مقالات
دوامة البهتان
بالرغم من الانتشار الهائل لمصادر المعلومات الصحيحة، إلا أن معظم الناس لا يزالون يستقون معلوماتهم من مصادر غير موثوقة. فإما يتهافتون وراء الإشاعات والأقاويل وثرثرات مجالس القات، وإما يلهثون خلف مراجع ضعيفة الحُجَّة أو مصادر ركيكة السند.
فاذا ما شاعت مقولة أو حكاية أو واقعة بين الناس، وصدَّقوها على نطاق واسع، فإنها تصبح حقيقة مؤكدة، بل أن بعضها يرقى أحيانًا إلى مصاف الحقائق التاريخية. ولعلَّ ذلك الاعتبار ما تأسَّست عليه المقولة الشهيرة لـ "نابوليون بونابرت": إن التاريخ سلسلة من الأكاذيب أتفق الناس على تصديقها". أما "جوزيف جوبلز" وزير الدعاية النازي الأشهر فقد قال يومًا: "كلما كبرت الكذبة سَهُلَ تصديقها!".
إن معظم ما يُنشر اليوم ويُبث على وسائط الميديا ووسائل التواصل الاجتماعي لا يعدو عن كونه أكاذيب تكرَّرت وتضخَّمت في العيون والآذان حتى بلغت الأفهام وسيطرت على الأدمغة فصدَّقها الناس كحقائق لا يأتيها الباطل من قُبُل ولا الزيف من دُبُر. "جوبلز" نفسه يقول: " اكذب واكذب حتى يصدِّقك الآخرون “!
في مشهدٍ آخر على صِلَةٍ بصُلْب الموضوع، تجد كثيرًا من الناس يتزوَّدون بالمعلومات التاريخية - عن الشعوب والدول والشخصيات والأحداث ... الخ - ليس من الكتب والمراجع ذات الحُجَّة التاريخية والرصانة الأكاديمية والأمانة العلمية، بل من مصادر يشوبها الشكّ بالجُملة والتجزئة على السواء (كأفلام السينما ومسلسلات التلفزيون كمثال)!
ويُصادِف أن تُتابع وقائع فيلم أو مسلسل فتكتشف أن ثمة خطأً تاريخيًا فادحًا أو أكثر يتوافر في هذا العمل الدرامي، وتتأكد تمامًا من حدوث ذلك الخطأ بالرجوع الى المصادر الموثوقة. كمثال على ذلك: كنتُ منذ أسبوعين أشاهد عمل درامي في إحدى القنوات المصرية الشهيرة، تجري أحداثه في فترة الجاهلية ومطلع الإسلام (أي فترة النبي محمد) فاذا بأحدهم يُردِّد أبياتًا شعرية على أنها مما ساد في تلك الفترة فيما هي لشاعرٍ لم يولد إلا في عصر دولة بني أُميَّة!
لا أتذكَّر الآن من القائل" القارئ كالحالب، والسامع كالشارب" ولكنها عبارة تُشير الى ضرورة اتباع الأفكار وتقصِّي المعلومات من مناهلها الأصلية، ومنابعها الصحيحة، فمن حلبَ عرف تماماً من أين جاء اللبن، أما من شربه فلا يدري على وجه الدقة.
وفي وسائط التواصل الاجتماعي تجد مواقعَ وصفحات توحي إليك بأنها متينة المصدر وسليمة المحتوى، فيما هي تكتظ بأقوال وأفعال منسوبة إلى حكماء وفلاسفة وزعماء وعباقرة، إذا ما تحرَّيت الدقة في نسبة تلك الأقوال إلى أصحاب تلك الأسماء، تأكدت أنها زائفة تمام الزيف، فلا قال أولئك المشاهير تلكم العبارات ولا يحزنون!
وعلى هذا المنوال تجد أبياتًا من الشعر منسوبة الى شعراء - في قديم العهد وحديثه - فيما هم لم يقولوها قطّ، ولو وجدوا قائليها الحقيقيين لضربوهم بالنعال على قُفِيّهم!، وأعرفُ ما قاله عبدالله البردّوني وعبدالعزيز المقالح ونزار قباني - على سبيل المثال - من قصائد طوال في مسيرتهم الشعرية، قرأتُها كلها وأحتفظُ بأغلبها. وتكاد لا تمُرّ بضعة أيام أو أسابيع حتى أُطالع في الميديا أو الفيسبوك أو جوجل أشعارًا منسوبة لأحد هؤلاء الشعراء الكبار زورًا وبهتانًا.
ولا أدري ما الداعي إلى مثل هذي الألاعيب السخيفة؟ هل أراد أصحابها أن يضمنوا لها الرواج إذا ما قُورنتْ بأسماء شعراء كبار ومشهورين؟ أم تُرى الدافع أخطر وأحقر من مجرد استجلاب شهرة زائفة؟!
وتظل الخطورة الأكبر في تحصيل المعلومات من مصادر خادعة، فتتراكم معلومات الزيف وأفكار البهتان حتى تتحول الى حقائق تُصدّقها الأجيال، ما يعني ضرب الحقائق الصحيحة في مقتل، وبالتالي تزييف الوعي الجمعي للأمة تجاه عديد من القضايا والمفاهيم، وبضمنها بل وأخطرها التاريخ.