مقالات
حينما رفض المرشدي الغناء للسعودية وملكها؟
في منتصف 1967م، وفي مرحلة اشتداد الصراع بين الجبهتين "القومية" و"التحرير"، في مدينة عدن قبل الاستقلال، اضطر الفنان محمد مرشد ناجي المغادرة إلى تعز، أثناء موجة الاغتيالات، على أمل الهروب من الوضع الملتبس، خصوصاً بعد تصنيفه سياسياً بشكل مغلوط، وهو أمر سيعاني منه طويلاً فيما بعد.
يقول في مذكراته (صفحات من الذكريات)(*):
"ركبت سيارتي إلى مدينة تعز (مقر قيادة جبهة التحرير). مكثت فيها أياماً، ولم يسأل عنّي أحد، فتوجّهت إلى صنعاء، والتقيت بالصديقين الوفيين قاسم الرماح وأحمد يوسف النهاري، وقضينا أوقاتاً ممتعة، ثم زرت الصديق جبر بن جبر، الذي كان وقتها وكيلاً لوزارة المالية، وأمر لي براتب، وكان كبيراً في ذلك الوقت، وخجلت أن أقول له إنه قد يكفيني لوحدي في تعز، ولكن كيف الأسرة؟ ولم أستلمه. {كان وقتها قد ترك أما وثمانية أطفال في عدن في ظرف صعب}".
ويقول: "وبعد تفكير صعب اهتديت إلى زيارة المملكة العربية السعودية، لعلّ زيارتي الأولى لها تفتح لي مجالاً للتسجيل لإذاعتها، مضافاً إلى ذلك بيعها التسجيلات الجاهزة التي كانت بحوزتي، ريثما تنفرج الأزمة في عدن، ويتحقق الاستقلال الذي كان وشيكاً، ولكن سرعان ما تلاشى الحلم اعتماداً على الأخبار التي كانت تردني في صنعاء بأني في القائمة السوداء {لدى الأجهزة السعودية}، بسبب الأغاني!! وعزمت على السفر إلى السعودية عن طريق أثيوبيا لوجود أصدقاء كثيرين فيها من أهل النفوذ، بعد أن بعت سيارتي الجديدة للأستاذ عبد الله عبد الوهاب نعمان".
في أثيوبيا تحصّل المرشدي على تأشيرة بواسطة الشيخ محمد باحكيم - أحد قيادة الجالية في أديس أبابا، لمعرفته بالسفير.
في الطائرة، التي أقلّته إلى مدينة جدة، تعرّف بالشيخ الشبشكي الذي كان يسمع عنه ويرى صوره بالجرائد، كما قال، والذي أنزله بفندق محترم أغلب عمّاله من اليمنيين، الذين أحاطوه بالرعاية الكاملة، التي كان لا يتوقّعها، وزاره الكثيرون بعد أن نشر عبد الحميد الشبشكي في الجرائد خبر وصوله إلى جدة، ومنهم الفنان أحمد يوسف الزبيدي، والشاعر علي عبد العزيز نصر، وأحد أصدقائه القدامى واسمه أحمد سيف المفلحي، الذي كان وقتها في جدة مبتعثاً من حكومة الاتحاد في عدن، ورافقه إلى مدير الإذاعة، الذي استقبلهما ببشاشة وترحيب، وقال له إن الأمر مقبولٌ بشقيه "التسجيل والبيع".
يضيف المرشدي: "ناولته النصوص والقصائد، وعددها ثمانٍ، للتسجيل مع فرقة الإذاعة، والأشرطة المسجّلة عليها الأغاني، وقال مدير الإذاعة: المسألة إجراء روتيني -إجازة القصائد والاستماع إلى الأغاني المسجّلة، وسوف استعجل الإجراءات، وتأتيني بعد يومين"
بعد يومين عاد المرشدي إلى مدير مكتب الإذاعة (يحيى كتوعة)، الذي كان أكثر بشاشة في الاستقبال، حيث قال للمرشدي: أهنؤك على هذا الحب الذي تحظى به في الإذاعة، وخاصة الفرقة الموسيقية، وأنهم في شوق إلى التعرّف عليك.. النصوص مجازة، وسنشتريها، وتقييمك عندنا كمطرب في درجة الصف الأول، ومعنى ذلك أن المبلع سيكون كبيراً، وعملنا لك استثناء بالنسبة للأغاني المسجّلة كإنتاج متوفّر..".
يقول المرشدي: "كنت أتابع المفاجآت بفرح، ثم بدد الأستاذ يحيى هذا الفرح، وأحاله إلى حزن شديد وكآبة، عندما قال:
وأخيراً لك عندي مفاجأة كبيرة لا تتصورها، وهي أن تسجل لنا أغنية للمملكة؛ إما أن تكتب كلماتها، أو نعطيك الكلمات. وأردت أن أرد فقاطعني قائلاً: انتظر، ليست هذه المفاجأة؛ إن هذه الأغنية ستجزى عليها بمفاجأة خاصة لا تخطر على بالك، سأقدم لك الشيك، وأنت اكتب الرقم الذي تريده!!
وقلت في نفسي يا للهول!! وأفقت على سؤاله: ها.. ما رأيك؟ قلت، وأنا لا أريد أن أخسر المال الحلال، شوف يا أستاذ يحيى المفاجأة حقاً جميلة كبيرة وأشكركم، إنما بدا لي واضحاً أن تقديري لديكم أكثر مما استحقه، وأنا يا سيدي الفاضل مجرد هاوٍ للغناء وتلحين القصيدة قد يأخذ مني أشهراً، حسب التساهيل، وأنا هنا إقامتي قصيرة".
يورد المرشدي تفاصيل الحوار مع "كتوعة"، ومنها إصراره على تسجيل الأغنية، وليأخذ الوقت الذي يريده ضيفاً على الإذاعة، ثم أخرج له تسجيلات من دُرجه للأغاني الوطنية التي أداها المرشدي، وأرفقها بقوله: "اسمح لي.. أيش معنى السلال والأناشيد التي لا حصر لها، بماذا تفسر ذلك؟".
وحتى يتخلّص المرشدي من هذا الموقف، قال لكتوعة إنه موظف في شركة بريطانية في عدن، وإجازته على وشك النفاد، وإنه سيأخذ القصائد معه، وفي الإجازة القادمة سيحضر مبكراً للتسجيل.. لم يقتنع، وقال له: "روح وفكّر في الموضوع، ولا تضيِّع فرصة كهذه!!".
وحينما سأله المرشدي عن الأغاني المباعة، والمرغوب تسجيلها بحسب موافقته السابقة؟ رد عليه: "شوف مدير قسم الموسيقى لترتيب الموضوع".
وحينما التقى بمدير الموسيقى واسمه "باعشن"، قال له: "لا تتعب نفسك يا أخي قبول أغانيك مرهون بتسجيل أغنية للمملكة".
يقول المرشدي: "أخذت بضاعتي ومشيت أنا وصاحبي، وكان الاستغراب بادياً على محيّا مدير الموسيقى، لعل الموقف ليس مألوفاً، وكان له صداه في أروقة الإذاعة، لا سيما والإغراء المادي كان كبيراً. وكان أحدهم قد مر بجانبي عند خروجي ورمى بكلمة أراحتني(*)، وكان هذا الموقف هو أول مواجهة لي مع المال الحرام".
(*) صفحات من الذكريات، محمد مرشد ناجي، منشورات جامعة عدن، الطبعة الأولى 2000- أنظر الصفحات 60-63.
(**) قال له "أنت كبير يا أبو علي".