مقالات
حين تتشخص المشكلة بعيداً عن السيولة العاطفية!!
مع حلول ذكرى 22 مايو من كل عام، يزداد جدل اليمنيين حول أهم حدث سياسي مرَّ في تاريخهم المعاصر، وإن الكتابات، التي تترافق معه، تحاول قدر استطاعتها تشخيص المشكلة، التي قادت إلى هذا الوضع الكارثي..
يتفق الجميع -مثلاً- أن الوحدة هي تراكم لنضالات الحركة الوطنية اليمنية منذ سبعة عقود، وهي قبل أن تكون حنيناً عاطفياً للنخب والمجتمع معاً، هي في الأصل ناظم لمشرع دولة قوية تحافظ على تنوّع وتعدد جغرافية شاسعة، لو قُيض لها الاستقرار لخلقت النموذج الأبرز في المنطقة؛ غير أن الممارسات الخاطئة ونوازع الابتلاع والاستبداد حرفت مثل هكذا مسارات.
خلال الفترة القليلة الماضية، تواصلت مع عدد غير قليل من المثقفين والكُتاب والمهتمين بالشأن العام، من شمال البلاد وجنوبها، لاستجلاء آرائهم في جزئيتين اثنتين: الأولى تتصل بالعثرات، التي رافقت دولة الوحدة بعد ثلث قرن من قيامها، وما مستقبلها في ظل التفكيك المريع لحال الدولة؟، في مسعى ملف متنوع عن الوحدة اليمنية، تنشره منصة "خيوط" استكمالاً لملفات سابقة، سبق نَشرها عن التاريخ السياسي للثورة اليمنية (سبتمبر وأكتوبر ونوفمبر).. اتفق الجميع تقريباً أن مستقبل الوحدة بعد كل هذا التجريف غامض تماماً في ظل غياب الحامل السياسي والقانوني للمشروع، ونعني هنا الدولة، التي صارت في خبر كان بعد استنبات العديد من سلطات الأمر الواقع في جسمها وخارجه.
يقول الكاتب طاهر شمسان: "مستقبل غير واضح، وتتداخل في هذا الآمر إرادات كثيرة متضاربة، ولا يبدو حتى الآن أن الأطراف ستصل إلى اتفاق حول الدولة".
وعن مشكلة الوحدة يقول: "إنها لم تقم منذ البداية على دمج مؤسسات الدولتين، وإنما قامت على الجمع الميكانيكي بين المؤسسات، أو على المجاورة في المكان. كمثال على الجمع الميكانيكي، يمكن أن نشير إلى البرلمانين اللذين جُمعا تحت قبة واحدة؛ وكمثال على المجاورة نشير إلى وحدات الجيش التي تجاورت مكانياً في مناطق تموضعها".
السفير السابق عبد الله الحنكي يرد المشكلة إلى مآلي نظامي الحكم في اليمن يومذاك ؛ حين بلغا مآلا قاسيا مع تباين ما انتهيا إليه.. ففي الشمال بلغ نظام الحكم أعلى مراحله الاستبدادية بفعل عوامل كثيرة محلية ودولية، فيما بلغ نظام الحكم في الجنوب أدنى مراحل ضعفه وتفكك نسيجه الاجتماعي والسياسي؛ أولا بسبب آثار فاجعة 13 يناير 68 الكارثية، التي زعزعت كل ما قام عليه من أعمدة بصرف النظر عن مدى تفاوت نسب قوتها، وثانيا بسبب فقدان دعم السند العالمي الوحيد الذي اعتمد عليه، وبالكامل تقريبا طوال تجربته الماضية في ربع قرن. من هنا، يمكن تصوّر أي نوع من الوحدة كان متاحا تحقيقه في ظل هذا الاختلال الشامل.
نظام في الجنوب ضعيف مفكك تفتت مكوّنه الوحيد ذي الصوت السياسي الواحد إلى أدنى ذرات التفتت، وترك وحيدا بلا حليف، فضلا عن كونه مسخوطا عليه في النظام الرسمي العربي، بمواجهة نظام في الشمال زاد غرورا وصلفا بانفراد حليفه الدولي في قطبية العالم.
الباحث "فؤاد مسعود" يحدد المشكلة بالضبط من انقسام القوى اليمنية بين موقفي الطرفين: الطرف الذي رأى أن الانفصال جريمة وخيانة، تهون الحرب من أجل مواجهته، وفي الجهة المقابلة الطرف الذي رأى أن الحرب هي الأخرى جريمة، يمكن أن يسهم الانفصال في التصدِّي لها والتخفيف من وطأتها.
ومن رحم هذا الجدل تخلق رأي جديد يبدو أكثر عقلانية وأقرب منطق، ومضمونه التنديد بالحرب ورفض الانفصال، وهو الرأي الذي بدأ بجملة مواقف لعدة شخصيات سياسية حزبية ومستقلة، لكنه قُوبل بالرَّفض والتخوين من الطرفين، طرف الحرب رأى أن هذا الموقف يتماهى مع الانفصال، وطرف الانفصال اعتبر أن هذا الموقف ينطوي على التواطؤ مع الحرب والاصطفاف مع الطرف الذي قادها.
السفير والبرلماني فيصل أبو رأس أرجع المشكلة إلى عوامل خارجية صرفة حين قال: "تعثرت الوحدة لأسباب موضوعية وغير موضوعية، وعوامل داخلية وخارجية عديدة، والخارجي -من وجهة نظري- وأعني به هنا الجوار؛ مثل التحدي الأكبر أمام قيام الوحدة بين اليمنيين، وإن كتب لها أن تقوم سخر لإفشالها إمكانياته وقدراته وعلاقاته، حتى وإن تتطلب الأمر شن الحرب عليه لتقسيمه وتقاسمه؛ ليتحكم به بالمباشر وغير المباشر، لأن بيئة الجزيرة وتركيبتها وسياسة أنظمتها المتماهية والمرتبطة منذ النشأة مع حلفائها الغربيين، ومصالحهم المشتركة في المنطقة، لن تسمح بقيام يمن قوي وموحّد مترامي الاطراف، وموقعه الإستراتيجي المتميِّز، وتعداد سكانه وتنوّع ثقافاته وثرواته.
الدكتور عبد الله عوبل – وزير الثقافة الأسبق يرى في المشكلة أن الوحدة أصلاً لم تكن لترضي طموحات القوى التقليدية وقوى النفوذ والسلطة، إذْ كان دستور دولة الوحدة يحفل بالكثير من الحقوق للمواطنين، وكان دستورا يُؤسس لدولة ديمقراطية حقيقية. الأمر الذي أفزع قوى النفوذ (الدولة العميقة)، من تعاظم دور الدستور والقانون والقضاء على حساب العُرف، ودور القبيلة في السياسة والسلطة. لذلك بعد حرب 94 مباشرة تم شطب أكثر من 80 مادة كلها تتعلق بحقوق المواطن، بينما تم إعطاء الرئيس صلاحيات مطلقة. كما أن تطبيق الدستور يعني رفع أيدي المتنفذين عن المال العام وممتلكات الدولة، بالإضافة إلى ما كان يبطنه كثيرون من قوى النفوذ في الاستيلاء على القطاع العام لدولة الجنوب والأراضي التي كانت ملكية للدولة.
الناشطة والوزيرة السابقة "حورية مشهور" تقول: "الخطأ الجسيم كمن في إدارة الوحدة بالعقلية العسكرية والأمنية والقبلية، التي أدار بها نظام صنعاء (الجمهورية العربية اليمنية ثم الجمهورية اليمنية)، وزاد الطين بلة إجراءات ما بعد 7 يوليو 1994، حيث إن زهو النشوة بالانتصار دعته إلى مزيد من الإجراءات التعسفية ضد أبناء الجنوب، التي مازالت تداعياتها وآثارها مستمرة حتى اليوم، وقد تداولت وسائل الإعلام خبر قرار رئيس المجلس الرئاسي د. رشاد العليمي بتسوية أوضاع 52 ألفا من المبعدين قسرا عن وظائفهم (مدنيين وعسكريين)، ومازال ملف تسوية أراضي الجنوب، والممتلكات العامة، المستولى عليها مفتوحاً لم يسوَّ بعد".
هذه عيِّنة من آراء بعض المنشغلين في قضايا الشأن العام حيال موضوع الوحدة، وواضح فيها أن النزوع نحو تشخيص المشكلة بعيداً عن السيولة العاطفية هو البارز في خطابها، وهذا يعني أن هناك عقلاً لم يزل يتعاطى مع المشكلة بوصفها قضية سياسية، نتج عنها مظالم كبيرة، ولا يمكن معالجتها أيضاً بخطوات تجزئية تعمِّق من المشكلة عوضاً عن حلها.