مقالات
دكان الطُّلِّيس (2)
مثلما كان الناس في السابق يتحدثون بانبهار عن دكان الطُّلِّيس صاروا يتحدثون بالانبهار نفسه، ولكن هذه المرة عن موزة زوجة الطُّلِّيس، وكانوا يقولون:
-"موزة من صدق موزة".
وبعد أن كان الحمَّار سيف أنعم يقول:
- "اللي ما شاف دكان الطُّلِّيس ما شاف الدُّنيا". صار يقول:
-"اللي ما شاف موزة ما شاف النسوان".
وسرعان ما اختزل الدكان في موزة، وصارت هي الدكان، وهي الكل في الكل، ولم تمضِ سوى أسابيع على وجودها في الدكان حتى حَمِي السوق، ونفدت البضاعة؛ لكثرة الطلب. وكان الطُّلِّيس سارح راجع إلى الراهدة يشتري بضاعة، ويحمِّلها فوق الجمال والحَمير إلى دكانه في حيفان، والدكان مليان مشترين ومتفرّجين، وخصوصا يوم السوق، حيث يقبل القرويون من كل القرى للتسوّق، وكانت موزة تلبِّي رغبات الزباين، وتنتقل من زبون إلى آخر.
أما أولئك الذين أتوا من أجل يتفرجوا عليها، فكانت توزع عليهم ابتساماتها، وكان ذلك يشبعهم ويرضيهم، فقد كان لها ابتسامة ساحرة، توزّعها على الجميع بدون استثناء، أما ضحكتها فكانت عملة صعبة، وكان الحمَّار سيف أنعم ما ينفك يقول عن ابتسامتها وضحكتها:
-"ابتسامة موزة قُرُوش وضحكتها جنيهات".
وعلى عكس عُلُوم، كانت موزة تمتلك الذكاء والخيال، وتعتبر نفسها أكثر من زوجة وتتصرف كما لو أنها شريكة في الدكان، وليس فقط شريكة في السرير، ولم تكن مثل عُلُوم تكتفي بالبيع أثناء غيابه، وإنما كان بمقدورها أن تتدخَّل وتقترح على الطُّلِّيس إدخال هذه البضاعة أو تلك. وعندما اقترحت عليه أن يدخل إلى دكانه أحمر الشفاه رفض اقتراحها، وكانت حجته هي أن النساء في القرى لا يعرفن كيف يستخدمن أحمر الشفاه، ولا وقت لديهن للزينة.
غير أن موزة اعتبرت جهلهن ميزة، وقالت له إنها لن تبيعه لهن، وإنما سيكون عليهن أن يجئن إليها لتقدم لهن تلك الخدمة.
ولم يكن بمقدور الطُّلِّيس أن يرفض اقتراحها، وكان على المرأة أو البنت التي تريد أن تطلي شفتيها بالأحمر أن تأتي إلى الدكان، وكانت موزة تأخذ منهن ثمن مواد التجميل، وثمن الخدمة التي تقدمها لهن، وبعضهن من فرحتهن بحُمْرَة شفاههن وتورُّد خدودهن كن يدفعن لها أكثر من المطلوب، وكان ثمة نساء يجئن من قرى بعيدة ونائية، وعند وصولهن الدكان يصلن متعبات ومنهكات، وبمجرد أن ترش موزة وجناتهن بالبودر، وتطلي شفاههن بالأحمر، ينتعشنَ ويتألقنَ ويتوهجنَ ويركضنَ في طريق عودتهن إلى قراهن كأحصنة السباق.
كان أحمر الشفاه له مفعول السحر، يفعل فعله فيهنّ، ويرفع معنوياتهن، ويقوي شعورهنّ بأنوثتهنّ، ويجعلهنّ في مزاجٍ رائقٍ ورائع. ومثل أولئك الذين ينتشون بعد أن يحتسوا كأسا أو كأسين من الخمرة، أو من النبيذ كان يحدث لهن مثل تلك النشوة، بعد أن تلوّن موزة شفاههن بالأحمر، وكن يفرحنَ ويمرحنَ ويضحكنَ من أعماق قلوبهن ضحكات مجلجلة ومدوّية، ويجتاح المزوجات منهن شوق عارم إلى أزواجهن الموجودين في عدن، والمغتربين خارج الوطن، ويتمنين لو أنهم موجودون بجانبهن ليروا جمالهن، وكم أصبحن جميلات.
وأما الصبايا فكان أحمر الشفاه يطلق سراح أحلامهن وخيالهن، وكن يشعرن كما لو أن أجنحة قد نبتت لهن، وصار بمقدورهن الطيران والتحليق بعيدا عن واقعهن، وعن القيود التي تكبلهن، لكن الأمهات والعجائز كن يتوجسن خوفا حين يبصرن شفاه بناتهن وحفيداتهن وهي مشتعلة ومتوهجة وأكثر احمرارا من جمرات مواقدهن.
وعندما أبصرت لُوُل شاهر ابنتها زينب عائدة من دكان الطُّلِّيس وقت المغرب وهي بشفتين ملتهبتين، ارتعدت فرائصها من الخوف، وصرخت في وجهها قائلة:
-" موذا -يا بنتي- تِتْحَوْمَري وقت المغرب!!".
- قالت لها زينب: "مو فيها -يمَّا- لو تِحَوْمَرتُ وقت المغرب!!".
- قالت لها أمها:
- "المغرب -يا بنتي- وقت خروج الجن، ولو جني أبصرك وانتي مُحَوْمَر شِحْسُبُك جنية، وشِقْفز يركبك".
أيامها كان هناك اعتقاد بأن اللون الأحمر لون الجن والشياطين، ولون جهنم، وأن الجنِّيات وحدهن من يطلين شفاههن بالأحمر. وكانت الأمهات والجدات قد شعرن بالرُّعب من أحمر الشفاه؛ كونه يزيل الفارق بين بنات الإنس وبنات الجن، وكثيرا ما كن يتألمنَ ويقلنَ إنه لم يعد بمقدورهن أن يعرفن -على وجه اليقين- ما إذا كانت بناتهن وحفيداتهن إنسيات أم جِنّيات، وكادت زوجة الحاج علوان تتجمّد من شدّة الرعب، عندما أبصرت شفاه بناتها الثلاث أكثر إحمرارا من جمرات موقدها، وقالت لهن، وهي ترتعد من الخوف:
-"والله لو أبصركن أبوكن لا يقتلني ويقتلكن".
كان دخول أحمر الشفاه إلى دكان الطُّلِّيس علامة فارقة وحدثا استثنائيا أثار موجة من السخط والغضب حتى إن فقهاء القرى أطلقوا عليه: "قلم إبليس"، وراحوا في خطب الجمعة يلعنون الطُّلِّيس من المنابر، ويحرضون ضده، ويقولون بأنه يبيع في دكانه "قلم إبليس".
ومثلما اعترضوا على خروج النساء للتسوق، وذهبوا إلى بيت الحكومة يشتكون، ويطلبون من القاضي غالب التَّنَكة -حاكم حيفان ورئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- أن يصدر
فتوى بمنعهن من الذهاب إلى الأسواق؛ ذهبوا إليه وطلبوا منه أن يصدر فتوى بتحريم أحمر الشفاه، وأن يمنع الطُّلِّيس من استيراد "قلم إبليس"، وكانت حجتهم أن النساء والصبايا اللاتي يطلين شفاههن بقلمه يعصين أزواجهن وآباءهن، ويتمردن على أولياء أمورهن، ويصبحن أقل حياءً وأدباً وحشمةً، وأكثر جرأةً ووقاحةً.
وكان أن استجاب القاضي غالب لمطالبهم، وأصدر فتوى بتحريمه، ومنع الطُّلِّيس من استيراده، وبيعه، لكن موزة ذهبت تشكو الحاكم إلى زوجته (شمس الحكومة)، ومن بيت الحاكم عادت ومعها فتوى مكتوبة بخط الحاكم وتوقيعه، تنقض فتواه السابقة. وتقول إن أحمر الشفاه حلال وليس حراماً، وأنه يجوز للمرأة أن تلون شفتيها بالأحمر، لكن فقهاء القرى بعد أن عرفوا بأن الحاكم بضغطٍ من زوجته (شمس الحكومة) خذلهم، ونقض فتواه السابقة، أسموه: "القاضي مغلوب".
لكنهم، وقد خذلهم الحاكم، راحوا يستقوون على النساء والصبايا، ويحرضون ضدهن أقاربهن، ويشيعون بأن أحمر الشفاه يجعل المراة تتهيَّج جنسيا، وتشتهي من يقبِّلها، ولو بالحرام. وقالوا إنه لا يجوز للمرأة ان تتزين، وتطلي شفتيها بأحمر الشفاه طالما أن زوجها غير موجود. وأما الصبايا فقالن إن من حق الأب أو الأخ أن يكوي شفتي بنته أو أخته بالجمر.
وعندما أبصر الحاج علوان بالصدفة إحدى بناته وقد طلت شفتيها بالأحمر، ثار وهاج، ولم يكتفِ بأن لطمها، وإنما أخذ الملقط والتقط جمرة من الموقد وكوى بها شفتيها، ويومها قال الفقيه سعيد:
-"لو كل الآباء مثل الحاج علوان إن الدنيا بخير".
لكن دكان الطُّلِّيس في عهد موزة كان قد توسع وكبر، وحقق أرباحا ما كان ليحققها بدون وجودها، والسبب أن موزة الشابة والجميلة كانت تجذب الزبائن كما يجذب المغناطيس الحديد، فضلا عن أن اقتراحاتها على الطُّلِّيس بتجديد الدكان، وبإدخال بضائع وسلع جديدة، أسهمت في تطور الدكان، وفي ازدهاره. وكانت ما تنفك ترصد وتتابع وتسأل القادمين من عدن عما ينقص الدكان، مقارنة بالدكاكين في عدن. وعندما يقولوا لها ما هو الناقص، وما هي السلع التي لا وجود لها، تطلب من الطُّلِّيس أن يذهب إلى عدن ويأتي بها. وكان الطُّلِّيس يعترض في البداية على اقتراحاتها، ثم ما يلبث أن يرضخ لها.
وبعد أن يذهب إلى عدن، ويجلب السلع التي اقترحتها، ويجني الأرباح من بيعها، يعترف لها بالفضل، ويقول لزبائنه إنه أعمى يرى بعيون زوجته موزة، ويفكر بعقلها، ويعمل بشورها، وأنها تفهم في التجارة أكثر منه. وكانت موزة تفرح حين يمتدحها، ويعترف بفضلها، لكنها كزوجة وأنثى شعرت، بعد مرور سنوات على زواجها منه، بأن صلاحيته كزوج انتهت، أو كادت، ذلك أن الطُّليس كان قد بات عاجزا عن مشاركتها مباهج ولذائذ الحياة الزوجية، وكان ذلك يزعجها ويوجعها، ويجعلها تتألم وتتحسر على نفسها وشبابها، ثم إن عدم حملها فاقم من شعورها بالندم. كان ما دفعها للزواج به هو شهرة دكانه، وعشقها لكل تلك الحلويات، وأصناف الشوكولاتا المعروضة بالدكان. أيامها كانت لم تزل طفلة تعشق الحلوى والطحينية والهريسة والشوكولاتا والبسكويت حتى إنها لم تلاحظ فارق السن بينه وبينها، وإنما لاحظت كم هي قريبة من فردوس حلويات الطُّلِّيس.
كان عمرها أربعة عشر عاما حين تزوجته وعمره أربعة وخمسين عاما.
وبعد مرور ست سنوات على زواجهما، كانت هي في ذروة شبابها، والدكان في ذروة مجده، فيما الطُّلِّيس كان قد دخل في طور التدهور، وكانت موزة قد بدأت تلاحظ ضعفه، وتلمس عجزه عن احتضان أشواقها، وتهدئة فوران جسدها العشريني، الذي يتغذى بالحلويات، ويمور بالرغبات.
وكان ما يقلقها هو أن الطُّلّيس صار يتهرّب من أداء واجبه كزوج، ويختلق الأعذار مثله مثل تلميذ بليد يتهرّب من أداء واجبه المدرسي، ومثلما كان يفعل مع زوجته عُلُوم صار يفعل معها، ويتركها تنام وحدها، وهو يظل سهرانا مع سِجل ديونه؛ يقلب صفحاته، ويحسب أمواله.
وكان أن بدأت تقلق على نفسها وعلى مستقبلها معه، لكن أمها حمامة كانت أكثر قلقا وأكثر خوفا، وكان ما يقلقها ويخيفها هو أن يموت الطُّلِّيس قبل أن يُحبّل ابنتها. وكثيرا ما كانت تنزعج من موزة حين تراها مهمومة بالدكان، ومسخِّرة كل وقتها له، وتقول لها:
-"يا بنتي -يا موزة- مو عليك من الدكان، المرة ما تحبل من الدكان، تحبل من زوجها".
وراحت أمها تنبّهها إلى أن الدكان دكان الطُّلِّيس وليس دكانها، وأنه لو حدث أن مات فإن أهله سيرثون الدكان من بعده.
وقالت لها إن عليها أن تحبل منه حتى يصبح الدكان دكانها.
قالت موزة، وقد حشرتها أمها في زاوية:
- "يمّا نفسي أحبل لكن مِنُو اللي شحبِّلني؟!".
قالت لها أمها حمامة وهي مستغربة من كلامها:
-"منو شحبلك -يا بنتي- غير الطُّلِّيس زوجك"!!.
لكن موزة ضحكت من كلام أمها، وقالت لها:
- "كيف شقدر يمّا يحبلني وهو شيبة دُقّةْ!!".
قالت لها أمها:
- "الحمل سهل -يا بنتي- والطُّلِّيس يقدر يحبِّلك، ولو هو شيبة".
وراحت أمها توبّخها، وتقول لها إن غرورها بنفسها وشعورها بأنها شابة وصغيرة وجميلة مقارنة بالطُّلِّيس زوجها هو الذي يجعل حملها صعبا، ونصحتها بأن تنسى فارق العمر بينها وبين زوجها، وتنسى نفسها، وتنسى كل شيء حين تكون معه.
وراحت أمها حمامة تحكي لها كيف أنها عندما كانت ترغب في الحمل تدخل على زوجها وهي بكامل زينتها، وتتباسط معه، وتلاعبه، ولا تشعره بفارق العمر، وتطلب منه أن يحبّلها، وكان هو يلبِّي لها طلبها ويحبِّلها بسهولة.
وسألتها موزة: "من صدق -يمّا- والا تكذبي!!".
قالت أمها: "من صدق -يا بنتي- مو اكذب!!".
ونصحتها أمها أن تجرّب وتدخل على الطُّلِّيس، وتفعل معه ما كانت تفعله هي مع أبيها.
وعملت موزة بنصيحة أمها ودخلت عليه وهي بكامل زينتها وأنوثتها، وجلست جنبه وراحت تلاعبه وتداعبه، وتقول له:
-"أشأك الليلة -يا طُلِّيس- تحبلني".
وتفاجأ الطُّلِّيس بكلامها، وقال لها، وهو لا يكاد يصدق ما سمعه:
- "مو تقولي يا موزة؟!".
وأعادت موزة على مسامعه الكلام نفسه، وهي انها تريده أن يحبِّلها. وليلتها شعر الطُّلّيس بحالة إلهام تخرجهُ عن طوره، حتى أنه نسى نفسه، ونسى الدكان، وقذف بعيدا بسجل الديون، ونهض من مكانه، ودلف إلى غرفة النّوم، وقد فرغ عقله من كل شيء، ومن كل هم، ولأول مرة منذ زواجهما شعرت موزة بأن الطُّلِّيس يجامعها بقلبه وروحه وبكل جوارحه.
وبعد مرور أشهر، وقد انتفخت بطنها، راح الناس يذيعون الخبر، ويقولون:
- "الطُّلِّيس حبّل موزة".
وبسبب حقد الفقهاء عليه، راحوا يشوشرون، ويؤكدون باستحالة أن تكون موزة قد حَبلت من زوجها الطُّلِّيس، وقال الفقيه سعيد:
-"الله أعلم من هو الملعون الذي حبّلها".
وعندما عرفت "شمس الحكومة" زوجة الحاكم بأن الطُّلِّيس حبّل زوجته موزة جُنَّ جُنُونها، وثارت ثورتها، وقالت لزوجها الحاكم:
- الطُّلِّيس حبّل موزة، وانت ولا قدرت تحبِّلني".
ولكثرة ما راحت تعيِّره بالطُّلِّيس حقد الحاكم عليه، وزج به في الحبس بتهمة أنه يغش ويبيع في دكانه ما لا يجوز بيعه، وحين حضرت موزة وطلبت من صديقتها شمس الحكومة أن تتدخل لإطلاق زوجها من الحبس، تفاجأت بأن زوجة الحاكم مع حبس زوجها.
وحدث بين المرأتين تراشق بالكلمات، وقالت موزة لها:
-"انتي يا شمس حسدتيني لأنني حبلتو، وزوجك الحاكم حسد الطُّلِّيس زوجي؛ لأنه حبّلني".
وزعلت شمس الحكومة من كلام موزة، وأعادت على مسامعها الكلام نفسه الذي قاله الفقهاء، وهي أنها لم تحبل من زوجها الطُّلِّيس، وغضبت موزة، ووثبت مثل النمرة فوق زوجة الحاكم، وحدث بين الصديقتين عراك بالأيدي وتراشق بالكلمات أنهى ما كان بينهما من صحبة وصداقة، لكن موزة بعد حبس زوجها، وبعد الكلام الذي أشاعه الفقهاء، وسمعته من زوجة الحاكم، لم تنكسر وكان مرورها بتجربة الحمل والولادة قد أنضجها.
ومثل أمها حمامة، صار لديها يقين بأن كل شيء سهل وبسيط، ولا يوجد ما هو صعب في الحياة، ثم إنها بعد أن حملت، وأنجبت، شعرت بعاطفة قوية تجاه الرجل الذي أحبّها وحبَلها، وجعل منها أُمّاً.
وعندما قيل لها إن خروج زوجها من الحبس أمرٌ صعب كان ردها:
- "سهل، سهل، كل شيء بالسّهالة".
وبسهولة خرج الطُّلِّيس من الحبس، لكنه خرج ليواجه وضعا هو الأصعب.*
- للدّكان بقية...