مِشْ هُوْ؟!".

وفي بيت جازم الدحّان، نام الرجل، وفي الصباح خرجا إلى ساحة القرية، وكان يوم الوقفة، وتحلق أهل القرية حول جازم يسألونه عن الرجل الغريب، ويقولون له:
 "منو هذا يا جازم؟".

قال لهم جازم الدحَّان:
"هذا سيف الدحان ابن عمي، وزوج تمور عبد اللطيف".

لكن أهل القرية انكروا إنه سيف الدحان، وقالوا له:
"هذا -يا جازم- مش هُوْ سيف الدحان، ولا حتى يشبهه".
 
كان الرجل نحيلا وطويلا، وصلعة رأسه مكتملة كأنها القمر ليلة اكتماله، فيما زوج تمور كان معتدل القامة سمينا، وكان شعر رأسه غزيرا، ويومها اجمع اهل القرية بأن الرجل الذي يدَّعي بأن سيف الدحان لا يشبه سيف الدحان بالمرّة.
وفيما هم في جدل، جاء عبد اللطيف أب تمور، وأول ما وصل قالوا له:
"هذا الرجَّال -يا عبد اللطيف- يقول إنه سيف الدحان زوج بنتك تمور".

و اقترب الرجل من عبد اللطيف، وسلم عليه، وقبَّل رأسه، لكن عبد اللطيف، وهو يتفرّس في وجهه، قال لهم:
"هذا مش هو سيف الدحان زوج بنتي تمور".

ثم التفت ناحية الرجل، وقال له:
"قل لنا الصدق: منو أنت؟".
   
قال له الرجل:
"يا عم عبد اللطيف، والله إننا سيف الدحان زوج بنتك تمور".

وظل يحلف ويقسم بأنه سيف الدحان زوج بنته، وعبد اللطيف ينكر، ويقول له:
"سيف الدحان ثاني، وانت ثاني، حرام الكذب".

وبعد أن أنكره عبداللطيف وجميع أهل القرية، قال لهم:
"الناس كلهم يسافروا ويتغيروا ويرجعوا وصورهم تغيرت وتبدلت.. أنا كنت بشعر، وصلَّعت، وكنت سمين وضعفت، لكن أنا داري ما هو السبب الذي خلاكم ما تصدقوناش!!".

وحين سألوه عن السبب، قال لهم:
"السبب هو أننا رجعت من البحر فقير، ولو كنت رجعت غني كنتم با تصدقونا".

وما لبث أن راح يجهش بالبكاء بصوتٍ موجعٍ، ويقول لهم:
"حرام عليكم تحرمونا من زوجتي بعد غربة عشرين سنة".
 
وحدث أن فتيان القرية، الذين  ولدوا بعد سفر سيف الدحان تأثروا ببكائه، وبدأوا يصدقونه، ويتعاطفون معه، ثم إن الأستاذ عبد الباقي نعمان، وقد تأثر هو الآخر ببكاء الرجل، قال لهم:
"يا جماعة، نحنا لو سافر واحد من أولادنا إلى عدن وجلس سنة يرجع وقد تغيرت صورته، وتغير شكله، وصوته، وحتى كلامه يتغير، وأول ما يرجع للقرية نشك إنه ابننا، وهذا غاب عشرين سنة مش سنة ولا سنتين، وفي العشرين السنة  تتبدل دول، وتتزحزح جبال من أماكنها".

وبعد كلام الأستاذ عبد الباقي نعمان، تزايد عدد المتعاطفين مع الرجل الذي يدعي أنه زوج تمور عبد اللطيف، وقالوا:
"كلام الأستاذ عبد الباقي صحيح.. الرجل غاب عشرين سنة مش قليل، وفي العشرين السنة تتبدل دول، وتتزحزح جبال".

وحدث أن انقسم أهل القرية يومها إلى فريقين، وما لبث الجدل أنِ احتدم بينهم، لكن المتعاطفين منهم نصحوه بالذهاب إلى الفقيه؛ كونه الفاهم بالشرع والعارف بالحلال والحرام، وقالوا له:
"روح -يا سيف- اشتكي عند الفقيه سعيد".

وبعد أن أصغى الفقيه سعيد إلى شكواه، طلب حضور تمور وحضور أبيها، وبعد حضورهما، سأل تمور وقال لها:
"هل هذا -يا تمور- سيف الدحان زوجك؟".
 
قالت تمور:
"مش هو زوجي يا فقيه".

وبعد أن انكرت تمور إنه زوجها، قال لها الفقيه:
"كيف عرفتِ -يا تمور- إنه مش هو زوجك!!".

قالت تمور: "آذا أصلع وضعيف وزوجي سمين ومش هو أصلع، وآذا طويل وزوجي لا طويل ولا قصير".

قال الفقيه: "عشرين سنة -يا تمور- مش هي قليل، والإنسان لا يبقى كما هو، ولا شيء يدوم، وهذي سنة الله في خلقه، واحمدي الله إنه رجع لك؛ بعضهم يسافر وما يرجع".

ثم التفت ناحية الرجل الذي يدّعي أنه سيف الدحان، وقال له:
"تحلف يمين -يا سيف الدحان- بأنك سيف الدحان زوج تمور عبد اللطيف؟!".
 
وحلف الرجل يمينا بأنه سيف الدحان زوج تمور عبد اللطيف،  وقال له:
"الزمن -يا فقيه- جِزع فوقي مثل السكين، وجزع فوق تمور مثل جزعة المطر، وجزعة نبي الله الخَضِر، أنا تعبت بالغربة،  وهي صورتها ما شاء الله عليها، مثلما أبصرتها ليلة عرسها".

وفرحت تُمُور بكلامه، لكن كلامه هذا أغضب أباها عبد اللطيف، ومن شدة غضبه صرخ قائلا:
"هذا -يا فقيه- سيف الطحَّان مش هو سيف الدحَّان".

قال له الفقيه:
"يا عبد اللطيف، الرجل حلف يمين، وما دام قد حلف يمين، خلاص".

قال عبد اللطيف: "والله لو يحلف مئة يمين ما أصدقه".

قال الرجل، الذي يدعي بأنه سيف الدحان، مخاطبا الفقيه بأن هناك في جسده علامة لا أحد يعرفها غير زوجته تمور، وطلب السماح له بأن ينفرد بها لمدة خمس دقائق ليريها العلامة، وليذكِّرها بكلام قال إنها كانت تقوله له عندما كانا يختليان ببعضهما.

وفرح الفقيه بالفكرة، وقال  مخاطبا عبد اللطيف، أب تمور:
"الزمن -يا عبد اللطيف- يغيِّرنا من الخارج، ويغيِّر صورنا وأشكالنا، لكن من الداخل نبقى مثلما كنا، ولا نتغير، والرأي عندي أن نتركهم لوحدهم خمس دقائق".

وفيما كان الفقيه منتشيا بكلامه عن دور الزمن، صاح عبداللطيف قائلا:
"مش أنا مجنون -يا فقيه- اسمح لرجل غريب يختلي ببنتي".
 
لكن فقيه القرية راح يحشره في زاوية فقهية، ويستشهد  بكلام للفقهاء، وقال له:
"الزوجة وحدها تعرف جسد زوجها، وتعرف ما فيه من ندوب وعلامات وعاهات، وهي خمس دقائق -يا عبد اللطيف-  وتمور مش هي جاهل؛ أول ما يوريها العلامة با تعرف هل هو سيف الدحان أو مش هو".

وعندئذ رضخ أبوها ووافق.. وبعد موافقته، تم وضع ساتر من القماش، وطلب الفقيه من تمور أن تتوارى مع الرجل خلف الساتر ليريها العلامة، التي تثبت أنه سيف الدحان زوجها، وليس شخصا آخر.
 
وبعد أن اختليا ببعضهما، أظهر الرجل لها العلامة، وقال لها:
"هُوْ -يا تمور- والاَّ مِشْ هُوْ؟!".

قالت تمور:
"مِشْ هُوْ".
 
قال لها:
"كيف عرفتِ إنه مش هو!!".

قالت: "حق سيف زغير وحقك كبير".

قال لها: "هو نفسه بس انا كبرت، وهو كبر معي".

وراحت تمور تهدده بأنها سوف تصرخ وتفضحه، وقالت له:
"والله لا أصيِّح بكل صوتي وافضِّح بك".

وكانت على وشك أن تصرخ لكن سيف الطحَّان كمم فمها  ولزَّها عرض الحائط وأولجَ فيها، ثم أنها وهي المحرومة قرابة عشرين عاما، شعرت بلذة تنقض عليها، وتعطل عقلها، وتشل إرادتها، وتنقلها من الواقع إلى الحلم، ومن العادي إلى الخارق.

قال لها الفقيه من خلف الساتر، وقد مرت خمس دقائق:
"اتكلمي -يا تمور- وقولي لي: هُوْ والاّ مِشْ هُوْ؟!".

قالت له تمور، وقد فقدت وعيها:
"هُوْ هُوْ -يا فقيه- هُوْ".

قال الفقيه لأبيها: "هُوْ -يا عبد اللطيف- هُوْ".

لكن عبد اللطيف أراد أن يتأكد بنفسه، وقال لها:
"يا بنتي يا تمور قولي لي: هُوْ والا مش هُوْ؟!".

قالت له تمور، وهي تقترب من ذروة نشوتها:
"هُوْهُوْ يابا هُوْهُوْهوهوهووووو".

وليلتها، وكانت ليلة عيد، نام الرجل مع تمور، وظل معها طوال أيام وليالي العيد، ولم يخرج.

وفي نهاية أيام العيد خرج ولم يعد، ولم يجدوا له أثرا، وبعد اختفائه راح أبوها عبد اللطيف يلعنها، ويلعن الفقيه الذي سهَّل له المهمة.

ومن شدة غضبه، اندفع يضربها، ويقول لها:
"أين الهُوْ هُوْ يا تمور؟ أين سرح؟! أين هُوْ؟!".

وكانت تمور تبكي، وتقسم لأبيها بأنه زوجها سيف الدحان:
"والله انه هُوْ يابا، والله انه سيف الدحان".
 
وأبوها يواصل ضربها، ويقول لها:
"هذا سيف الطحان مش هو سيف الدحان زوجك".
 
كان غاضبا منها، واكثر غضبا من الفقيه، وكان ما ينفك يتهمه ويقول لأهل القرية:
"الفقيه هو السبب".
 
وكل يوم راح عبد اللطيف يواصل ضرب ابنته تمور، والناس يراجعونه، ويقولون له:
"يا عبد اللطيف، خلاص حدث ما حدث، والمسامح كريم، وربنا غفور رحيم".

وبعد مرور خمس سنوات على اختفاء سيف الطحان، عاد زوجها سيف الدحان بعد غياب دام خمسة وعشرين عاما، وعند وصوله تفاجأ بأن له بنتا عمرها خمسة أعوام.

مقالات

حكاية الرَّجل المَيِّت (الفصل الخامس)

عندما عرَف أهل القرية من سُفَرجَلة أن عساكر الدولة لاذوا بالفرار، داخلهم شعور بالخوف من الرجل المَيِّت، وأولئك الذين كانوا غير مصدقين بأن سلطان المِلْح عاد من البحر ميِّتا صدقوا بعد هروب العسكر، وقالوا:

مقالات

حرب إيرانية رسمية ضد اليمن.. ما رد الفعل؟

قبل أيام أعلنت الحكومة الإيرانية تعيين سفير جديد لدى مليشيا الحوثيين في صنعاء. لاحقاً جرى استقبال السفير رسمياً في القصر الرئاسي، وفُرش له السجاد الأحمر، واستعرض حرس الشرف. لا يمكن قراءة الأمر إلا باعتباره تصعيداً إيرانياً، أو أنه عودة إلى نقطة البداية، باعتبار طهران ما زالت تخوض حرباً ضد الحكومة اليمنية.

مقالات

"سلطان الغناء اللحجي"

الغناء اللحجي يبث فيك الفرح حتى لو كنت تعاني سكرات الموت. ينتَعك من رتابتك وجمودك، ويوقظ فيك نشوة تقلّب مزاجك 180 درجة، دفعة واحدة.

مقالات

لا للتطبيع

يمتاز المثقف عن السياسي في مضمار التعاطي مع القضايا العامة (القضايا المتصلة بالدولة والمجتمع) أن السياسي قد يُغلِّب حالةً من الديماغوجيا أو البراجماتيا في اتخاذ هذا الموقف، أو إبداء ذلك الرأي تجاه هذه القضية أو تلك المسألة، أما المثقف فالمتوقع منه، أو المفترض فيه أن يكون أكثر احتكاماً إلى صوت العقل والضمير في مواقفه وآرائه؛ لأنه أكثر التصاقاً بالغالب الأعظم من الجماهير من جهة، ومن جهة أخرى يكون أكثر قلقاً وحذراً تجاه أحكام التاريخ والأجيال بهذا الصدد.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.