مقالات
حُمينيّات البردادي الضائعة!!
عرف الكثيرون من الباحثين والدارسين للأدب والشعر عامةً أن الشعر الحميني ارتبط ببعض الأسماء المعروفة والمتداولة على نطاق واسع من خلال الشاعر عبد الرحمن الآنسي الأب في ديوانه "ترجيع الأطيار في مرقص الأزهار"، الذي قام بتحقيقه عبد الرحمن الإرياني -الرئيس الأسبق- وعبد الله عبد الإله الأغبري أثناء سجنهما في نافع الرهيب بحجة.
وكذلك كان للشاعر أحمد الآنسي الابن ديوان في الشعر الحميني، وكان قد استهواهما، وتغنى الكثير من المطربين اليمنيين بقصائد مشهورة وذائعة الصيت لهما (الأب والابن) معاً.
وبطبيعة الحال، لعمل الاثنين في مجال القضاء في تهامة عامةً أكبر الأثر في تأثرهما بهذا اللون الجديد من الفن الشعري الحميني، وخصائصه ومقوماته، التي فيها الكثير من التحرر والتجريب على صعيد الوزن والقافية والقوالب الفنية.
كان هناك مشترك لغوي وشعري وشعوري بين اليمنيين، حتى على المستويات اللغوية والظواهر الأدبية العابرة للمناطقية والجغرافيا، التي تصل بعضها ببعض، حيث حدد الباحثون هذا اللون الشعري بأن منبعه وبيئته تهامة، وعلى وجه الخصوص المناطق المحيطة بزبيد وحيس وبيت الفقيه. وفي تهامة عموماً نشأت الكثير من التحيزات الأدبية؛ بحكم ميراثها الكبير من فقهاء وعلماء اللغة، الذين كان الشعر فيها زادهم اليومي، وظلهم الظليل.
ولذلك خرجت الكثير من الدراسات، التي تذهب إلى أن هوية الحميني تهامية، وأن تجربتهم مع الشعر الحميني، وكذلك الحكمي، هي مدماك هذا النوع من الشعر، مع أن هذا الشعر لم يُعرف -على وجه الخصوص- إلا بعد تجربة الآنسي الأب والابن، التي تفيض بالشجن والحنين إلى تهامة حين يكونان في صنعاء، وكذلك الحنين والشغف والشجن لصنعاء حين يكونان في تهامة.
وقد ظل الناقد عبدالله علوان الذبحاني ينظر لهذا النوع من الشعر، الذي يسمى تارة بالحميني وتارة أخرى بالحكمي (أي الشعر المحكم طوال عقد التسعينات) في ملاحق صحيفة الثورة وصحيفة الجمهورية، ومجلات: "اليمن الجديد" و"الثقافة"، و"مجلة الحكمة".
وبينما كان ذلك الشعر الحميني محل جدل كبير أواخر التسعينات، اقترح سمير اليوسفي -رئيس تحرير "الثقافية" آنذاك- البحث عن الموروث الشعر لشاعر يُسمى أحمد برداد (عاش حياته متنقلاً بين وادي الضباب، ويفرس "أحمد بن علوان"، وبعض قرى جبل صبر؛ مثل "طالوق" و"أدود").
هذا الشاعر عاش مع بدايات القرن العشرين تقريباً، وتميّز شعره بالغنائية، ووصف الطبيعة الخضراء الخلابة، التي نشأ بين جنباتها: الذين يعرفون الضباب وواديه القريب من تعز قبل عقود، حيث كان كأنه الجنة تجري من تحتها الأنهار.
هذه البيئة الساحرة، وهذا الوادي الخصيب، الذي يظل طوال العام يرفل بالخضرة، والجمال، والطقس الرفيف، والهواء العليل كبساط سحري متصل بجبل صبر العملاق، المفروش بالخضرة، وبكل أنواع الفواكه والبلس والتين والزيتون.. إلخ، ومن خلال نماذج من شعره كان أحمد برداد ابن بيئته بحذافيرها، وهي بيئة مشابهة تماما للبيئة التي أنبتت الموشحات الأندلسية الممطرة الخضراء، التي نحس بطبيعتها بمجرد سماعنا لشعره الرفيف الرقيق، الذي طبع نفس الشاعر بالفطرة، وبالجمال الكثيف والإبداع الساحر لنقل الطبيعة في شعره وكأنها حياة تتجسد، ولوحة ربانية عبقرية تكاد تنطق.
أحمد برداد هو اسمه المعرف في كل تلك الأنحاء من يفرس حتى قرى صبر، مرورا بوادي برداد. ولقد قمنا بتلك الرحلة المفعمة ذات صباح مفعم بالأمل، والعثور على موروث هذا الشاعر المجهول لدى الجميع تقريبا ماعد القليل، وصادفنا عددا من الناس يحفظون شعره، الذي سارعت إلى تدوين بعضه، لكن ذلك كله لم يروِ ظمأي كباحث بعد أن خضت تجربة طويلة مع شعر الفضول عبد الله عبد الوهاب نعمان، واكتفيت بالبحث عن الأسرة، أو الشخص الذي يمكنني أن أعثر لديه عن أعمال الشاعر الكاملة مكتوبة كمخطوطة، فليس من المعقول أن هذه البيئة لم يكن لديها معرفة بالتدوين مقارنة بتهامة وغيرها، وخاصة أن كثيرين كانوا يقرأون ويكتبون، وخاصة لشعر بهذا المستوى الذي سمعناه.
خرجت بعدد من النصوص، التي تعد بأصابع اليد، وهي نصوص سلبتني لبِّي من جمالها، وهول لغتها، وتصويرها الساحر للطبيعة!!
نشرت إحداها في صحيفة "الثقافية"، واحتفظت بالباقي على أمل أن تواتيني الفرصة بالمزيد من النصوص، وكانت كل الطُّرق -بكل أسف- مغلقة إلى ديوان هذا الشاعر الجميل.
ضاعت النصوص، التي جمعتها، بفعل التنقل وسنوات الحرب والنزوح، وفي لحظةٍ ما دخلت صفحة الشاعر محمد نعمان الحكيمي في "فيسبوك"، وعثرت على بضعة نصوص، ولم أعد أدري أين احتفظت بها، وحين عدت إلى صفحة الشاعر، وجدت تلك الصفحة، قد اختفت ولم تبقَّ معه سوى صفحة ليس بها ما يفيد، ولم يدخلها منذ سنوات.
ما دفعني لكتابة هذا المقال هو أن الشعر الحميني لم يكن خاصاً بمنطقة يمنية واحدة، ولكنه كان سِمة لفترة من حياة اليمنيين جميعاً في كثير من المناطق؛ نتيجة المثاقفة والقراءة، وخاصة أن ما يربط بين وادي الضباب هو وادي ابن خولان والوازعية ووادي زبيد الخصيب.
تواصلت، قبل أيام، مع الشاعر محمد حزام البردادي، الذي أحيا في نفسي العثور على ديوان الشاعر أحمد برداد، ووعد برحلة إلى قريتي "طالوق" و"أدود" في جبل صبر.
وما نريد قوله هنا: إن الشعر الحميني لم يرتبط بجغرافية ومنطقة معينة، لكنه كان ظاهرة شعرية معبِّرة في كثير من مناطق اليمن. وأود هنا أن ألفت الانتباه إلى أن تجربة الشاعر أحمد برداد الشعرية تشبه إلى حد كبير تجربة الشاعر عبد الله عبد الوهاب نعمان، فهل توافقت النفسان؛ وصوّرتا لنا كل ذلك الجمال.