مقالات

"ديوان السعادة" ورسالة أم كلثوم!!

17/02/2024, 11:01:37

هذا ليس ديوانا اعتياديا، كما قد يتبادر إلى ذهن القارئ؛ هذا منبع نغم يجمع كل أسبوع عدة فنانين، يثرون جلساته بأغانيهم ونغمات أوتارهم، وتعرض أغانيهم على موقع الديوان في منصات التواصل؛ ملتقى فني في واحد من أهم  بيوت الفن في اليمن، لا في صنعاء فحسب.

بقعة ضوء ترسل موجات الطرب كل أسبوع لكل متذوقِّي الفن والغناء اليمني، لا فقط من يحالفهم الحظ بالحضور في بهاء ديوان يستقبل أسبوعياً فنانين شبابا، ويقدمهم، ويتيح لهم الفرصة للجلوس مع مهتمين بالفن اليمني، ومُلمين بأنواعه وأشعاره، وتاريخه الثري والمتنوّع.

كان يوم أمس الجمعة موعد جلسة خاصة استثنائية في ديوان السعادة؛ احتفى فيها الحاضرون بفنان قديم يعتبر واحداً من جيل الرواد، وإن لم ينلْ نفس شهرتهم وانتشارهم.

الفنان نبيل علوي علامة فنية مميزة في مدينته (إب)، عاصر مراحل الفن اليمني في فترات توهجه، منتصف القرن الماضي، ويتميز بشخصية تجمع الثقافة الفنية العالية مع التواضع الجم، تلحظ من أول لقاء معه أن ذلك ما يميّز شخصيّته.  

جاء الفنان نبيل علوي بنكهته الإبية المميزة إلى صنعاء؛ لتلبية دعوة قُدمت له للحضور والالتقاء بمجموعة من الفنانين في ديوان السعادة؛ لإحياء يوم فني تتناوب فيه الأغاني مع مداخلات الحاضرين عن التراث الغنائي اليمني، والموشحات اليمنية، والفلكلور والألحان وأنواع الغناء في الفن اليمني، الذي يتميز بأنه الأكثر ثراءً وتنوعاً وغنًى.

عندما يغني نبيل علوي تشعر أنه يعود بك إلى زمن الفنانين الكبار، زمن كان الفنان فيه تتلبسه الرهبة من كُثر ما يكنه للفن من احترام وإجلال. تقدير للفن تحس معه كأن الفنان يتحاور مع ذاته، بالكلمات والنّغم ورنين الأوتار.

تلفت يميناً في «ديوان السعادة» وبجانبك ترى الفنان المتألق عبدالرحمن السماوي ببسمته المشرقة، التي لا تفارق وجهه، وهو يغني، وهو يتحدث، وحتى وهو صامت لا تلحظ أنها تنطفئ لتترك وجهه لتعبير مختلف. لا أحد من جيل الفنانين الشباب قادر على تمثل روح الفنان علي الآنسي وطبقاته الصوتية، كما يفعل عبدالرحمن السماوي.

صوت شجي كصوت عبدالرحمن السماوي بإمكانه أن يحول «ديوان السعادة» إلى منفذ تسافر فيه عبر الزمن، وفي وجدانك يتردد صوته مُستحضراً روح الآنسي ونغمته العالية، وهو يترنم بكلمات واحد من أهم شعراء الأغنية اليمنية: الراحل الكبير مطهر الإرياني، ومعلقته الشهيرة «الحب والبُن»:
طاب الجنى يا حقول البُن يا احلى المغاني
يا سندس اخضر مطرّز بالعقيق اليماني
يا سحر ما له حدود في الكون قاصي وداني

تلفت يساراً وبجانبك الفنان الشجي رشدي الماريو، شفاه الله وكان في عونه، وهو يصارع «المرض الخبيث» ويتعافى منه، متسلحاً بروحه المتقدة بالإيمان، والمُخصبَّة ببذور الفن وأغصانه المزهرة في قلبه ووجدانه. يترنم بأغنية «مخلف صعيب»، وموالها الافتتاحي الشجي، كأنه يستنهضها من أعماقه المتماهية مع روح الأرض اليمنية.
لا أحد يجرؤ على تقليد المرشدي، وبالذات في واحدة من ذرواته التجديدية؛ لكن رشدي الماريو يفعلها، بل ويدهشك أداؤه لأغنية «مخلف صعيب» بالعود، ومعه تفوح نكهة اليمن، تتسرب من بين الكلمات والأوتار لتملأ المكان بصوت الماريو:
شوق الصباح اشراقته شجونك
يمحي الغسق يمحي الضباب حنينك
تاج النهار ويعكسه جبينك
الهام أحلامي بريق عيونك

الفنان الشاب أسامة المقدم واحد من أبرز المواهب الشابة الجديدة، وعلامة مميزة في «ديوان السعادة». كان رأيي أن الفن يعاني من النضوب في «الأعبوس» بعد أيوب طارش وعبدالباسط العبسي، اللذين طبعا تعز واليمن كلها بنغمتيهما؛ لكن أسامة المقدم له رأي آخر. هذا الفنان الشاب يتميز بأداء فني وشخصية تنطوي على الكثير. موهبة أسامة، ومثابرته والهدوء الممتليء في  صوته؛ كل هذه السمات تؤهله لأن يذهب بعيداً، ويتجاوز كل المحاولات التي مثلها فنانون شباب خرجوا من الأعبوس؛ محاولين اقتفاء أثر أيوب طارش، وتكسرت خطاهم بعد مسافات قصيرة لم تتعدَّ إجادة العزف، وتكرار أداءات لا شيء فيها يوحي بشيء مختلف يمكن أن يسند طموح الفنان الشاب لتسجيل اسمه في قائمة المبدعين الكبار.

في «ديوان السعادة» رأيت رجلين على وشك إكمال عقدهما التاسع في الحياة، لكنهما لم يفقدا روح الشباب وشغفه. أحدهما هو الأستاذ عبدالله قائد، والد محمد، صاحب الديوان ومؤسسه. هذا الرجل هو من أدخل المطبوعات الكويتية إلى كل بيت في اليمن، وهو مالك شركة «القائد»، والوكيل الوحيد للمطبوعات والجرائد والمجلات المصرية والكويتية، وبينها إصدارات يتذكرها أجيال من اليمنيين، ويعرفونها كما يعرفون أنفسهم: مجلة العربي، كتب عالم المعرفة، الثقافة العالمية، وغيرها من مطبوعات كانت مصدراً مهماً لثقافة عدة أجيال في اليمن والوطن العربي.

بجانب محمد قائد سيف يجلس أمين درهم، رجل الأعمال العاشق للفن الذي ارتبط اسمه بأول شركة إنتاج فني أسسها في خمسينات القرن الماضي، وكانت هي الراعية لتسجيلات أغاني الفنان علي الآنسي في بيروت، وأسهمت في تقديم العديد من الفنانين في تسجيلاتها الفنية بداية من منتصف القرن الماضي.

أمين درهم إرشيف فني نادر، ليس في كونه عايش بدايات مرحلة الفن اليمني المعاصر، ويعرف تفاصيلها كما يعرف اسمه، بل لكونه أيضاً، وبسبب من شغفه بالفن واهتمامه به، يمتلك إرشيفا فنيا نادرا يعرفه الكثيرون من أصدقائه وجلسائه.

كل شيء يوحي بالفن والطرب في «ديوان السعادة» ، حتى جدرانه.
كان محمد قائد، صاحب فكرة الديوان ومؤسسه، يقف بجانبي حين أومأت باتجاه صورة كبيرة في صدر الديوان: من هذا الرجل الواقف في الصورة بجانب سيدة الغناء العربي أم كلثوم؟
رد بفخر: هذا جدي لجهة أمي، الأستاذ عبدالقوي محمد خليل، والصورة ليست عابرة. كان شغوفا بفنها الرفيع، وربطته بها صداقة شخصية ودية، وكان يحضر مواسمها الغنائية وحفلاتها. كانت هناك صداقة بين أسرته والفنانة أم كلثوم، ويتبادلون الزيارات. وهو من أسرة عدنية عريقة ارتبط اسمها بالفن، ومن أبرز الشخصيات التاريخية في عدن، وشقيقه هو رائد الأغنية العدنية الشهير خليل محمد خليل، ووالده هو من أنشأ «ندوة الموسيقى العدنية»، أول تجمع فني في عدن عام 1938. شاعر الندوة كان محمد عبده غانم، وملحِّنها خليل محمد خليل.

في مكان بارز بمكتبة في الديوان صورة رسالة تاريخيّة من سيدة الغناء العربي أم كلثوم، ومكتوبة بخط يدها، والرسالة موجهة إلى خديجة عبدالقوي خليل. هذه المرأة هي والدة محمد قائد، مؤسس «ديوان السعادة» بعد قرن كامل من تأسيس جده «ندوة الموسيقى العدنية» في عدن.

"هذه رسالة تستحق أن تقرأ": كتبت أم كلثوم بخط يدها تخاطب خديجة، ابنة صديقها عبدالقوي في عدن، تقول لها:
«إبنتي العزيزة الآنسة خديجة عبدالقوي خليل، لقد زارني والدك ووالدتك أثناء زيارتهما للقاهرة في أواخر عام 1960م. وقد أخبراني الشيء الكثير عنكِ، أولاً كسكرتيرة خاصة وأمينة صندوق لوالدك، وثانياً كراعية عامة لشؤون العائلة والمنزل. وأنك تقومين بواجبك في المنزل "كست بيت" من الدرجة الأولى. وتؤدين واجبك بكل دقة وحرص، واعتماد على النفس، الشيء الذي جعلني أُكبِر فيك هذه الروح العالية: ولأجله أتمنى لكِ من كل قلبي مستقبلاً باهراً في حياتك الخاصة والعامة، وأتمنى من الله أن أراكِ قريباً في القاهرة. وإلى الأمام يا ابنتي العزيزة.
                      أم كلثوم 23/ 1 / 61»

مقالات

أبو الروتي ( 10)

في أول يومٍ أذهبُ فيه إلى المدرسة (المعهد العلمي الإسلامي).. وفيما كنتُ أعبرُ بجوار السوق المركزي، وانعطفُ يساراً باتجاه "مدرسة السّيْلة" الابتدائية، شاهدت خمسة أطفالٍ شياطين يخرجون من الشارع الموازي للسوق المركزي؛ أربعة منهم بنفس عمري، وخامسهم أكبر مني، ومن أصحابه الأربعة، وكانوا جميعهم يشترون الرّوتي من فُرن الحاج، ويرونني هناك، لكن كبيرهم كان أول من لفت انتباههم إلى وجودي، وأول من صاح قائلا، وهو يشير إليَّ:

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.